الدستور الحق وصراع الدساتير

الدستور الحق وصراع الدساتير

بقلم د. عطية عدلان

الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد ..
في زحمة الدساتير والقوانين والشرائع واللوائح ينسى اللاهون العابثون الناموسَ الأكبر، المهيمن على كل ما تعج به الأرض وتضج به الآفاق مما اختاره الناس لأنفسهم أو أجبروا عليه، بينما المسلم الواثق بدينه الوثيق الصلة بأصوله وجذوره لا يغفل يوماً عن هذه الحقيقة التي وردت في كتاب الله كأصرح ما يكون الورود وأوضحه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة 48).
ألا إننا بحاجة إلى تذكر هذه الحقيقة الدقيقة العميقة، فبرغم أهمية النقد والتعرية والفضح لممارسات الطغاة الذين يلعبون بمصائر الشعوب عبر العبث بالدساتير – التي ربما لم يكن لها كبير وزن في إقرارها أو إنكارها – وبرغم ضرورة الملاحقة لهذه الانحرافات الخطيرة والكبيرة بكل الوسائل الإعلامية والحقوقية والقضائية، وبرغم جدوى الممانعة والمقاطعة الشعبية على الأقل على مستوى إنضاج الوعي المجتمعي وتوجيهه؛ برغم ذلك كله يبقى التذكر لهذه الحقيقة والتذكير بها محورًا رئيسيًا في الحراك الثقافي والتوعوي والإيماني قبل ذلك؛ لأننا أمَّة صاحبة منهج ربانيّ تمتد جذوره في أعماق التربة الإنسانية وفي أغوار التاريخ الإنسانيّ، فلا مناص من الإلحاح في إبراز ما يجب إبرازه في مصطرع الهويات هذا.
والهيمنة صفة وخاصية لمنهج الله تعالى الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز، وهيمنة المنهج الإلهي نابعة من صفة من صفات الله تعالى هي صفة الهيمنة، والمهيمن اسم من الأسماء الحسنى التي تتسع في دلالاتها وتمتد؛ لتشتمل على جملة من صفات الكمال ونعوت الجلال لله الكبير المتعال، فالمهيمن هو الرقيب على عباده الشهيد على أعمالهم، الحافظ لهم والمؤتمن عليهم، والقائم عليهم بما يصلحهم، هذا هو ما ورد عن أغلب المفسرين واللغويين([1]).
وصفات الشهادة والرقابة والحفظ إذا خلت من الوكالة والنيابة واتصلت بالقيام على الشيء عكست معنى الحكم والسيطرة والإحاطة والاستحواذ؛ لذلك ورد من معاني المهيمن الحاكم والمسيطر والقيام على عباده([2])، ومن هنا يمكن القول بأنّ منهج الله الذي يحويه كتابه العزيز له صفة الهيمنة بهذه السعة وهذا الامتداد، فهو رقيب على كل المناهج حاكم عليها، يصدق ما جاء فيها من حق، ويزيف ما عداها من باطل، ويزن بميزانه العادل الدقيق كل ما يصدر عن الخلق؛ فبقدر ما يقترب دستور أو قانون من منهج الله تكون درجته من المصداقية والأحقية، وبقدر ما يبتعد يفقد المصداقية والأحقية؛ حتى يعدمهما تماماً كما يعدم الميت نبض فؤاده وانتصاب عماده.
ونحن – لدى تقديرنا وتقويمنا لأي دستور أو قانون أو ما شابه ذلك – إن لم نستصحب كتاب الله ومنهجه وشرعه فسوف تضطرب الرؤية ويغيب الفهم ويعزب الوعي ويعزّ علينا وضع الأمور في نصابها؛ ومن هنا ندرك بعمق مغزى تلك الوصية الجامعة التي ختم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الوداع التي ودع فيها أمته: “وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ”([3]).
فلننظر إلى تلك التعديلات الدستورية بمصر بمنظور الشرع، ولنقيمها بميزان الشريعة؛ لنخرج بجملة تصلح متكأ شرعياً لتحرك يوصف بأنّه إسلاميّ، إنَّ كتاب الله تعالى يقرر – ابتداء – أنّ السيادة إنّما هي لله وحده، ليست للحاكم ولا للشعب، (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى 10) (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا) (الأنعام 114) (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف 40) (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء 59)
ومن ثَمَّ فإنّ أي قاعدة قانونية أو دستورية تخالف حكماً شرعياً ثابتاً أو نصاً من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عله وسلم فهي باطلة منعدمة؛ لمخالفتها لمقتضى السيادة الإلهية.
وإذا كان مبدأ سيادة الشريعة الإلهية قد تقرر وترسخ في محكم الكتاب؛ فإن مبدأ سلطان الأمة وكونها مصدر الشرعية لأي حاكم قد أخذ من القرآن نفخة الحياة؛ فها هو القرآن يقرر أنّ القرار السياسي منوط بالجماعة، فترى القرآن الكريم يخاطب الجماعة في كل ما يتعلق بمسئوليات الدولة التي كانت منوطة برسول الله وقت نزول القرآن، والأمثلة على ذلك من الآيات المتعلقة بالسياسة والجهاد والعهود كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال: قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الممتحنة: 10].
والذي امتحنهن بالفعل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد سُئل ابن عباس: كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء؟ قال: كان يمتحنهن: “بالله ما خرجت من بغض زوج …”([4]) ومع ذلك جاء الخطاب للمؤمنين في مجموعهم.
وعلى هذا أكثر الآيات التي تعلقت بالسياسة والحرب ونظام الحكم: من أمثال هذه الآيات: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾[النساء: 58] ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾[النساء: 59] ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾[محمد: 4] ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[التوبة: 1] ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾[التوبة: 4] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾[النساء: 71]، وهكذا في أغلب الآيات المتعلقة بشئون الأمة العامة.
ومن هذه النفخة المباركة انطلقت السنة النبوية قولية وعملية، وخلفها سنة الخلفاء التي دلنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض، تقرران المبدأ وترسخانه قولًا وعملًا، تأصيلًا وتطبيقًا، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حضرته الوفاة لم يوصِ ولم يستخلف، برغم توفر الدواعي واستفاضتها، وانتفاء الموانع واستحالتها، وهذا أكبر دليل وأوضح بيان على أن الأمة هي صاحبة السلطان، وأن الله عز وجل أراد لها أن تكون على هذه الدرجة من الرشد والنضج والممارسة الواعية لحقها وواجبها.

ويؤكد هذا ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال – حين طلبوا منه أن يستخلف – قال: «إِنْ أَسْـتَخْلِفْ فَقَدِ اسْـتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، رَسُـولُ اللَّهِ»([5])، ولقد همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعهد، لكنه تراجع، روت عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنَّه قال: “لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ، أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ»([6])، أي: يأبى الله في قدره الرحيم ويدفع المؤمنون بتصرفهم السليم الحكيم، وفي هذا تصريح بأن المؤمنين هم الذين يمارسون هذا الحق، وأن هذا الأمر أمرهم.
وقد أكد الخلفاء الراشدون هذا المبدأ في سنتهم في الحكم قولًا وعملًا، فهذا أمير المؤمنين عمر يقول:
« مَنْ بَايَعَ رَجُلًا عَنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يُتَابعُ هُوَ وَلَا الَّذِي بَايَعَهُ تَغِرَّةً أَنْ يُقْتَلَا»([7])، وعن عليّ قال: “يا أيها الناس عن ملاء وإذن؛ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد”([8]).
إنّ إرادة الأمّة هي التي تقرر، وليس إرادة الفرد الحاكم، هذا هو منهج الله تبارك وتعالى، وقبل أن تقرر المؤسسات الدولية والأعراف الإنسانية هذا الحق قررته شريعة الله تعالى، ونحن منها ننطلق وإليها نعود في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا، فهذه الدساتير قبل أن يحكم عليها الناقدون بميزان العدالة الإنسانية حكمت عليها شريعة الله بميزان الدستور الحق دستور السماء.
وإنّ الأمة الإسلامية ما لم تجعل كتاب الله نصب عينيها وهي تتحرك مطالبة بحقوقها المشروعة، فسوف يعز عليها بلوغ ما تريد؛ لأننا أمة صاحبة كتاب وصاحبة منهج رباني، وسعيها بدونه كسعي المقاتل للميدان بدون سلاح ولا عتاد، والله المستعان.

ــــــــــــــــــ
(1) تفسير الطبري (10/ 377) – تفسير القرطبي (6/ 210) – زاد المسير في علم التفسير (4/ 264) – تفسير البغوي – طيبة (8/ 87) – لسان العرب (13/ 437) – تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 200).
(2) تفسير ابن كثير ط العلمية (3/ 116) – التفسير الوسيط – مجمع البحوث (10/ 1370) – لسان العرب (13/ 437) – المعجم الوسيط (2/ 1005) – تفسير المنار (6/ 340) – تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/ 200).
(2) صحيح مسلم (2/ 890).
([4]) إسناده حسن:رواه الطحاوى في مشكل الآثار برقم”4182″(ج9ص4281)، وابن جرير في التفسير(ج23ص325) ورجاله ثقات عدا قيس بن الربيع الأسدي وهو صدوق تغير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه.
([5]) متفق عليه رواه البخاري ك الأحكام باب الاستخلاف برقم”6707″(ج11ص5412)، ومسلم ك الإمارة باب الاستخلاف وتركه برقم”3405″(ج5ص2385).
([6]) روه البخاري ك الأحكام باب الاستخلاف برقم”6706″(ج11ص5412)، ولمسلم رواية أخرى مشابهة عن عائشة.
([7]) صحيح: رواه البخاري ك المحاربين من أهل الكفر والردة باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت برقم”6358” (ج11ص5126).
([8]) تاريخ الطبري (2/700).

[حمل العدد الجديد:
http://bit.ly/2ZNNjwp 
حمل هدية العدد:
http://bit.ly/2Wh27l2
حمل الأعداد السابقة:
http://bit.ly/2vvtufk ]
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى