الأسطل: التجديد المنشود للخطاب الديني هو إعادته إلى النحو الذي كان عليه زمن النبي

الأسطل: التجديد المنشود للخطاب الديني هو إعادته إلى النحو الذي كان عليه زمن النبي

إعداد تسنيم الرنتيسي

ينبغي على الدّاعية أنْ يبقى حاضر الذّهن مُتوقد القلب مُتحفزاً لدعوته في كل الأحوال، يعمل على توجيه الدعوة في الوقت المناسب، مستثمراً كل حدث ومناسبة لإيصال فكرته ورسالته مع ضرورة التجديد في أساليب ووسائل الخطاب الدعوي بما يتوافق مع التطور العلمي والأعراف والمصالح والفتاوى للحياة المعاصرة، والموازنة بين الأصالة التي تمثل ثوابت الشرع والحداثة التي تتمثل في متغيرات العصر، فالموقف من الحداثة لا بد أن يتأثر بالموروث الثقافي الديني الأخلاقي وما اكتسبه الخلف عن السلف.

فقد أخرج أبو داوود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: “إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها”، فإلى أي مدى يمكن القول بأنّ تجديد الخطاب الدعويّ ضرورة دعوية؟ وما هي أبرز الأساليب المقترحة لتجديد الخطاب الدعوي؟

هذه الأسئلة وغيرها يُجيب عليها الدكتور “يونس الأسطل”- رئيس لجنة الافتاء في رابطة علماء فلسطين بغزة سابقًا، والنائب في المجلس التشريعي الفلسطيني- في حوارٍ لـ”بصائر”، فإلى نص الحوار:

بصائر: إلى أي مدى يمكن القول بأن تجديد الخطاب الدعويّ ضرورة دعوية؟

يونس الأسطل: من المعلوم أن شطر الدين من الثوابت غير القابلة للاجتهاد، فالعقائد كلها، وأصول العبادات، وكليات الشريعة ومقاصدها، والأخلاق والقيم، خطوط حمراء، فلا تقربوها بالنظر، ولا تعتدوها في الالتزام؛ بل تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ؛ فإنه من يبتغِ غيرها فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين.

إنما التجديد يكون في الأساليب والوسائل، وفيما بُني على الأعراف، والمصالح من الفتاوى؛ ذلك أن معظم نصوص الكتاب والسنة ظنيةٌ في دلالتها على المراد منها، كما أن فقه الواقع يقتضي أن يكون التكليف في حدود الطاقة، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقد وضع عنكم الآصار والأغلال التي كانت على من قبلكم، فقد جزاهم ببغيهم، فحرَّم عليهم طيباتٍ أُحلت لهم، وأَخَذَهم بالشدة في الأحكام.

إن الاجتهاد قد يخطئ، وإنّ الأولويات في جوانب الحياة قد تختلف، فلذلك وجب أن يظل التجديد في هذه المجالات قائماً، كلما احتاج الأمر إليه .

إن اختلاف الموضوعات التي ركَّز عليها القرآن المدني عن تلك التي تناولها القرآن المكي يدل على أن كل حقبة لها من الخطاب والتشريع ما يناسبها ، كما أن التدرج في التشريع إيجاباً أو تحريماً يؤكد ضرورة مراعاة الواقع وصولاً إلى المثالية التي استقرَّ عليها التشريع يوم أكمل لكم ربكم دينكم، وأتم عليكم نعمته، ورضي الإسلام لكم ديناً.

ومما يشهد بصواب ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجيب على السؤال نفسه بإجابات متعددة بحسب حال السائل أو المستفتي، وحين بعث معاذاً إلى اليمن، وكان فيها يهود؛ قال له: “إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أَلَّا إله إلا الله، وأني رسول الله؛ فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة…إلخ”.

ولإيضاح ذلك انظروا إلى الزحوف والفتوحات التي كنا نوجف فيها الخيل والركاب؛ لتقاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وتكسروا شوكتهم؛ حتى نتمكن من دعوة أولئك الأقوام إلى الله، وننقذهم من نارٍ، هم على شفا حفرةٍ منها، ولم يكن ذلك مقدوراً إلا بالجَوْسِ خلال ديارهم، أما اليوم فقد أضحى من الممكن أن نغزوهم في بيوتهم، وعلى أَسِرَّتِهم، ونحن في ديارنا؛ فإنّ الثورة الصناعية، وجنون التطور الالكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي، قد أغنانا عن كثيرٍ من الجهد والوقت والمال، بل والتضحية بالأبطال والرجال، فوجب التجديد باقتحام هذه الميادين، والحذق بها؛ فإنّ عدونا الصهيوني وَجِلٌ في أية مجابهةٍ قادمةٍ أن تكون هزيمته بغير السلاح العسكري؛ ذلك أن توجيه القرصنة إلى حواسيب الأمن، أو تدمير بعضها في وزارة الدفاع، أو قيادة الجيش، بالهجوم الالكتروني، أو بما يُنْعَتُ بالهكرز، كافٍ في إرباك التواصل مع الميدان، أو التحكم في فعاليات الجيش، فيضطر العدو إلى التراجع وإيقاف العدوان، وقد تأبى المقاومة الإياب إلى التهدئة، فيضطر إلى الاستغاثة بالأولياء والوسطاء تحت وطأة اللكمات الصاروخية، كما حصل في معركة حجارة السجيل، وما بعدها من التصعيد والمعارك.

وبناءً عليه فالتجديد المنشود هو (إعادة الدين إلى النحو الذي كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإعادة الناس إليه على النحو الذي عليه أهل القرون الثلاثة المفضَّلة، لننفي عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتفلُّتَ الفاسقين، ويعود الناس إليه بالقبول والتلقي، والانقياد والتسليم، والتصديق والاتباع، والتوقير والالتزام، والفهم والتطبيق).

بصائر: ما هي أبرز الخصائص التي يجب أن يتصف بها الخطاب الدعوي المعاصر حتى يكون بنّاءً؟

يونس الأسطل: العملَ بالتجديد والسعيَ لهُ وكسرَ الجمودِ هو فَنُّ النُخَبِ من أربابِ الدعوات لذلك يجب أن يتّصف الخطاب الدعوي بجملة من الخصائص وهي: أن يؤمن بالله ولا يكفر بالإنسان، يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل، يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية، يعنى بالعبادات الشعائرية ولا يغفل القيم الأخلاقية، يدعو إلى الاعتزاز بالعقيدة، وإلى إشاعة التسامح والحُبِّ، يغري بالمثال، ولا يتجاهل الواقع، يدعو إلى الجد والاستقامة، ولا ينسى اللهو والترويح، يتبنى العالمية، ولا يغفل المحلية، يحرص على المعاصرة، ويتمسك بالأصالة، يستشرف المستقبل، ولا يتنكر للماضي، يتبنى التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، يدعو إلى الاجتهاد، ولا يتعدى الثوابت، ينكر الإرهاب الممنوع، ويؤيد الجهاد المشروع، ينصف المرأة، ولا يجور على الرجل، يصون حقوق الأقلية، ولا يحيف على الأكثرية.

بصائر: ما هي أبرز الأساليب المقترحة لتطوير الخطاب الدعوي؟

يونس الأسطل: إنّ من وجوه التطوير في الخطاب الدعوي؛ على سبيل التمثيل الذي يثير التفكير لمزيد من الإبداع التجديدي فيه:

1. تطوير خطبة الجمعة؛ لتعتمد على تحليل النصوص، والتعمق في تدبرها؛ من خلال السياق الذي وردت فيه؛ زيادة على أسباب النزول في الآيات، وأسباب الورود في الأحاديث، مع الرجوع إلى ما قيل في تفسيرها وشروحها عند عدد من أئمة العلم؛ فإن التعمق في فهم النصوص يجعل الاستدلال بها أدق وعياً، وأكثر إقناعاً للمخاطبين ؛ فإن كثيراً من الخطباء يتحدث بالإنشاء المجرد، وإذا ذكر نصوصاً أوردها دون تحليلٍ يُجَلِّي قوة الاستدلال بها، والمطلوب هو التعامل الموضوعي مع النصوص، وليس الاستدلال الموضعي، حتى لكأنَّ النص قد نزل مبتوراً عما يحتفُّ به من المعاني.

2. الاعتماد على جملة النصوص المتعلقة بالموضوع الواحد؛ حتى تطرح الفكرة متكاملة؛ إذْ ما أُجمل في موضعٍ وقع بيانه في موضعٍ آخر، وبعض النصوص تأتي توكيداً لما سبق إيراده، ولكنها لا تخلو من زيادة أو فائدة تناسب المقام، ومن شأن ذلك أن يكشف عن الوحدة الموضوعية في الكتاب كله، وعن دور السنة في زيادة البيان.

3. لزوم الجمع بين الترغيب والترهيب إلى جانب الأحكام والأفكار؛ لنخاطب القلب بالموعظة، كما نخاطب العقل بالدليل، ولعل أهمَّ الرقائق في ذلك ما كان حديثاً عن الساعة والقيامة، وعن الجنة والنار.

4. ومن أهمِّ ما ينبغي التركيز عليه هو فضح اليهود، وإبراز جرائمهم في حقِّ الله، ورسوله، والذين يأمرون بالقسط من الناس، ولا ينبغي أن تخلو خطبة من التعريج عليهم، ونحن بذلك نقتدي بالله الذي أنزل فيهم أربع آيات من سورة الجمعة التي لا تزيد عن إحدى عشرة آية، كما أننا لو أحصينا مجمل ما نزل بشأنهم؛ فلسوف نقف على المئات من الآيات، والأصل أن يكون اهتمامنا بالموضوعات بمقدار تركيز القرآن عليها.

5. أنصح بالتركيز على مظاهر معية الله لنا، ونصره لنا في مواطِنَ كثيرةٍ، حتى يربط الله بها على قلوب المؤمنين، ويُثَبِّتَ أقدامهم، ولعل الحديث عن بطولات المجاهدين، وكرامات الله لهم، وخاصةً أبطالنا المعاصرون، من أهمِّ ما يُفرغ الله به علينا صبراً ، سواء كانت البطولات في القتال، أو في الإنفاق، أو في إنقاذ الأسرى من مخالب الصهاينة، ومِنْ براثن مَنْ تولاهم، فكان منهم.

6. ضرورة التركيز في النشاط الدعوي على المدارس؛ لغرس المفاهيم الصحيحة، والأخلاق الطيبة في نفوس الناشئة، والتركيز في المناهج على القرآن، والسنة، والسيرة، والتاريخ الإسلامي، ومجمل النشاط التعزيزي غير المنهجي، وخاصة في طابور الصباح، واستغلال المُصَلِّيات في التحفيز الديني، والتحصيل العلمي، وغير ذلك.

7. التعاون مع التوجيه السياسي والمعنوي لغزو النوادي، والمجالس، وبعض البيوت، مع اصطحاب بعض الهدايا أو الأشرطة الدعوية، وحتى الألعاب للأطفال، لاسيما التي تحتوي على غرس المفاهيم الصحيحة والسلوك الطيب الذي يناسبهم؛ فإن تلك الهدايا تظل تذكرةً لمغزى الزيارة حتى حين.

8. التركيز على الجانب التطبيقي في الإسلام؛ بأن يكون الدعاة في صدارة الملتزمين بالمساجد، المنخرطين في العمل الخيري، وتقديم العون للناس، والتفاني في خدمتهم؛ إذْ لا يليق بكم أن تكونوا ممن يأمرون الناس بالبر، وينسون أنفسهم، والداعية الصادق هو الذي لا يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه.

9. الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي عبر الشبكات، والفيسبوك، والتويتر، وغيرها، مما يستهوي جيل الشباب اليوم، والتواصل معهم في كل ما يؤرقهم من الهموم والقضايا، ودلالتهم على قائمة من المواقع والمواضيع التي تستدرجهم للإسلام والالتزام من الكم الهائل المبثوث على الشبكة، ولا يزال الهجوم الإعلامي عَبْرَها من الضخامة بحيث أمسى من العسير ملاحقة كل ما يُضَخُّ فيها من الجديد والمفيد.

10. تطوير برامج الإعلام، والاتجاه إلى الدراما، والتمثيل، والعمل المسرحي، والمسلسلات، بل والتسلية الهادفة، والأناشيد الملهبة للمشاعر، المحركة للعواطف، المحرضة على الاستمساك بالذي أوحي إلينا، والعضِّ عليه بالنواجذ؛ فإن هذه الأساليب أكثر شَدَّاً وأعمق أثراً في أكثر الناس في مختلف الأعمار بشهادة الواقع؛ حتى إنها لتلهي الكثير عن النوافل في رمضان وغير رمضان.

11. وضع يافطات بارزة على الطريق العام، وعند تقاطع السكك، وتشابك الدروب، لاسيما المضيئة منها، وخاصة التي تتحرك عبر شريط يبث الكثير من الأذكار، والعبارات التي تذكر بالله، والأخلاق الحميدة، وغير ذلك من التهاني بالأعياد والمناسبات، وهذا أولى من تلك التي تذيع الإعلانات التجارية، وقد لا تخلو من معصية؛ إذا كانت لبنوكٍ ربوية، أو لنساءٍ سافراتٍ.

12. توزيع ملصقات أو بوسترات على واجهات المحلات التجارية، وعلى زجاج السيارات؛ للتذكير بالله، وفيها بعض الأذكار، والأوراد، والواجبات، والأخلاق المهنية المناسبة؛ حتى يقرأها الذاهبون الآيبون كلما وقعت أنظارهم عليها.

13. الاستفادة من التجارب الناجحة لبعض الدعاة في الولوج إلى النفوس، من الذين أفلحوا في التأثير على الجماهير، أو أسلم على أيديهم الكثير، لاسيما في بلاد الإلحاد، والإثم الكبير.

إن قائمة التجديد والتطوير في وسائل الخطاب الدعوي أكبر من أن تحيط بها أسطر معدودات، ومن المفضل أن يُعقد مؤتمرٌ سنويٌّ في كل دولة يُقَيَّم فيه ما استجد من الأساليب ليكون ذلك المؤتمر الحَوْليُّ مثابةً للشورى، والتعاون على البر والتقوى، وتحقيقاً لمفهوم التجديد الضروري لمواكبة التغير الكبير المتسارع على حياة الناس وعاداتهم؛ بسبب الثورة التكنولوجية، والإعلامية، والثقافية التي تكاد تخرجنا عن أبنائنا، أو تحرجنا أمام خصومنا، إنْ لم نقم بمواكبتها، وتجييرها لصالح ديننا وأمتنا.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى