الحلقة (3): في نقض المقولات “الجبرونية” في بعض القضايا الإصولية | د. محمد عوام

الحلقة (3): في نقض المقولات “الجبرونية” في بعض القضايا الإصولية | د. محمد عوام

إن المتتبع بتفحص  لموقف جبرون من علم أصول الفقه، وخاصة القضايا التي تطرق إليها، لا يعدم من أن يقف على خلل كبير في فهم تلك القضايا الأصولية، ولم يكن ليحصل مثل ذلك لو أن الأستاذ جبرون أزاح عن نفسه غشاوة التجديد قبل التمحيص والتدقيق، إذ لا جرم أن فهم تلك القضايا وتصورها شرط أساس في الفهم قبل ادعاء التجديد. ولهذا فإن التجديد ليس كلاما يتلفظ به فحسب، وإنما هو فهم لمناهج العلماء واستيعاب لآليات النظر عندهم، منها  المنهج الأصولي بالوقوف على بنيته ومقولاته المعرفية التي تشكل نسقه الإبستمولوجي والفلسفي، حتى يصدر التجديد عن وعي وإدراك لحقيقة الشيء المجدّد، وإلا صار ادعاء يحمل عوامل نقضه في نفسه، وتخبطا معرفيا غير لائق بالبحث العلمي. من هنا ارتأينا تتبع بعض المقولات والقضايا التي لم يحسن جبرون فهمها، فما بالك بأن يدعي فيها التجديد. نسوقها فيما يلي:

أولا: عدم تحقيق الخلاف بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي.

        في سياق حديثه عن بنية أصول الفقه اللغوية، وبيانه للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه، قال جبرون: “يمكن تكثيف هذه الظروف الثقافية بشكل أساس في الصراع حول وجاهة الاستناد إلى القرآن والأثر الشرعي وحده في تدبير الحياة، وتحقيق الهداية، إذ كان فريق معتبر من الفقهاء يرى أن الأثر وحده غير كاف لمواكبة حياة الإنسان المسلم، ومن ثم لا بد من الاستعانة بالرأي الذي يعني من بعض الوجوه الانفتاح على التاريخ، وهو ما عكسه الصراع القوي بين مدرستي الأثر والرأي في القرون الثلاثة الأولى.”[1]

        يأتي كلام جبرون هذا تحت عنوان صغير (منهج الأصوليين في فهم القرآن)[2]، وقد رسمه هنا للتدليل به على ما سماه أزمة الفهم، وكنت أتمنى من جبرون أن يحدد المعالم الكبرى لمنهج الأصوليين في فهم القرآن، إذ هي إحدى وظائف علم الأصول، ولكنه ارتضى أن يوغل في التعميمات وسرد البدهيات، التي لا تخفى على صغار المبتدئين في هذا العلم، من غير تحليل لنوذج يظهر من خلاله ما يهفو إليه.

        وكلامه في القضية المرسومة آنفا ينطوي على مغالطات علمية، لقد كان على جبرون أستاذ التاريخ أن يقف على الأسباب التاريخية التي كانت من وراء إنشاء هاتين المدرستين، حتى يقف عن كثب على سر وجود المدرستين، والسبب في ذلك تفرق الصحابة في بعض الأمصار الجديدة، مثل الكوفة والبصرة ومصر والشام، هنا بدأت تتشكل مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي التي يرجع كل منها إلى ما عنده من فقه الصحابة الذين استوطنوا تلك الأمصار ونشروا فيها علمهم، فغلب على أهل الحجاز، وهي مدرسة الحديث، الحديث لوفرته ولكثرة الصحابة الذين مكثوا به، وطبعا سيغلب على الكوفة أو ما سمي بعد بمدرسة العراق الرأي ونذرة الحديث، فحصل عن ذلك أن انشعبت طرق الفقه، وفي هذا يقول العلامة الحجوي “فأخذ أهل كل بلد برواية معلمهم من الصحابة وبرأيه، فكان ذلك أول تشعُّب الفقه، واختلاف البلدان والأقطار فيه، وتعصُّب كل قطر إلى فقههم، وما جرى به علمهم وحكم به قضاتهم، وأفتى به مفتوهم.”[3]

        ثم إن هذا التعبير -وأقصد كلام جبرون السابق- يوحي كأن هؤلاء السادة الفقهاء قد جمدوا عقولهم وآراءهم، ولم يتجاوزوا النصوص التي وصلت إليهم بطريق موثوق به، ما عدا أولئك الذين استثناهم جبرون، وهذه مجازفة علمية، إذ التحقيق العلمي يقرر أن ما من فقيه إلا وأخذ بالرأي وإنما حقيقة يتفاوتون في مقدار الأخذ بذلك والمساحة التي أعملوا فيها سواء النظر أو الأثر. ومن الطبيعي أن يحصل ذلك، إذ لا يخفى أن مدرسة أهل الحديث كان موطنها الحجاز، موطن نزول الوحي، ووجود الحديث، بينما كانت مدرسة الرأي بالعراق، حيث نذرة النصوص، وحتى إذا ما ظفروا بها، بدأ البحث عندهم في صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا منهج اتخذوه في إثبات موثوقية النص الحديثي.

        على أن المنتسبين إلى هاتين المدرستين قد نجد من بينهم من يغلب عليه، إما الرأي مثل ربيعة الرأي شيخ مالك، فقد عزا ابن حجر إلى الواقدي نقلا عن ابن سعد أنه قال: “وكان ثقة كثير الحديث وكانوا يتقونه لموضع الرأي”[4] والذي أخذ عنه مالك جل موطئه. وإما الحديث مثل الشعبي بالرغم من كونه كوفيا كان ضد أهل الرأي.

        والإمام مالك مثلا الذي لا ريب أنه من أساطين وأئمة الحديث، فإنه مع ذلك يأخذ بالرأي كثيرا، بل إنه يقدم النص الكلي العام على نص الحديث الجزئي، وله في ذلك مسلك معروف عند أهل العلم، ولم يكن ليتخذ هذا المنحى لولا إعماله للرأي المبني على استدلال قوي ومعتبر.

        ثم إن الرأي المعمول به عند الفقهاء لا يعني الانفتاح على التاريخ، وإنما هو مسلك اجتهادي في فهم النص، أو هو آلة النظر في النصوص الشرعية، ولست أدري لماذا حرص الأستاذ جبرون أن يقحم في الرأي الانفتاح على التاريخ، فلا تساعده في ذلك لا اللغة ولا المسلك الاجتهادي الذي درج عليه الفقهاء، وحتى قاعدة الاستصحاب، -التي قد يظن ظان أنها انفتاح على التاريخ- التي تعني إبقاء ما كان على ما كان تقريرا لا تغييرا، لا علاقة لها بالانفتاح على التاريخ، ولم يقصد الأصوليون ذلك، وإنما قصدهم استمرار أحكام التصرفات التي كانت قبل البعثة، والتي ورثتها الأجيال قرونا لكنها في عمقها لا تصطدم مع الشريعة.

        ولهذا فالعلم اليوم هو التحقيق، وأقصد به تحقيق المقولات العلمية والمعرفية في جميع التخصصات، منها علم أصول الفقه، الذي يدندن حوله الأستاذ جبرون. وبهذا يتضح  ويتقرر أن الخلاف بين مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي لم يكن موجها أساسا إلى الأخذ بالرأي من عدمه، وإنما كان يدور حول صحة الحديث، بمعنى إذا صح الحديث بطريق موثوق مع وضوح دلالته، فهل يمكن تجاوزه أم لا؟ بحجة كونه مخالفا للقياس أو غيره، أو حينما يعز وجود النص الحديثي في مسألة ما فإن العلماء من المدرستين يرجعون إلى الرأي الدال على الإيماء والاقتضاء أو غيرهما من القضايا التي يمكن الرجوع إلى تفاصيلها في مظانها.

والذي لم يلتفت إليه الأستاذ جبرون، وهو أن غلبة الرأي على مدرسة العراقيين سببه أيضا ولعهم بالفقه التقديري، الذي ينحو إلى افتراض الصور التي يمكن توقع حدوثها، وهذا نمط من التفكير في تدبير الحياة باعتبار مآلاتها المستقبلية، ولم يكن ليصدر عنهم ذلك لولا انشغالهم بالشأن العام للحياة.

        وصفوة القول من هذه المسألة – بالإضافة إلى ما سبق تقريره نقضا لمقولة جبرون- هو ما ألمع إليه العلامة المحقق ابن القيم رحمه الله بقوله: “والمقصود أن السلف جميعَهم على ذَمِّ الرأي والقياس المخالِفِ للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به لا فُتْيَا ولا قضاءً، وأن الرأي الذي لا يُعلم مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه.”[5]

        وهو نفس التحقيق الذي أكده العلامة محمد بن الحسن الحجوي بقوله: “ولا بدّ على التحقيق الذي لا شك فيه أنه ما من إمام منهم إلّا وقد قال بالرأي، وما من إمام منهم إلّا وقد تبع الأثر، إلّا أن الخلاف وإن كان ظاهره في المبدأ، لكن في التحقيق إنما هو في بعض الجزئيات، يثبت فيها الأثر عند الحجازيين دون العراقيين، فيأخذ به الأولون ويتركه الآخرون لعدم اطلاعهم عليه، أو وجود قادح عندهم.”[6]

        وأقرر هنا أن تدبير الحياة منذ زمن النبوة هو دائما في حاجة إلى جناحين مهمين: الأثر والنظر، والنقل والعقل، وليس في هذا خلاف مبدئي، وإنما قد يقع الخلاف ويشتد حين يغيب التوسط والاعتدال في الإعمال لكل منهما، لاسيما من المغالين في إبطال النصوص الشرعية، ونسفها من الداخل.

ثانيا: هل القرآن مكتف بنفسه ومستغن عن غيره؟

        في سياق بيان الأستاذ جبرون لما سبق عرج على مسألة نحسبها من الخطورة بمكان، لا من حيث كونها تكتسي أهمية علمية ذي بال، ولكن من حيث أراد منها التفريق بين القرآن والسنة من حيث دلالتهما ومرجعيتهما التشريعية، محملا كلام الشافعي ما لم يحتمل، ومخالفا مقصوده تماما لو أنه قرأ بتمعن كتابه (الرسالة).

        يقول جبرون: “أصول الفقه في صورتها الشافعية، وفي الصور التي اتخذتها بعد ذلك، هي من جهة تأكيد أن القرآن كمرجعية تشريعية مكتف بنفسه ومستغن عن غيره في التشريع وتدبير حياة المسلم، لهذا قال الشافعي في بداية رسالته: “فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها.”[7]

        وكلام جبرون هذا متسق تماما مع كلام محمد شحرور، إن لم يكن هو قبس من كلامه وبعض مضامنه مع السكوته عن الإفصاح عن مصدره، ونحن ننقل كلام شحرور كما وقفنا عليه في موقعه، قال: ” بما أن التنزيل الحكيم هو كلام الله “وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ” [التوبة:6]، فوجب بالضرورة أن يكون مكتفٍ ذاتياً، وهو كالوجود لا يحتاج إلى أي شيء من خارجه لفهمه، هذا لإيماننا واعتقادنا بأن خالق الكون بكلماته هو نفسه موحي التنزيل الحكيم بكلامه، وهو الله سبحانه وتعالى. لذا فإن مفاتيح فهم التنزيل الحكيم هي بالضرورة داخله، فلنبحث عنها داخل التنزيل الحكيم وبدون صحاح ومسانيد ..إلخ …فإن التنزيل الحكيم مطلق في ذاته، نسبي لقارئه ونسبيته تتبع تطور نظم المعرفة وأدواتها، وهذا ما نطلق عليه ثبات النص في ذاته وحركة المحتوى لقارئه، وهنا نعلم لماذا كان النبي (ص) ممتنعاً عن شرحه إلا في الشعائر فقط.[8]

        فلندع مسألة الاقتباس والنقل جانبا، وإن كانت للمسألة منها في نفسي شيء، ذلك أنني قرأت مثل هذا لشحرور في بعض كتبه، وها أنذا أقف عليه من كلام جبرون. المهم عندي أن كلام جبرون هذا تبعا لشحرور غير دقيق من الناحية العلمية، فقوله عن القرآن: “مكتف بنفسه ومستغن عن غيره…” تعبير صيغ على غير معهود الأصوليين من إحكام العبارة، فكان عليه أن يعبر بالبيان، بمعنى هل القرآن في حاجة إلى بيان السنة؟. أمّا ما ادعاه في حق أصول الشافعي في صورتيها، فهذا محض الافتراء على الشافعي وعلى من جاء بعده من الأصوليين، إذ لا أحد منهم يزعم هذا الزعم، من كون القرآن مكتف بنفسه أو ليس في حاجة إلى بيان السنة، بل إن القرآن الكريم نفسه يرد عليه هذا الافتراء، ولا الشافعي بالنص الذي أورده جبرون له يفيد هذا المعنى، لو قرأ الصفحة الموالية للنص الذي استشهد به، إذ الشافعي رحمه الله قال ما قال، ثم أعقبه بأربعة آيات، منها قوله تعالى: “وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون.” [النحل:41]

        أما لو رجعنا إلى الرسالة نفسها سنجد كلام الشافعي يدحض كلام جبرون، ويكر عليه بالبطلان، إذ في باب البيان دوّن “جماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبّدَهم به”[9] من ذلك:

        “ومنه: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فَبِفَرض الله قَبل.

        ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.”[10] وقد أفاض الشافعي في ذكر الأدلة على ذلك، وطفق يبين الأوجه الأربعة التي ساقها ابتداء في باب البيان،ومنها بيان السنة الذي خصه بباب كامل، وهو (باب البيان الثاني) و(باب البيان الثالث)[11] ثم قال الشافعي بعدها: “فكل من قبل عن الله فرائضه في كتابه، قبل عن رسول الله سننه، بفرض الله طاعة رسوله على خلقه، وأن ينتهوا إلى حكمه. ومن قبل عن رسول الله فعن الله قبل، لما افترض الله من طاعته.”[12]

        ومما يدحض كلام جبرون أيضا أن الشافعي رحمه الله عقد بابا سماه (باب ما نزل عاما دلت السنة خاصة على أنه يراد به الخاص)[13]وقد أفاض على عادته في إيراد الأدلة على ذلك، ثم عقد بابا آخر في وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن لم يضع أحمد شاكر لفظ باب التزاما منه بنسخة الربيع كما قال.[14] وهو (بيان فرض الله في كتابه اتباع سنة نبيه) افتتحه بقوله: “وضع الله رسوله من دينه وفرضه وكتابه الموضع الذي أبان جل ثناؤه أنه جعله علَما لدينه، بما افترض من طاعته، وحرم من معصيته، وأبان من فضيلته، بما قرن من الإيمان برسوله مع الإيمان به.”[15]

        وقد استطرد الشافعي في ذكر الآيات القرآنية على ذلك، للتدليل على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك قوله تعالى: “إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستاذنوه.” [النور:62]، قال الشافعي في بيان هذه الآية: “فجعل كمال ابتداء الإيمان، الذي ما سواه تبع له: الإيمان بالله ثم برسوله. فلو آمن عبد به ولم يؤمن برسوله، لم يقع عليه اسم كمال الإيمان أبدا، حتى يؤمن برسوله معه.”[16]

        ثم ختم الشافعي رحمه الله هذا الباب بقوله: “وسنة رسول الله مبينة عن الله معنى ما أراد، دليلا على خاصِّه وعامِّه. ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إياه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله.”[17]

        ومن ذلك أيضا أن الشافعي رحمه الله أورد (باب فرض الله طاعة رسول الله مقرونة بطاعة الله ومذكورة وحدها)[18]، و(باب ما أمر الله من طاعة رسول الله)[19]، و(باب ما أبان الله لخلقه من فرضه على رسوله اتباع ما أوحى إليه، وما شهد له به من اتباع ما أُمِر به، ومن هداه، وأنه هاد لمن اتبعه)[20] وقد حشر في كل من هذه الأبواب أدلة كثيرة، من القرآن والسنة، يؤكد من خلالها الشافعي طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن وظيفته البيان لكتاب الله تعالى. قال الشافعي: “وما سَنَّ رسول الله فيما ليس لله فيه حكمٌ، فبِحُكْم الله سنَّه. وكذلك أخبرنا الله في قوله: “وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ.” وقد سن رسول الله مع كتاب الله، وسنَّ فيما ليس فيه بعَيْنه نصُّ كتاب. وكل ما سن فقد ألزمنا الله اتباعه، وجعل في اتباعه طاعته، وفي العُنُود عن اتباعها معصيتَه التي لم يعذر بها خَلْقاً، ولم يجعل له من اتباع سنن رسول الله مَخْرجاً…”[21]

        أبعد هذا يحق لأحد ومنهم جبرون أن يقول بأن “أصول الفقه في صورتها الشافعية، وفي الصور التي اتخذتها بعد ذلك، هي من جهة تأكيد أن القرآن كمرجعية تشريعية مكتف بنفسه ومستغن عن غيره في التشريع وتدبير حياة المسلم.” لو أن الأستاذ جبرون فعلا قرأ كتاب (الرسالة) بتمعن وتفحص، وبدون خلفية فكرية مسبقة.

        فلا أصول الشافعي تسعف جبرون في دعواه، و(الرسالة) وغيرها من كتبه بين أيدينا اليوم، ولا الذين جاؤوا بعده قالوا بهذا الرأي، بل أقرر أن جميع مصنفات علم أصول الفقه، بدون استثناء، بما فيها كتب الشيعة والمعتزلة والخوارج، تثبت مصدرية وحجية السنة النبوية، وأنها الأصل الثاني بعد كتاب الله تعالى، وأنها بيان لكتاب الله، وعلى هذا إجماع المسلمين قاطبة، لا أحد ينكر هذا في الجملة.[22] نعم قد يختلفون في بعض القضايا المنهجية، ولكن لا يختلفون في أصل المسألة، ولا أحد زعم أن الكتاب مكتف بنفسه. فثبت بهذا أن ادعاء جبرون واه، وأنه يطوح بنفسه في خضخاض، وأن كلامه مفض إلى إبطال السنة، على مذهب شحرور.

        ولكن مع الأسف أن جبرون تلقف كلام الشافعي، وأضفى عليه مسحة العلمانيين واللادينيين من أمثال محمد شحرور، ومحمود طه، والحاج حمد، ومحمد أركون، وعبد المجيد الشرفي وغيرهم، ممن أشاد ببعضهم في كتابه (في هدي القرآن)، وهم ممن ينكرون السنة ويطعنون فيها، بل إن بعضهم يطعن صراحة في القرآن مثل محمد أركون وعبد المجيد الشرفي[23]

        وأنا أنقل كلام بعضهم هنا، لأن المجال لا يتسع لتتبع آرائهم الفاسدة في حق السنة، وقصدنا في ذلك أن ندلل على أن كلام جبرون من جنس كلامهم، وإنما خلاف عبارات واتحاد مضامين وإشارات. من ذلك:

        يقول عبد المجيد الشرفي: “إن شأن الحديث لعجيب حقا فلقد احتفظ هو ذاته بما يفيد نهي الرسول عن تدوينه، وأمرَ بألاَّ يكتبَ عنه سوى القرآن، أي بما ينسف مشروعيته من الأساس. أراد النبي أن يكون القرآن وحده النبراس الذي يهدي المسلمين في حياته وبعد مماته، وألا تكون لأقواله هو صبغة معيارية ملزمة، وأراد المسلمون غير ذلك بل عكسه.”[24]

يتبع إن شاء الله


[1]  في هدي القرآن في السياسة والحكم 110.

[2]  المرجع السابق 108.

[3]  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 1/379.

[4]  تهذيب التهذيب 3/258.

[5]  إعلام الموقعين 2/146،147.

[6]  الفكر السامي 1/380.

[7]  الرسالة بتحقيق أحمد شاكر 20.

[8]  انظر بحثه (المنهج المتبع في التعامل مع التنزيل الحكيم وفق القراءة المعاصرة)

[9]  الرسالة 21.

[10]  الرسالة 22.

[11]  انظر الرسالة 28،31.

[12]  الرسالة 33.

[13]  الرسالة 64.

[14]  انظر هامش 4، ص 73.

[15]  الرسالة 73.

[16]  الرسالة 75

[17]  الرسالة 79.

[18]  الرسالة 79.

[19]  الرسالة 82.

[20]  الرسالة 85.

[21]  الرسالة 88،89.

[22]  انظر الكتاب الفذ حجية السنة للشيخ عبد الغني عبد الخالق (الباب الأول: في بيان أن حجية السنة ضرورة دينية وأنه لم يقع فيها خلاف بين المسلمين قاطبة) 245، وقد أوعب الكلام في هذه القضية. وانظر أيضا كتاب مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة لجلال الدين السيوطي.

[23]  انظر الفكر الإسلامي قراءة علمية لمحمد أركون 23، والإسلام بين الرسالة والتاريخ لعبد المجيد الشرفي 42.

[24]  الإسلام بين الرسالة والتاريخ 176،177.

(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى