كتابات

أصول الإبداع في الإسلام

بقلم محمد خير رمضان يوسف

يجد مصطلح (الإبداع) ومشتقاته وتوابعه صدى لدى المفكرين والمثقفين والأدباء والفنانين التشكيليين في عصرنا، والاهتمامُ به وتصنيفه وتشريحه وتهويله لا يتجاوزُ عمرهُ العقودَ القريبة الأخيرة من الحياة الثقافية الإنسانية، وتُبحث موضوعاته من خلال جِدَة تنبعث من فكر ينتج أمرًا جديدًا، فلا علاقة له بما مضى، والدينُ عند العلمانيين والحداثيين أبعد ما يكون عن ذلك، لأنه في نظرهم شيء سابق انتهى!.

والحق أن الاهتمام بالإبداع والحثَّ عليه موجود في نصوص إسلامية واضحة، منذ بزوغ فجر الإسلام، وهي لا تخصُّ ذلك العصر، بل تمتدُّ حتى آخر لحظة من لحظات الحياة التي يعيشها الإنسان في الدنيا.

من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره:

“من سنَّ في الإسلامِ سنَّةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عملَ بها بعدَهُ من غيرِ أن ينقصَ من أجورهم شيء”.

فهذا حثٌّ وتشجيع على الإبداع في الأفعال الحسنة، والأفكار الجادة، والأعمال الهادفة، والخدمات المفيدة، التي من الممكن أن تقدَّم للإنسان، وتزيد من لبنات البناء الحضاري، القائم على التبصر والإيمان.

ولا حدود لهذا الإبداع إلا أن يكون في حدود الإسلام، ولا زمن يقف حدًّا أمامه إلا الموت، فباب الأعمال الحسنة والإبداع فيها مفتوح على مصراعيه إلى يوم القيامة، ويلجه كل من أراد خيرًا ونفعًا للبشر.

والملاحظ في الحديث أن من أراد أن يسنَّ سنَّة (أي طريقة)، فينبغي أن تكون هذه السنَّة “حسنة”، ومصطلح “الحسنة” يمكن أن يختصر معناه بأنه “جماعُ الخير”، وهو كما في الآية (201) من سورة البقرة: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ﴾ [البقرة: 201]، فيمكن أن يقالَ إن الإبداع في القول والعمل يكون مقيَّدًا بالفائدة، وبموافقته الشرع، أو أن لا يتناقض مع الشرع. فإذا ناقض انطبق عليه الشقُّ الآخر من الحديث: “ومن سنَّ في الإسلامِ سنَّةً سيئةً كان عليه وزرها ووزرُ من عملَ بها من بعدهِ من غيرِ أن ينقصَ من أوزارهم شيء”.

وقد اختصر الإمام النووي في شرحه على مسلم (7/104) ما يرمي إليه الحديث بقوله: “فيه الحثُّ على الابتداء بالخيرات، وسنِّ السنن الحسنات، والتحذيرُ من اختراع الأباطيل والمستقبحات”.

وقال في موضع آخر منه (16/226): “الحثُّ على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سنِّ الأمور السيئة”.

ويعني أن الإبداع إذا لم يكن موافقًا لقواعدِ الشرع تحوَّل إلى (بدعة)، والبدعة هنا تكون ضلالاً، لا خير فيها، وإن بدت مزركشة، وهي كما في أعمالٍ إبداعية سيئة في عصرنا، كرسوم عُري، فلا فائدة منها، ولا قبول لها في الإسلام، وإن سميت (إبداعًا).

وسبب ورود الحديث أن رجلاً جاء بصُرَّةٍ كادت كفُّهُ تعجزُ عنها، فتتابعَ الناسُ، وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير، والفاتح لباب هذا الإحسان، كما قال الإمام النووي رحمه الله.

فكما أن لصاحب الإحسان إحسانًا، فإن لصاحب الشرِّ وزرًا وخسرانًا، فإن من ابتدع شيئًا من الشر، كان عليه إثمه وإثم كلِّ من اقتدى به في ذلك العمل، إلى يوم القيامة.

وقوله : “من سنَّ في الإسلام” أي: أتى بطريقة مرضيَّة يشهد لها أصل من أصول الدين (كما أفاده صاحب تحفة الأحوذي 7 /365).

وفي هذا تأكيد لمعنى الإبداع.

ومن الأمثلة على السنن الحسنة في صدر الإسلام ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من جمعه القرآن الكريم، فسنَّ بذلك سنة عظيمة لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال علي رضي الله عنه: ” أعظم الناس في المصاحف أجرًا أبو بكر رحمه الله، هو أول من جمع كتاب الله”.

لقد فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث باب الإبداع على مصراعيه، منذ فجر الإسلام، وحتى يوم القيامة، وهو عليه الصلاةُ والسلام مشرِّع.

ومثله الحديث الصحيح، عند مسلم وغيره: “من دلَّ على خير، فله مثلُ أجرِ فاعله”.

وكذا قوله عليه الصلام والسلام في المصدر السابق: “من دعا إلى هدًى، كان له من الأجرِ مثلَ أجورِ من تبعَهُ، لا ينقصُ ذلك من أجورهم شيئًا…”.

والقاعدة في قبول الإبداع كما قلنا هو ألاّ يخالف قواعد الشرع الحنيف.

ولا خير في إبداع لا فائدة منه، وفيه مضرَّة للإنسان، ومفسدة للحياة، ونشر للفاحشة. والمسلم ينأى بنفسه عن مثل هذه الأمور، التي تخالف مبادئ دينه.

بل إنه يُفهَم من الأحاديث السابقة أعلى درجات التشجيع على الأعمال الإبداعية المفيدة، ما لا يوجد مثلها في حياة الناس وإبداعهم، وهو أن كل من عمل بمثل ما قام به المبدع يكتب أجره له أيضًا، ولا يعني هذا أن ينقص من أجر عامله شيء.

إنه دين عظيم، إنه دين الحياة، والحضارة، والعلم. دين للشباب كما هو للشيوخ. دين العلم والفن والاجتماع والثقافة والاقتصاد والأدب والمعرفة..

وأخيرًا أخا الإسلام، هل تريد مثالاً قريبًا على الإبداع الحقيقي في الإسلام؟

أعني هل فكرتَ أن تضيف شيئًا إلى الحياة، يكونُ لكَ به أجر، وللمجتمعِ فائدة مؤكدة؟

إن أجلَّ عملٍ تقدِّمه أمام ذلك هو أن يهتديَ ضالٌّ على يديك، أو يُسلم كافر.

إن حياةَ ذلك المهتدي ستتبدَّل، ونفسيته ستتغيَّر تمامًا، وكأنه ولد من جديد، ويصبح عضوًا نافعًا في المجتمع، يدعو إلى دين الله الحق بحرارة وإبداع لا يوصف، ويعمل صالحًا، بدل الكفر والضلال الذي كان عليه.

وتكون بذلك سننت سنة حسنة، وكل من فعل ذلك فقد أبدع، وأضاف شيئًا جديدًا إلى الحياة. فالهداية ولادة جديدة.

إن الإبداع له طعم آخر في الإسلام.

إنه يَنشد النفع والفائدة، وليس نظريات فارغة، وكلامًا وجدلاً بدون هدف.

المصدر: الألوكة نت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى