الحلقة 4: نقض كلام جبرون في الاجتهاد والقياس والاستحسان | د. محمد عوام

الحلقة 4: نقض كلام جبرون في الاجتهاد والقياس والاستحسان | د. محمد عوام

ثالثا: الاجتهاد والقياس

       يقول جبرون: “باب الاجتهاد الذي كان يضيق ويتسع بحسب المصنفين ونزعاتهم المذهبية. ففي بعض الحالات، لا يتعدى الاجتهاد كونه قياسا على وضع سابق مشابه، يضيق مساحة الرأي إلى أقل درجة ممكنة، وفي حالات أخرى هو استصلاح واستحسان متحرر من النص، ومتصل بالعقل…إلخ، ومن ثم، عكس علم أصول الفقه في جوهره نزعة توفيقية واضحة، سواء في بداياته الأولى مع الشافعي أو مع من جاء بعده.”[1]

ونحن ندفع هذا الكلام بما يلي:

       أولا: هذا كلام ينبئ عن أن صاحبه ليس على اطلاع جيد بالمباحث الأصولية، ولا عن كيفية تطورها وتشكلها، حتى أصبحت مستقرة في ثلاثة قضايا كبرى، وهي التي عبر عنها غير واحد من الأصوليين عند تعريفهم لعلم الأصول، التي عادة ما يتطرقون إليها في مقدمات مصنفاتهم، وعلى رأسهم الإمام فخر الدين الرازي، قال معرفا علم أصول الفقه: “عبارة عن مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال، وكيفية الاستدلال بها،وكيفية حال المستدل بها.[2]

       فقول الرازي (وكيفية حال المستدل بها)، فيعني بذلك المجتهد، بمعنى من له صلاحية الاستنباط والنظر في النصوص الشرعية، فكان لا بد من معرفة حاله، وما ينبغي أن يتوفر فيه من شروط علمية. والناظر في المصنفات الأصولية يجدها قد أوعبت الكلام عن شروط الاجتهاد، لاسيما عند المتأخرين، حتى أدخلوا فيه ما ليس منه كمعرفة المنطق والكلام.

       والذي يعنيني هنا هو بيان الالتباس الذي وقع فيه الباحث، وهو كون الاجتهاد في “بعض الحالات، لا يتعدى الاجتهاد كونه قياسا على وضع سابق مشابه، يضيق مساحة الرأي إلى أقل درجة ممكنة” وهذا غير صحيح بهذا الإطلاق، ولو اطلع جبرون على مبحث القياس بتأن وتروّ –وما إخاله قد فعل ذلك- لألفاه داحضا لادعائه، فهو أي القياس محل إعمال الرأي، ومنبع العقل. وبالرغم من ذلك فهو عند المحققين من الأصوليين ليس دليلا مستقلا بنفسه، وإنما هو -كما بين الشريف التلمساني- لازم عن أصل.[3] فبهذا يكون القياس ضربا من الاجتهاد، وليس كل الاجتهاد، ثم هو قبل تقريره ينبغي الكشف عن العلة الجامعة بين الأصل والفرع، أو بين المقيس والمقيس عليه، وهناك طرق لمعرفة ذلك تناولها علماء الأصول في مبحث (مسالك التعليل)، وهي تنقسم عندهم إلى المسالك النقلية، والمسالك العقلية. وهي كلها طرق بها يتوصل المجتهد إلى معرفة العلة المؤثرة في الحكم. من هذه المسالك العقلية: مسلك المناسبة، وهو مسلك معتبر بناء على أن الأحكام الشرعية إنما شُرعت لتحقيق مصالح العباد، وعمدتهم في إثباته الاستقراء. والسبر والتقسيم، وهو ينبني على حصر الأوصاف الصالحة للعلية، ثم دراستها وبيان ما منها صالح أن يكون علة للأصل وهذا معروف عند الأصوليين، وفي شأنه قال الإمام جمال الدين الأسنوي: “ومعناه أن الباحث عن العلة يقسم الصفات التي يتوهم عليتها، بأن يقول: علة هذا الحكم إما هذه الصفة، وإما هذه، ثم يسبر كل واحدة منها، أي يختبره ويلغي بعضها بطريقه فيتعين الباقي للعلية. فالسبر هو أن يختبر الوصف هل يصلح للعلية أم لا. والتقسيم هو قولنا: العلة إما كذا وإما كذا. فكان الأولى أن يقدم التقسيم في اللفظ فيقال: التقسيم والسبر لكونه متقدما في الخارج.”[4]

       وبالمناسبة فإن السبر والتقسيم يدخل فيه ما يسمى عند ستيوارت ميل ” بطريقة البواقي” وهي إحدى قواعده المنهجية في علم الاجتماع تتلخص فيما إذا كانت الظاهرة مجزأة إلى عدة أجزاء، وكانت لهذه الأجزاء أسباب عدة، ثم توصل الباحث “إلى دراسة علاقة الظاهرة بأسبابها، وربط كل جزء بسببه المعروف لديه، غير أن واحدا من الأجزاء بقي منفردا فيلحقه إذ ذاك بالسبب الباقي، فيكون الجزء الباقي من الظاهرة معللا بالفرد الباقي من الأسباب.”[5]

       ولا أرغب في المزيد من التفصيل والبيان، للكشف عن الأحكام المتسرعة التي يرسلها جبرون عن عواهنه، في الوقت الذي كان عليه أن يسبرها بمعيار الأصوليين، ويرجع في هذا الشأن لأهله. أبعد هذا يحق له أن يدعي أن القياس “يضيق مساحة الرأي إلى أقل درجة ممكنة”، إن هذا لشيء عجاب.

وفي هذا السياق أود أن أفتح للأستاذ جبرون عينيه على ما يقوله خبراء الفقه وفرسانه المجتهدون فيه، من كون النظر الفقهي يطغى عليه النظر العقلي، ولا ينبئك مثل خبير، من الإمام الغزالي رحمه الله، الذي جمع بين العلوم النقلية والعلوم العقلية، فقد ذهب رحمه الله إلى أن “تسعة أعشار الفقه النظر فيه عقلي محض، وإنما يدرك بالموازين الخمسة التي ذكرناها، وليس في شيء من ذلك قياس، بل يرجع ذلك إلى إثبات أصلين ولزوم نتيجة منهما، إما بطريق العموم، أو الدلالة، أو الفرق، أو النقض، أو السبر والتقسيم.”[6]

       وقد طفق الغزالي يبين: “تلك الأصول التي تدرك بها النتيجة” حتى جعل من ضمنها النظر العقلي، وهي عنده: “تارة تقتبس من اللغة فيما يبنى على الاسم كما في الأيمان والنذور وجملة من أحكام الشرع. وتارة تبنى على العرف والعادة كما في المعاملة ومنه يؤخذ تحقيق معنى الغرر، وتحقيق معنى الطعم في دهن البنفسج والكتان والزعفران وغيرها. وتارة تبنى على محض النظر العقلي كالنظر في اختلاف الأجناس والأصناف، فإنه لا يعرف ذلك إلا بإدراك المعاني التي بها تتنوع الأشياء وتختلف ماهياتها وتميزها عن المعاني العارضة الخارجة عن الماهية التي بها تصير الأشياء أصنافًا متغايرة مع استواء الماهية، وذلك من أدق مدارك العقليات. وتارة تبنى على مجرد الحس كقوله: “فجزاء مثل ما قتل من النعم”، فبالحس يدرك بأن البدنة مثل النعامة، والبقرة مثل حمار الوحش، والعنـز مثل الظبي. وتارة تبنى على النظر في طبيعة الأشياء وجبلتها وخاصيتها الفطرية، فإن الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة ثم زال تغيره بهبوب الريح وطول الزمان عاد طاهرًا، ولو زال بإلقاء المسك والزعفران لم يعد طاهرًا، لأنهما ساتران للرائحة لا مزيلان لها، ولو زال بإلقاء التراب ففيه قولان… فهذه خمسة أصناف من النظريات وهي: اللغوية، والعرفية، والعقلية، والحسية، والطبيعية، وفيه أصناف أخر يطول تعدادها، وهو -على التحقيق- تسعة أعشار النظر الفقهي.”[7]

رابعا: هل الاستصلاح والاستحسان تحرر من النص؟

       هذه معضلة أخرى آتية من التسرع وعدم الضبط، لاسيما أن الرجل يستعمل ألفاظا ذات حمولة معينة، فليس الاستحسان ولا الاستصلاح تحرر من النص، وإنما هما ينطلقان من روح النص ويرجعان إليه. فالاستحسان عند القائلين به الحنفية والمالكية إنما هو ضرب من العمل بأقوى الدليلين. قال ابن العربي المالكي: “الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين.”[8] والاستحسان لم ينشأ من التحرر من النص، ولا كان أصحابه والمدرسة التي بزغ فيها تقصد ذلك، وبخاصة عند الأحناف، وإنما هو ضرب من القياس المصلحي، وقد عبر عن ذلك البزدوي في أصوله بقوله: “وإنما الاستحسان عندنا أحد القياسين، لكنه يسمى به إشارة إلى أنه الوجه الأولى في العمل به، وأن العمل بالآخر جائز.”[9]

       ومما يدحض مهيع جبرون أن الاستحسان هو ضرب من الاستصلاح الذي روعي فيه مقصود الشارع بناء على الدليل الكلي، وهذا ما ألمع إليه الشاطبي بقوله: “وهو (الاستحسان) –في مذهب مالك- الأخذ بمصلحة جزئية في مقابلة دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس.”[10] وهذا المعنى قد سبق أن بسط الكلام عنه ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد فقال: “ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو التفات إلى المصلحة والعدل.”[11]

       ولا أريد أن أزج بنفسي في غيابات بطون الأصول، لأنقل ما دونه المصنفون من القائلين بالاستحسان، من الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض الشافعية كالقفال الشاشي والماوردي وغيرهما،[12] من كون الاستحسان هو ترجيح دليل أقوى على القياس وهو ضرب من الاستصلاح والرجوع إلى قصد الشارع، وليس من قبيل إلقاء الكلام بالهوى والتشهي، وهذا ما قرره الشاطبي بقوله: “من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة.”[13]

       ومعلوم أن قصد الشارع تدل عليه النصوص العامة والكلية، فكيف يقال إن الاستحسان وأخيه الاستصلاح تحرر من النص واتصال بالعقل؟ ثم غفل جبرون عن أن في ترجيح الدليل الأقوى بناء على قصد الشارع هو نفسه إعمال للعقل، إذ كما قال الشاطبي “الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر.”[14]

        فلو علم صاحبنا واطلع جيدا على كلام المحققين من العلماء من أمثال الشاطبي وابن رشد الحفيد وابن العربي والسرخسي وغيرهم كثير، لما سمح لنفسه أن يكبو هذه الكبوة، فهل هذا هو التجديد الذي يبشرنا به قبل التمحيص والتحرير والتدقيق، وإنما هو تلفيق غير سديد.

يتبع الحلقة الخامسة


[1] في هدي القرآن 111.

[2] المحصول من علم الأصول 1/80.

[3] مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول 114.

[4] نهاية السول في شرح منهاج الأصول4/128، 129،130.

[5] ضوابط المعرفة لحبنكة الميداني 270. ويرى الميداني أن هناك فرقا بين السبر والتقسيم عند الأصوليين وطريقة البواقي عند ميل، وذلك كما قال: “أن طريقة البواقي توزع المسببات في الظاهرة على أسبابها، وتحصر الباقي من الظاهرة في الباقي من الأسباب. أما طريقة السبر والتقسيم فتقوم على حصر جميع الأسباب المحتملة، وإسقاط واحد بعد آخر بالدليل، وحصر الأمر في السبب الأخير.”

[6]  الغزالي، أساس القياس، مرجع سابق ص40،41.

[7]أساس القياس41،42.

[8] الموافقات 4/208 تحقيق عبد الله دراز، وانظر الاعتصام 2/138.

[9] أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري 4/7 وما بعدها.

[10] الموافقات 4/205،206.

[11] بداية المجتهد ونهاية المقتصد 2/140.

[12] انظر أصول السرخسي 2/200، وفواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت 2/321، وإحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي 687، والمسودة لآل تيمية 452، 453، والمعتمد في أصول الفقه لأبي الحسين البصري المعتزلي 2/295، وإرشاد الفحول 401، وأدب القاضي 1/660.

[13] الموافقات 4/205،206.

[14] المرجع السابق، ج3، ص41.

(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى