مسلمو إثيوبيا.. بين تحديات الواقع وآمال المستقبل

مسلمو إثيوبيا.. بين تحديات الواقع وآمال المستقبل

إعداد نور الدين باشا

بمبادرة من رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد تأسست في يوليو 2018، لجنة تساعية من قيادات إسلامية بهدف إجراء حوارات مجتمعية لإعادة هيكلة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في إثيوبيا بتحويله من مؤسسة أهلية إلى هيئة وطنية لها صلاحيات قانونية في خدمة شؤون المسلمين الدينية.

تكونت اللجنة من ثلاثة أعضاء من القيادات الحركية الشابة التي أطلق سراحها مع مجيء رئيس الوزارء إلى السلطة، وثلاثة من قيادات المجلس الأعلى ذي التوجه الصوفي وثلاثة من التكنوقراط المسلمين.

وفي إطارة سعي أبي أحمد لخلق توافق وطني عام، تهدف حكومته إلى أن يتجاوز المسلمون خلافاتهم الفكرية، لتتفادى بذلك الحكومة التبعات السياسية لانقسامات المسلمين وخلافاتهم، ولتنأى بنفسها عن اتهامها بدعم طرف على حساب آخر، ولسد الباب أمام القوى المناهضة للإصلاح حتى لا تستقطب أحد التيارات المتنافسة.

خلال تسعة أشهر مضت أجرت اللجنة التساعية حوارات ومناقشات كثيرة بين مختلف المدارس الفكرية والعقدية

إستراتيجيًا ترغب الدولة الإثيوبية في نزع الشرعية عن توظيف الأجندة الدينية لأغراض سياسية، ودفع تيارات الإسلام الحركي إلى ممارسة نشاطها الديني عبر مؤسسات دينية مقننة، وممارسة السياسة ضمن الأطر القانونية المنظمة للعمل السياسي في دولة علمانية بحكم الدستور.

خلافات بشأن رؤى سياسية بخلفيات فكرية

خلال تسعة أشهر مضت أجرت اللجنة التساعية حوارات ومناقشات كثيرة بين مختلف المدارس الفكرية والعقدية، وطغى على فعالياتها خلاف حاد وتنافس تقليدي ومزمن بين التيار الصوفي الذي يمثل المسلمين تاريخيًا في إثيوبيا المتواصل مع الدولة الإثيوبية الحديثة منذ وجودها، والتيار الحركي بشقيه السلفي والإخواني الذي يرى أنه القادر على مواجهة الدولة لنيل حقوق المسلمين الدينية وتعزيز مكانتهم السياسية.

مذهبيًا يخشى أتباع التصوف الإسلامي، حسب مذهب الأشعرية والماتوردية في العقيدة ومذهب الشافعية والحنفية في الفقه، من تغلغل التيارات الحركية وخاصة التيار السلفي الذي ما فتئ يضلل الصوفية ويعتبرهم أهل بدعة، بينما يسعى حثيثًا لنيل الاعتراف بمذهب أهل الأثر في العقيدة، كما يسمى في التراث الإسلامي، أو بالوهابية حسب ما يسميه الصوفية محليًا.

دخلت الدعوة الوهابية ( أو ما يسمى محليًا بدعوة التوحيد) إلى إثيوبيا في أربعينيات القرن الماضي، ثم انتشرت في ربوع إثيوبيا مع الانفتاح النسبي، وعودة الآلاف من خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى البلاد بداية التسعينيات

ولكن خلف هذا الخلاف الذي لبس لبُوس الدين والعقيدة خلاف آخر وأساسي بين مدرسة الإسلام الحركي (الإسلام السياسي) والمدرسة التعبدية الشعائرية (الإسلام الشعائري أو التعبدي)، ويتمحور هذا الخلاف حول تصور كل من الفريقين لعلاقة المسلمين بالدولة والمجتمع، وكيفية إدارة تلك العلاقة والمعقدة والحساسة والتفاعل مع أطرافها المتعددة.

دخلت الدعوة الوهابية (أو ما يسمى محليًا بدعوة التوحيد) إلى إثيوبيا في أربعينيات القرن الماضي، ثم انتشرت في ربوع إثيوبيا مع الانفتاح النسبي، وعودة الآلاف من خريجي الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى البلاد بداية التسعينيات، فانتشرت دعوة التوحيد في نسختها الوهابية (نقول التوحيد في نسخته الوهابية، لتمييز تراث التوحيد الذي يبشرون به، ولأن المسلمين كلهم موحدون) بين المجتمعات الإثيوبية وخاصة في المدن الصغيرة والقرى والأرياف، وبسطاء المسلمين وعامتهم، وأصبح للحركة السلفية صوت عالٍ في المساجد والمجاميع المسلمة، وطغت أدبياتها ومظاهرها وطريقة نظرتها للآخر في كثير من مناطق إثيوبيا.

لم تظهر الحركات السلفية في نسختها التنظيمية (الجامية، السرورية، التكفيرية…) إلا مطلع القرن الحاليّ، وهي وبطبيعة الحالة نسخة طبق الأصل من نظيراتها في الجزيرة العربية.

يدين مسلمو إثيوبيا للتصوف الإسلامي بحفظ بيضة الإسلام في الحبشة التاريخية ونشره بين القوميات الإفريقية

الفكر الإخواني، وبحكم طابعه النخبوي، نشأ في الجامعات منتصف الثمانينات، ثم ترعرع  في بداية التسعينيات مع تأسيس منظمة شباب مسلمي إثيوبيا التي تم حظرها لاحقًا، إثر أحداث دامية بين المسلمين في جامع أنوار عام 1994، على خلفية خلافات بين التيار الصوفي والتيار الحركي الناشئ والمندفع آنذاك، ومع ازدياد عدد الطلاب المسلمين في الجامعات الإثيوبية خلال العقدين الماضيين تجذر وجود الفكر الإخواني داخل الأطر الطلابية في الجامعات وساهم في تكوين نخبة إسلامية معتبرة.

التصوف الإسلامي وتاريخ من العطاء الصامت

يدين مسلمو إثيوبيا للتصوف الإسلامي بحفظ بيضة الإسلام في الحبشة التاريخية ونشره بين القوميات الإفريقية، حيث ساهم التصوف في نشر الإسلام في ربوع الحبشة التاريخية (الشمال الإثيوبي) وفي ممالك الطراز الإسلامي على ساحل البحر الأحمر وشرق إثيوبيا، وبين القوميات الإفريقية في الجنوب، وذلك عبر حركة تربوية متوازنة على طريقة القادرية في الشرق والجنوب والتيجانية في الغرب.

تأسست منارات علمية كبرى في دري شيخ حسين في منطقة بالي التي انتشرت منها علوم الإسلام منذ القرن الثالث عشر الميلادي في الجنوب، وهي مرشحة الآن لتسجيلها ضمن التراث الإنساني لدى اليونيسكو، وفي مدينة هرر في الشرق، حيث تعتبر حسب تصنيفات اليونيسكو ثالث أقدس مدينة في التراث الإسلامي، وفي جما أبا جفار في الغرب حيث استقرت فيها مملكة عظيمة حتى ضُمت إلى إثيوبيا الحديثة، وفي الشمال داوي في منطقة وللو التي تعتبر امتدادًا للملكة إيفات التاريخية، وفي كل هذه المناطق تأسست مدارس للتراث والفقه الإسلامي الحنفي والشافعي في حلقات علمية كبرى بمساندة من محاضن اجتماعية تتكفل بنفقة الآلاف من طلاب العلم والعلماء.

ظلت القيادات الدينية الإسلامية التاريخية تبحث عن الحرية الدينية والثقافية للمسلمين، وتطالب بإزالة هيمنة الكنيسة على الدولة، ومن هنا تقاطعت أهدافها الدينية مع المصالح  السياسية للحركة الشيوعية

عشية تكوين إثيوبيا الحديثة في 1886 وضم السلطانات الإسلامية في الشرق والجنوب، وجد مسلمو إثيوبيا أنفسهم أمام قوة عاتية تدفعهم نحو الانصهار في دولة مسيحية تنادي بوحدة الدين واللغة، وفي أربعينيات القرن الماضي اندلعت حركات تحرر وطنية تنادي بالعدل والمساواة أو بالانفصال، وكانت مرجعياتها قومية وسياسية، ولعب المسلمون فيها دورًا بارزًا بحكم انتماءاتهم القومية والسياسية، ولم يستحضروا انتماءهم الديني إلا في إطاره التعبدي.

ظلت القيادات الدينية الاسلامية التاريخية تبحث عن الحرية الدينية والثقافية للمسلمين، وتطالب بإزالة هيمنة الكنيسة على الدولة، ومن هنا تقاطعت أهدافها الدينية مع المصالح السياسية للحركة الشيوعية التي رغبت في كسر هيمنة الكنيسة على الحياة السياسية في إثيوبيا في 1974، فأسست المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية كهيئة مدنية تمثل المسلمين.

وخلال العقود الثلاث الماضية تمكن المجلس من المحافظة على وجوده ومن تمثيل المسلمين وإبراز وجودهم، وذلك رغم محدودية الإمكانات الذاتية والواقع السياسي المعقد وتغلغل السلطات السياسية والأمنية على قراره وتحجيم دوره.

التيارات الحركية التي نشأت حديثًا في المجتمع المسلم في إثيوبيا ترى أن المسلمين يمكن أن يلعبوا دورًا حيويًا في الحياة السياسية فيما لو تم تحويلهم إلى كتلة سياسية موحدة

وبدلاً من معاونة المجلس بالعمل على إصلاحه من الداخل، فقد اختار التيار الحركي، وعلى مدى ثلاثة عقود مضت، الطعن في شرعية المجلس بوصمه بالضلال وشيطنة كل من يتعامل معه، باعتباره إحدى الأذرع الأمنية للدولة.

التيارات الحركية وأزمة العلاقة مع الدولة والمجتمع

التيارات الحركية التي نشأت حديثًا في المجتمع المسلم في إثيوبيا ترى أن المسلمين يمكن أن يلعبوا دورًا حيويًا في الحياة السياسية فيما لو تم تحويلهم إلى كتلة سياسية موحدة، وهو ما تحاربه الدولة وتعتبره تهديدًا وجوديًا.

وفي ذلك تأثرت هذه الحركات أساسًا بالمرجعيات الفكرية للحركات الإسلامية التي تنادي بدور محوري للدين في الحياة العامة، ومحليًا كانت هذه المدرسة ردة فعل على الموقع التاريخي للكنيسة الأرثوذوكسية في الدولة الإثيوبية الحديثة، حيث ظلت الكنيسة حتى سقوط الإمبراطور هيلاسيلاسي عام 1974 الحاكم الفعلي في إثيوبيا، إذ تنصب الملوك وتعزلهم، وحسب الدستور الإمبراطوري، كان لها نصيب من إيرادات الدولة.

ورغم كل ما أصاب الكنيسة من تحجيم لدورها السياسي فإن دورها المعنوي والنخبوي ما زال فاعلاً ومؤثرًا

تحطم هذا الدور التاريخي للكنيسة جزئيًا مع سيطرة الشيوعين على الحكم عام 1974، وإعلان إثيوبيا دولة لا دينية، ثم انتهى دور الكنيسة دستوريًا مع اعتماد الدستور الحاليّ عام 1994، حيث أعلن إثيوبيا دولة علمانية  وإعاد تعريفها ككيان متعدد الأديان واللغات والأعراق والثقافات.

ورغم كل ما أصاب الكنيسة من تحجيم لدورها السياسي فإن دورها المعنوي والنخبوي ما زال فاعلاً ومؤثرًا، حيث ما زالت النخبة السياسة المتنفذة تنتمي لها، ولدى الكنيسة إرث ثقافي واقتصادي ضخم، كما أن للكنيسة مؤسسة رسمية لها صلاحيات قانونية على المؤسسات الدينية والأوقاف الكنسية للمسيحيين الأرثوذوكس.

الغبن التاريخي الذي وقع على مسلمي إثيوبيا عبر الأدوات الكنسية، دفع عناصر التيارات الحركية إلى محاولة خلق كيان للمسلمين يوازي الكنيسة، ويتعدى دوره تمثيل المسلمين دينيًا إلى لعب دور في الحياة العامة، وهو ما تحطاط له الدولة وتحاربه.

من منافسة الآخر إلى مصارعة الذات

منذ تأسيس اللجنة التساعية في يوليو 2018، وبعد شد وجذب دام لأكثر من تسعة أشهر، قدمت اللجنة التساعية مقترحات إلى الحكومة تقضي بإصدار إعلان قانوني يقضي بتأسيس مجلس إسلامي وطني حسب اللائحة والقوانين المقترحة، وانتخاب هيئة علماء إثيوبيا تمثل المسلمين وتشرف على إدارة المجلس الإسلامي، ودفعت التيارت الحركية إلى تنظم الانتخابات في المساجد والمراكز الإسلامية.

بطبيعة التكوين التنظيمي للتيار الحركي ونشاطه الديني القائم على التحريض على التيار الصوفي، فإن إجراء الانتخابات يعني سيطرة التيار الحركي على الأمور

وبطبيعة التكوين التنظيمي للتيار الحركي ونشاطه الديني القائم على التحريض على التيار الصوفي، فإن إجراء الانتخابات يعني سيطرة التيار الحركي على الأمور، وهو ما أثار مخاوف المعنيين، ورفع الخط الصوفي صوته عاليًا، واتهم الحكومة برغبتها في تسليم مقاليد الأمور الدينية للوهابية والإخوان حسب تعبيرهم.

ومؤخرًا بدأت حدة المواجهات تزداد فكريًا وإعلاميًا وميدانيًا في المساجد، حيث يحاول كل طرف إقصاء الآخر، كما حاولت مجموعات من التيار السلفي دفع قياداتها إلى تأسيس كيان موازٍ يمثل السلفيين.

ونظرًا للتبعيات السياسية لهذه التجاذبات، قررت الحكومة إغلاق هذا الملف ولو لحين، فأقنعت الجميع بالتوافق على اختيار هيئة علماء توافقية تتولى إدارة المشهد الديني للمسلمين خلال المرحلة القادمة.

وفي خضم التجاذبات بين الصوفيين والسلفيين، نشأء تيار عريض من النخب المسلمة يرفض التصنيف الطائفي للمسلمين، ويرفض التوظيف السياسي للدين، ويلقي باللوم على المتصارعين من التيارين الحركي والصوفي، لأنهم حولوا جهود المسلمين من التنافس مع الآخرين إلى الصراع فيما بينهم.

تحجيم الخلاف في إطاره الفكري والمصالحي يفيد المجتمع المسلم في تجاوز الحركات المتطرفة التي عملت على ترويج عقيدة الخلافات العقدية

ووجد هذا التيار آذانًا صاغية لدى الجهات المعنية التي اتخذت منه أدوات ضغط على التيارات المتصارعة بأنها ليست وحدها في الساحة.

تمت الدعوة للمؤتمر الوطني العام لمسلمي إثيوبيا في 1 من مايو 2019، وذلك بعد أن تم إنضاج الأمور عبر الترغيب والترهيب، وإقناع التيار الحركي بالتراجع عن طموحاته السياسية، والتيار الصوفي عن رفضه القاطع للتيارات الحركي السلفي، حتى وصل الترهيب بأن أي خروج من التوافقية هو تهديد للأمن الوطني، وهكذا تمكن الجميع من تجاوز هذه المرحلة الدقيقة والتوافق على هيئة علماء تتكون من 26 عضوًا.

حسابات الربح والخسارة 

من وجهة نظري فإن الرابح الأكبر من ترتيبات البيت الإسلامي هو عموم المجتمع المسلم في إثيوبيا، حيث تمكن من تجاوز عقدة وعقيدة الصراع التي فرضتها التيارات المتصارعة على المجتمع المسلم والدولة، واتضح للجميع عدم وجود خلاف عقدي حقيقي بين التيارات الإسلامية، وأن أي خلافات فكرية يمكن معالجتها ضمن قاعدة القبول بالآخر، والالتزام بإطار الدولة الوطنية الجامعة، لا سيما نحن في دولة متعددة الأديان الثقفات واللغات والأعراق.

تحجيم الخلاف في إطاره الفكري والمصالحي يفيد المجتمع المسلم في تجاوز الحركات المتطرفة التي عملت على ترويج عقيدة الخلافات العقدية، كما أن تجاوز المسلمين فكرة إنشاء كيانات موازية تمثل التيارات الحركية فوتت على الذين يسعون لتمزيق الصف وبعثرة الجهود.

نالت التيارات الحركية المعتدلة اعترافًًا رسميًا بالوجود والمشاركة، وميزت نفسها عن المجموعات التكفيرية والمتطرفة التي تقتات على المظلومية والإقصاء، وهذا مكسب للجميع

انتخاب هيئة علماء توافقية يسهل للحكومة مواجهة أطراف الممانعة في الدولة العميقة والاستجابة فورًا لمطلب تأسيس هيئة وطنية تمثل المسلمين بحكم القانون، وليس مجرد هيئة مدنية كما هو الحال الآن.

كما أن خلق الأجواء التوافقية بين المسلمين يفوت الفرصة على مناهضي الإصلاح ويوفر دعمًا أكبر لحكومة أبي أحمد من جميع شرائح المجتمع المسلم.

نالت التيارات الحركية المعتدلة اعترافًا رسميًا بالوجود والمشاركة، وميزت نفسها عن المجموعات التكفيرية والمتطرفة التي تقتات على المظلومية والإقصاء، وهذا مكسب للجميع.

(المصدر: نون بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى