الحداثة.. باب خلفي

الحداثة.. باب خلفي

بقلم فاتن فاروق عبد المنعم

اعتاد الحداثيون التقاط كل همل ساقط ليبرزوه وفعله باعتباره أصل الحداثة العربية، فكل متمرد على الحق الأولى بالاتباع كان متحررا في بيئة منغلقة الفكر محدودة الرؤية لذا فإن سامري الحداثة “أدونيس” في كتابه الثابت والمتحول نسب في صلف معهود منه أن للحداثة أصل في التاريخ الإسلامي فجعل من حركات الزنج والقرامطة بل والفتنة منذ مقتل عثمان بن عفان هو البذر الأول للحداثة وأن جابر بن حيان الفيلسوف الكيميائي الخرساني وأبو بكرالرازي وابن الراوندي هم من ابتدأوا الحداثة وهو يخلط عامدا متعمدا بين الأول المؤمن التوحيدي والأخيرين الملحدين فكيف يلتقون في الحداثة التي هي بالتوصيف الأدونيسي نقيض تام للإسلام.

وإقحام هذه الأحداث على كونها البذر الأول للحداثة في التربة العربية ليس إلا من قبيل تمرير فكره الباطني الشعوبي الشيعي النصيري العلوي في الأدب العربي الذي هو الوجه الآخر للإسلام، فكره القائم على تطويع الدين لخدمة الحياة، بمعنى تغيير القواعد الفقهية والفتوى بتغير الزمان والمكان، بعكس المعلوم بالضرورة من ثبات النص الديني وبالتالي ثبات القاعدة الشرعية التي منها المنطلق إلى مختلف الآفاق، لتصبح الحياة بكل تفاصيلها ومفرداتها لخدمة أهداف الدين وليس العكس كما يرغب سامري الحداثة وفي أعقابه الكثير والكثير أمثال فرج فودة وحسن حفني ونصر حامد أبو زيد والقائمة تضم الكثير ما بين ملحدين سابين لله ورسوله وكتابه صراحة ودون مواربة وما بين راغبين في إقصاء الدين عن الحياة إجمالا بدعوى الحداثة بمعناها الشامل في كل أوجه الحياة.

وإدعائه زورا وبهتانا بأن أبي تمام كان متمردا على تقليدية الشعر ووصفه بكونه حداثي على طريقته السامرية (أدونيس) لهو البهتان الواضح لأن أبي تمام غير في الأشكال والتراكيب ولم ينقض الإيمان والقواعد الفقهية كما منظرو الحداثة.

أما إدانة سامري الحداثة للأدب العربي بالتقليد والمحاكاة، فإنه هو من قلد الأوروبيين وانتحل أفكارهم ومفرداتهم ونسبها لنفسه دون خجل، ونقد سلفية الأصول بدعوى الحداثة لهى المدخل لنشر عقيدته بالتوصيف سالف الذكر وإن رافقها إحياء مجمل الوثنيات وإنشاء شركة متعددة الآلهة لدى الحداثيين بعامة، فالمهم لديه هو نقض الإسلام ولا يلام في ذلك طالما وجد آذىنا صاغية ودور نشر ووسائط إعلامية تنزله منزلة الآلهة.

وبعد أن قام أدونيس بإشاعة عقيدته الباطنية من خلال جعل المفردة العربية في الشعر لا تؤخذ بمعناها التقليدي ولكن التأويل مفتوح فلا يوجد شيء يقيني ولا ثابت بالمعنى العام وإنما التفكيك والتحول هو ما يؤدي إلى معان مفتوحة بلا يقين ثابت يمكن الركون إليه وهو جوهر عقيدته الباطنية التي أشاعها تحت مسمى خادع “الحداثة” فيعترف هو على نفسه ويقول:

“وهكذا، بين الثورة الاجتماعية، والثورة الفكرية، بين عقلانية المجتمع المقرونة بعقلانية الدين، وإبطال النقل، وباطنية الدين وإبطال الظاهر، والمنهج الشكي الاختباري التجريبي وإبطال النبوة، كانت تنمو حركة التحول والإبداع في المجتمع العربي”

هكذا يكشف المتوثن عن خبيئته، بالطبع ليس في الدين شك أو تجريب أو باطنية غامضة عن العوام بل الإسلام واضح وضوح الشمس في كل تفاصيله ولكنه اتخذ من الحداثة بابا خلفيا لإفساد عقيدة المسلمين من خلال الأدب العربي الذي هو “الوجه الآخر للإسلام”

منير العوكش يسأل أدونيس:

في فعلك الشعري علاقات يغلب عليها علاقات باطنية، هل تدخل الباطنية في مصادرك، وتعتبر جذرا في حلمك؟

أدونيس: طبعا، يجب أن تميز بين الباطنية كحركة تاريخية والباطنية كموقف من العالم، بالمعنى الأول لا علاقة لي بها إطلاقا، بالمعنى الثاني، الباطنية تهتم بما نسميه “الحقيقة” مقابل ما نسميه “الشريعة” أي بلغة شعرية، تهتم بما يتجاوز العادي وبهذا المعنى أنا متأثر بالباطنية.

والباطنية هنا تلتقي مع الصوفية، وتلتقي كذلك مع السريالية…….، والباطنية بهذا المعنى أيضا بحث لا ينتهي عن حقيقة متحركة لا تنتهي لذا فهي شعرية خالصة………كشعر، تعتقد الباطنية أن العالم معنى وصورة، وأن غاية الإنسان ليس الوقوف عند حدود الصورة، أي عند حدود الخارج بل تجاوز الصورة إلى المعنى، فإذا كان تعامل الله بهذا الشكل فكيف بالوجود؟ الوجود بالنسبة إليه هو هذا المعنى المستثمر الخفي، هو هذا المجهول…

من الواضح من تصريح أدونيس دسه الفج لعقيدته الباطنية في شعره وإن أنكر واعتمد على اللعب بالألفاظ لتمرير ما يريده من فكره العفن ليرسو في النفوس والأدمغة.

وعن كتاب الثابت والمتحول لأدونيس يقول البياتي :

يحاول أدونيس أن يثبت أن الشعوبية في الفكر العربي والثقافة هي التيار الأصيل الوحيد الذي كان، ويأسف لأن هذا التيار قد قمع.

ثم يصفه البياتي بأنه شاعر مزروع في الأمة فيقول:

ويخيل لي أن رفض تراث الشعر العربي قديمه وحديثه تكمن وراءه دعوى شعوبية يتبناها أدونيس في السر والعلن..، ويمكن تفسير سلوك أدونيس هذا بالباطنية الشعوبية.

ومن ديوان أدونيس:

اتركوا الصلاة والصيام وبقية العبادات

لا تتناكحوا بعقد

أبيحوا الفروج للإنسان أن يجامع من يشاء

اقرأوا كتابي الحاسة السادسة في إبطال الشرائع

الجنة أن تعرفوني

النار أن تجهلوني

أثر الصوفية في الحداثة

ومازلنا مع المتوثن أدونيس

عن التماهي مع الصوفية والتي تتكئ على ركائز باطلة مناقضة للإيمان الحق وهي وحدة الوجود والاتحاد، والكشف، ومنها اعتبرها بداية حداثية أيضا كما صرح وشرح الفناء الصوفي والمحبة الصوفية التي أبطلت العلاقة التقليدية بين الله والإنسان، ثم ذكر أوجه الالتقاء بين الصوفية مع الإمامية الباطنية، ثم استرسل في وصف ما أسماه بالحقيقة الصوفية والإلهامية الذوقية التي يمتدح تجاوزها للعقل والشرع لقيامها على المعرفة الإلهامية، التي تكون فيها الحقيقة غير متناهية، في حين أن الشرع والعقل واللغة حواجز للحقيقة.

ولم يخفي أدونيس إعجابه بالشطح الصوفي وما يتضمنه من ادعاء للألوهية، معجبا بكون الصوفي أصبح مثيلا لله (تعالى وتنزه عما يصفون) وأن غاية التجربة الصوفية هو معرفة الله حتى أصبح الصوفي هو الله (عاملهم الله بما يستحقون)

ثم خلص إلى القول:

الصوفي جوهر مبثوث في الوجود كله لذلك لا تحده الجهات، بل الجهات تصدر عنه، ولا يحيط به المكان، بل هو الذي يحيط بالمكان!!!!!!!!!!!

ثم تحدث عن الفناء الصوفي ومزاعمهم برؤية الله ووحدة الوجود(وفيها يتساوي من يعبد الله مع من ادعى بأن لله ابن  ومن يعبد البقر والبشر والحجر والشمس والقمروالفأر ومن ينكر وجود إله للكون) حتى يصل إلى كون الصوفي أفضل من النبي.

حتى قال:

لقد نقلت الصوفية تجربة الوجود والمعرفة من إطار العقل والنقل إلى إطار القلب، فلم يعد الموجود مفهومات ومقولات مجردة، وبطلت المعرفة أن تكون شرحا لمعطى قبلي أو تسلما بقول موحى.

حرص المتوثن أن يربط بين الصوفية والباطنية والحداثة وفيما يلي ثناءه واستشهاده بالأقطاب الصوفية خاصة الحلاج وابن الراوندي فقال عن الصوفيين بعامة:

هذه الأسماء هي التي غيرت ورفضت وتمردت على الأليف والموروث والعادي والتقليدي، والتي خلقت وجددت وأضافت، ولسوف نكمل مابدأه هؤلاء، فنشك ونرفض ونغير إذا استطعنا إيقاعات الخليل، ونثور ونهدم ونعلن الفوضى.

لاحظ انتشار مفردات بعينها (الشك والرفض والتغيير والثورة والهدم والفوضى) للزج بعقيدته في النص الأدبي أيا كان تحت مسمى الحداثة.

ولنقرأ ما كتبه مؤلف كتاب أفق الحداثة لنعرف أن جهود أعضاء الرابطة القلمية الذين أخذوا عهدا على أنفسهم ألا يتركوا اللغة العربية والأدب العربي الذي هو “الوجه الآخر للإسلام” على ما هو عليه والمتوثن أدونيس قد أتت ثمارها:

أما مؤلف أفق الحداثة فقد وصف كيف تفشى بين الشبيبة معادة التراث والاستخفاف به وتفشي هجاء “الكتب الصفراء” والسخرية منها فحين اتجهوا إلى كتب السحر والتصوف، وظهور من يستمرئ الأغاليط اللغوية، ومن يعتبر الاستثناء قاعدة، وركاكة الأسلوب تجديدا، وكل ذلك حدث بالتأثر بأدونيس وأنسي الحاج وغيرهم.

أما التلاحم والتماهي بين الصوفية والباطنية والسوريالية والإلحاد فقد تبدى وتجلى في مجمل أعمالهم فعلى سبيل المثال مسرحية الحلاج لصلاح عبد الصبور والذي قال عن الحلاج أن الذي لفت نظره لمأساة الحلاج هو ماسينيون (مستشرق فرنسي) وفيها ألمح إلى أن الحلاج صاحب فكر اجتماعي وعقيدة متحررة، ولم يخفي تعاطفه مع الحلاج الذي يؤمن بعقيدة الحلول(يدعي أن الله قد حل فيه) والاتحاد (هو الاتحاد بالله فيدعي الصوفي أنه اتحد بالله فصارا شيئا واحدا) وهي ادعاءات باطلة تتنافى وصحيح الإيمان وتخرج من يعتنقها من الإسلام مما يحل لنا لغز ارتباط هذه المذاهب المنحرفة ببعضها البعض.

الخوارج والمعتزلة:

وكما هي عادة المتوثن ومثله كل الحداثيون ينبشون في التراث عن الفرق الضالة ليوهموا أنفسهم بأن لهم أصول ولم يأتوا ببدعا من القول، فيجعلون هؤلاء أنموذجا للتحرر والإبداع والريادة فيما ولجوا هم فيه حديثا فعدوا الخوارج والباطنيين والصوفيين والمعتزلة وكل مارق تمرد على صحيح الدين أصل للحداثة في الأدب العربي والتراث الإسلامي ودون ذلك لهو التقليدي البليد الذي لا يأتي بجديد يحتزى وإنما يقتفي أثر القدامى دون إضافة أو شراكة ما.

وحتى لا نبتعد عن أصول الأشياء ونشترك مع هؤلاء في ضلالاتهم فإن المعتزلة كفرقة ارتأت إعمال العقل(التهوين من الوحي) عن النقل(العمل بالشريعة كما أنزلت) ونسى هؤلاء وتلكم أن الوحي قد أنزل بالرسالة الإلهية والواجب اتباعها كما هي أيضا لأنها من الله ذو القدرة المطلقة والعلم والإحاطة الكاملة، خالق الإنسان ذو العقل محدود القدرات والإدراك في كل شيء ولكنها نفوسهم العقيمة وقلوبهم المريضة التي تأبت عليهم اتباع الحق فماجوا مع من ماجوا قديما وحديثا ليرضوا داخلهم المهترئ وجعلوا من هذا المنطلق أساس هدمهم للثوابت والتمرد الدائم والمستمر بدعوى “من أجل وعي حضاري حديث” فارتكبوا من الموبقات الفكرية ما يفوق موبقات الجوارح، وكأنهم وجدوا ضالتهم فانطلق العلمانيون يبثون فكرهم ليترسب في الوجدان والوعي الجمعي ليخرج علينا نصر حامد أبو زيد ليقول “القرآن ليس من عند الله وإنما هو مخلوق مثل المسيح، وأن نصوص القرآن لغوية بشرية كغيرها من النصوص، وامتدح المعتزلة واعتبرهم مبدعين !!! ، ماجعل الطيب صالح يثني على المأمون لأنه كان يؤمن بقول المعتزلة بأن “القرآن ليس سرمديا”

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

[لتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلَكم، شبرًا بشبرٍ، وذراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتُمُوهم))، قلنا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنصارى؟ قال: فمَنْ؟]

ومصداقا للحديث الشريف فقد انتشرت المذاهب والأفكار الهدمية للإنسان كإنسان والنابعة من مرضى مشوهين نفسيا بالأساس ومع ذلك هم من يشرعون ويرسمون خريطة نفسية للإنسان صالحة لكل زمان ومكان وأبلغ مثال على ذلك هو فرويد الذي مارس الجنس مع أمه وهو في الرابعة عشر من عمره باعترافه ونظرياته التي يؤخذ بها كعلم اشتقها من مرضاه فكيف تطبق على ملايين الأصحاء؟!!! في حين أن النظرية أو أي تجريب لابد أن يجرى على عينات عشوائية تؤخذ من أماكن شتى حتى يمكن استخلاص نتيجة ما مؤداها نظريات وتوصيات تطبق على الجموع وليس معينه الوحيد مرضاه ولكنه اليهودي الذي يظاهره اليهود (الذي يرغبون دوما في إحكام قبضتهم على العالم فيخضعون كل تفصيلة لتحقيق ذلك) بما يملكون من أدوات وخضوع مذل منا دون العودة إلى مأثرة أجدادنا من المسلمين “التجريب” لنحدث لأنفسنا نظريات تخصنا في كل شيء بعيدا عن التلقي دون وعي وكأننا عقمنا.

فضلا عن تفسيره للأحلام تفسير جنسي بحت وأن الغريزة الجنسية هي التي تتحكم في مجمل تصرفات الإنسان وهي المتحكمة في مجمل سلوكه المجبر، فهو المدفوع إليها جبرا لا اختيارا وهو ما أسماه “بالجبرية النفسية” بمعنى أن هذا الإنسان البائس مسير غير مخير رغما عنه، ومثل هذه الترهات يؤمن بها الحداثيون فانطلقوا يكتبون الإيروتيك (الأدب الجنسي) بكل أشكاله بدعوى أنهم مستنيرون حداثيون يكسرون الطابو ولم يكن فتنة فرويد فقط هي التي أركسوا فيها وإنما الماركسية والوجودية والداروينية وهذا الفكر بالطبع انعكس على مجمل أعمالهم وهذا الزيغ ألقى بظلاله على فكرهم حتى بلغوا منعطفا يؤمنون فيه بأن الشاعر يوحى إليه ويحدث له الرؤى والكشف فيما يعرف “بالميتا حداثة” بدلا من الميتافيزيقا ولأنهم يسارعون في اقتفاء أثر أهل الملل السابقة على الإسلام فقد رانت على قلوبهم فلا يرون لغيرها بديلا.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى