لماذا نجتمع على الأموات

لماذا نجتمع على الأموات

بقلم أ. عباس شريفة

لمجرد أثر ضعيف شاع بين المسلمين تحول المسلمون من التأسي والاقتداء بالأحياء إلى التأسي والاقتداء بالأموات.

وهو الأثر الوارد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (مَن كانَ مُسْتَنّاً، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم).

والأثر رواه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله” (2/947ـ رقم 1810)، وفي إسناده ضعف

ورغم أن الأثر يخصص المقولة بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن عند الممارسة وقع المقتدون بثلاثة تعميمات:

1- الاقتداء بكل ما صدر عن الصحابة رضي الله عنهم حتى في الأمور الاجتهادية والدنيوية التي محلها النظر والاجتهاد.

2- والاقتداء بكل من مات من العلماء والصالحين بكل ما جاؤوا به.

3- والتعميم الثالث تعميم ظن التعرض للفتنة بكل الأحياء من العلماء والقادة والبقاء بدون رأس بحجة أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة بالرغم من أن كل ما ينقل لنا من الأموات إنما ينقل إلينا عبر هؤلاء الأحياء.

لكن رغم هذه التُّكَأَةِ الاستدلالية للبعض على هذا الأثر الضعيف، لا يخفى أن هذه التُّكَأَةَ ما هي إلا برقع يخفي من ورائه ميولاً نفسياً يدفع الكثير إلى الانفضاض عن الأحياء في حياتهم والالتفاف حولهم وترميزهم بعد وفاتهم، والمبالغة في ذكر محامدهم والتجاوز عن زلاتهم.

وربما يعود هذا الميول النفسي لعدة عوامل:

1- فقد يكون سبب التعلق بالأموات والكفر بالأحياء، نابع من طبيعة تكوين الإنسان، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي له قبر لتخليده معنوياً وتناقل آثاره.

ولذلك فتأثير الأموات في الأحياء أكثر من تأثير الأحياء في الأحياء.

إلى درجة أن الأموات هم من يفكرون لنا أكثر مما نفكر لأنفسنا ويرسمون لنا السبيل وهم في جدثهم راقدون ونأخذ باجتهاداتهم حتى في النوازل التي لم يشهدوها بالقياس على متونهم وآرائهم.

2- إن شخصية الميت أكثر قابلية للتوظيف السياسي والإيديولوجي من شخصيته وهو حي، فالميت لا يمكنه الدفاع عن نفسه فيما يقال عنه ويمكن لأي أحد تأويل كلامه إلى درجة يمكن أن تجد حزبين كل حزب يفهم الميت بطريقته الخاصة كما وقع ذلك في رموز كثيرة مثل سيد قطب وابن تيمية والغزالي وصلاح الدين وغيره.

وهنا يكون الالتفاف حول الأموات عبارة عن حيلة نفسية حقيقتها أننا نلتف حول أنفسنا وأفكارنا وذواتنا من خلال تحميلها لذلك الميت الرمز وتمريرها للوعي الشعبي من خلال إلباسها ثوب الرموز المقدسة لتكتسب أفكارنا قدسية خاصة يصعب على مخالفنا ردها.

3- أما السبب الثالث في ظني فيعود إلى ميل الناس عموماً إلى تكذيب المواقف التي لا ترافقها التضحيات عندما تأتي الفكرة ممن عاش ومات على فكرته وضحى في سبيلها – تكذيبها لا من حيث صوابها ولا من حيث صدقها – وهنا يستلزم ضعف الوعي الجمعي أن ننتظر موت الرمز في سبيل فكرته حتى نعتقد بصواب فكرته، وصدق حاملها، بدلاً من دراسة الفكرة والموقف بوعي خالص بعيد عن الحمولة النفسية والعاطفية المحيطة بها.

4- وأشير إلى أنّ من أسباب عدم تأثير الأحياء في الأحياء، هو تغلّب الحالة التنافسية والصراعية على التعاونية والتوعوية وجموح النفس البشرية فوق نظيراتها في ذات المكان وذات العمل والنضال، وعند الموت تنتفي التنافسية والغيرة وما يكون بين الندّين وإن كانوا في خندق واحد.   ولهذا قالوا قديماً في ترجمة الرجال أن كلام الأقران لا يقبل، بعضهم في بعض.

خصوصاً أن البعض يتعامل مع الرموز كحاجة اجتماعية وإيديولوجية من أجل تعصيب المجتمع فأنت مضطر أحياناً لاحترام الرمز ظاهرياً، والرمي بأفكاره ظهرياً.

ولا يمكنك إسقاط الرمز لأن الحاجة الاجتماعية لتعصيب المجتمع حول الرموز تقتضي المحافظة عليه.

وهنا لا بد من التمييز بين الاقتداء والتأسي الحرفي وبين الترميز، فالترميز يبقى حالة معنوية، أما الاقتداء فإنه تأثير عميق في التفكير والسلوك إلى درجة الذوبان في الشخصية.

ومن ثم فإننا بحاجة إلى الانتقال من الاجتماع على الأموات إلى الاجتماع على الأحياء.

 

ولا يعني ذلك أن نميت العظماء مادياً ومعنوياً، لكن ألا تؤثر حياتهم المعنوية فينا على أن نجتمع على من لا تصلح دنيانا إلا بالاجتماع عليه.

وبذلك فقد سبق الفقه الشيعي الفقه السني عندما أوجبوا اتباع الأحياء، وهذا الأمر ساهم في اجتماعهم على مراجعهم، خصوصاً أن تراث الأموات في النهاية لا ينقل إلينا إلا عبر الأحياء الذين يستوعبونها وينقلونها ويرونه في سياقه الصحيح.

إن اجتماعانا على الأحياء حاجة ماسة لا تقل عن اجتماعنا على الأموات لأننا بحاجة لإصلاح ديننا ودنيانا فإن كان الاجتماع على الأموات العظماء يصلح لنا آخرتنا، فإن دنيانا لن تنصلح إلا باجتماعنا على العظماء الأحياء، وساعة أن يقع في الفتنة فإن لنا عقولاً تميز الحق من الباطل.

(المصدر: رؤية للثقافة والإعلام)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى