معارك الهوية العربية-الإسلامية.. مصر وسوريا نموذجا

معارك الهوية العربية-الإسلامية.. مصر وسوريا نموذجا

بقلم د. غازي التوبة

يرى الكاتب والباحث الفلسطيني في الشؤون الفكرية والتاريخية العربية والإسلامية، الدكتور غازي التوبة، أن الحرب على الهوية العربية ـ الإسلامية في منطقتنا، ليست حديثة، وإنما هي حرب قديمة وتأخذ أشكالا شتى، ويدلل على ذلك بما تعرضت له هذه الهوية من حرب في بلدين عربيين مهمين هما مصر وسوريا، لينتهي إلى أن الهوية العربية ـ الإسلامية تمتلك من مقومات القوة والرسوح ما يجعلها عصية عن الذوبان.

في مفهوم الهوية

الهوية على مستوى الفرد تعني: “حقيقة الفرد من حيث تميزه عن غيره وتسمى وحدة البناء الذاتي”، والهوية على مستوى الأمة تعني: الشخصية الجماعية التي تشكلت على مستوى مجموعة بشرية في منطقة جغرافية على مدار تاريخ طويل قد يمتد عشرات السنين، وهذه الهوية تعطي هذه المجموعة البشرية تفكيرا مشتركا، وعواطف مشتركة، وعادات مشتركة، وذوقاً مشتركاً، وصبغة مشتركة إلخ … والهوية هي التعبير الخارجي عن حقيقة وجود الأمة ووحدتها في مجال الثقافة والاقتصاد والسياسة والاجتماع وغيرها من المجالات.

“الهوية العربية ـ الإسلامية” هي الهوية التي تشكلت وتكونت على مدار القرون الماضية في المنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، ولا شيء غير “الهوية العربية ـ الإسلامية”، وقد قامت هذه “الهوية العربية ـ الإسلامية” على ثلاثة عناصر هي: القرآن الكريم، السنة النبوية المشرفة، اللغة العربية، وقد استمرت هذه الهوية قائمة وفاعلة على مدار أربعة عشر قرناً.

لقد تعرضت “الهوية العربية ـ الإسلامية” لأمتنا في العصر الحديث إلى أكبر محاولة تفتيت وتدمير وإلغاء على يد المستغربين من أبناء أمتنا والمستشرقين من أبناء الغرب الذين أسسوا “علم الاستشراق” والذي احتضنته معظم دول أوروبا منذ القرون الوسطى، لذلك كان هناك “الاستشراق الفرنسي” و”الاستشراق الهولندي” و”الاستشراق الإنجليزي” و”الاستشراق الألماني” إلخ.. ثم استلمت الولايات المتحدة الامريكية الراية من أوروبا وأنشأت “الاستشراق الأمريكي”، وقد اجتهدت كل “ألوان الاستشراق” على مدار القرون الماضية في زعزعة ثقة الأجيال في محاور هويتها من قرآن وسنة وتاريخ وحضارة إلخ…

فشككت بإلهية القرآن الكريم، كما شككت في مصداقية الأحاديث الشريفة، واعتبرت أن أهدافاً سياسية وراء تدوينها، واتهمت حضارتنا بالنقل المجرد عن اليونان وعدم الإبداع في أي مجال من المجالات، واتهمت الفقه الإسلامي بأنه نقل للتشريعات الرومانية إلخ…

لقد حاول المستشرقون وأتباعهم من المستغربين بالإضافة إلى عملهم على تدمير هويتنا إلى الاجتهاد في توليد هوية جديدة، فكيف كان ذلك؟ وماذا فعل المستشرقون والمستغربون من أجل توليد هذه “الهوية الجديدة” التي كانوا يطمحون أن تحل محل “الهوية العربية ـ الإسلامية”؟ سنبدأ بالحديث عن مصر ثم سنثني بالحديث عن سوريا.

مصر.. الأمة الفرعونية

دعت بعض قيادات مصر منذ مطلع القرن العشرين إلى اعتبار أن الشعب المصري “أمة فرعونية”، وأنه ذو “هوية فرعونية”، وبالتالي فإن مصر منسلخة عن دعوى “العروبة والإسلام”، والإسلام دين مر على مصر كما مرت المسيحية من قبل، ولكن الأصل يبقى أن المصريين “أمة فرعونية” قبل المسيحية وقبل الإسلام وبعدهما.

وقد قامت ثورة مصر عام 1919 على هذا المبدأ وهو أن المصريين “أمة فرعونية” وهم ذوو “هوية فرعونية”، وقد دعا أبرز الكتاب والمفكرين في مصر إلى “القومية المصرية ـ الفرعونية” وكان على رأس هؤلاء: سعد زغلول وأحمد لطفي السيد “أستاذ الجيل”، وعباس محمود العقاد “جبار المنطق”، وطه حسين “عميد الأدب العربي”، وسلامه موسى إلخ …

وقد رافق هذه الموجة من الدعوة إلى “القومية المصرية” و”الهوية المصرية” إبراز كل ما يتعلق بتاريخ مصر الفرعوني، والحديث عنه في الأدب والشعر، فكانت المسرحية الشعرية “مصرع كيلوبترا” لأحمد شوقي، ورواية “عبث الأقدار” لنجيب محفوظ، وقصيدة “مصر تتحدث عن نفسها” لحافظ إبراهيم إلخ..

وقد ارتبط بهذه الموجة من الانتماء إلى “الهوية الفرعونية” البحث المستمر في مختلف أنحاء مصر في أعماق الأرض والمعابد والمقابر عن آثار فرعونية، وموميات فرعونية، ووضع كل ذلك في مكانه من التاريخ الفرعوني.

لكن هذه الموجة من الدعوة إلى “الهوية الفرعونية ـ المصرية” لم تلق رواجاً على مستوى الشارع المصري، بل بقيت حبيسة جدران النخب المصرية، وحدث اصطراع عنيف بين هذه “الهوية الفرعونية ـ المصرية” و”الهوية العربية ـ الإسلامية”، وعبّر “الإخوان المسلمون” عن هذه “الهوية العربية ـ الإسلامية” عندما نشأوا عام 1928، وبرزوا بعد “الحرب العالمية الثانية” كأقوى قوة شعبية في الجامعات والمدارس والشارع إلخ …، وتجاوبت معهم جماهير الشعب المصري، فاضطر كتاب ومؤيدو “الهوية الفرعونية ـ المصرية” أن يسايروا توجهات الجماهير فكتبوا عن الإسلام، وكتب عباس محمود العقاد “العبقريات” والتي شملت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومعظم الصحابة  أبي بكر و عمر وعثمان وعلي وخالد وبلال وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، كما كتب طه حسين عدة كتب عن الإسلام ومنها: “على هامش السيرة”، و”مرآة الإسلام”، و”الشيخان” إلخ …. وكتب محمد حسين هيكل “في منزل الوحي”، و”الصديق أبو بكر”، و”الفاروق عمر” “وحياة محمد” إلخ ….

ثم وقع انقلاب عام 1952 في مصر على الملكية، وحكم جمال عبد الناصر مصر، ونادى بـ “القومية العربية”، فانتقلت مصر رسمياً من “الهوية الفرعونية ـ المصرية” إلى “الهوية القومية العربية”، وشكل هذا الموقف تحولاً مفاجئاً لأصحاب التيار الفرعوني، الذين قاوموا ذلك التحول وكان أبرزهم أحمد لطفي السيد الذي صوت بـ (لا) على دستور مصر عام 1954، لأنه احتوى على مادة تقول: “إن مصر جزء من الأمة العربية”، لأنه يعتبر أن هذا غير صحيح.

شهدت مصر صراعاً عنيفاً بين ـ هويات ـ مختلفة على مدار القرن العشرين لكن “الهوية العربية ـ الإسلامية”، كما رأينا، كانت هي الفائزة في النهاية

وقد حاول عبد الناصر أن يمنح مصر هوية أخرى بالإضافة إلى “الهوية القومية العربية” هي “الهوية الاشتراكية” بتبنيه المبادئ الاشتراكية التي تقوم على إبراز دور طبقة العمال والفلاحين في المجتمع، وتقوم على العنف الثوري في مواجهة الطبقة الرأسمالية والإقطاعية وطبقة رجال الدين، وتقوم على المادية ومحارية الدين، وحدث تصادم وصراع عنيف بين “الهوية العربية ـ الإسلامية” وبين هذه “الهوية القومية العربية ـ الاشتراكية” التي قادها جمال عبد الناصر، ومثل سيد قطب ـ رحمه الله ـ الشعب الصري في هذا الصراع، وكانت ثمرة هذا الصراع كتاب “معالم في الطريق” الذي شكل منهلاً ومرجعاً لكل الجماهير التي واجهت “الهوية العربية ـ الاشتراكية” وعنفها الدموي.

وعندما جاء السادات إلى الحكم في عام 1970 نكص عن هذا التوجه “القومي العربي ـ الاشتراكي”، فترك أيديولوجية “القومية العربية” وعاد إلى “العروبة”، كما ترك “الاشتراكية” وعاد إلى “النظام الرأسمالي” الحر في الاقتصاد، وجاء هذا التحول بسبب انطلاق “الصحوة الإسلامية” بعد “نكسة حزيران” عام 1967، والتي كانت تعبيراً عن “الهوية العربية ـ الإسلامية” وانتصارها على “الهوية القومية العربية ـ الاشتراكية”.

ثم جاء حسني مبارك على رأس الحكم بعد أنور السادات في عام1981، وخفت في عهده صراع الهويات، لكن الثورة التي انطلقت في 25 كانون ثاني (يناير) 2011 واقتلعت حسني مبارك في 11 شباط (فبراير) من ذات العام، أكدت رسوخ “الهوية العربية ـ الإسلامية” في مصر، وقد عبر عن ذلك ظهور الإسلاميين كقوة أولى في هذه الثورة، وفوزهم في جميع الانتخابات والاستفتاءات التي جرت بعد ذلك سواء عند إقرار الدستور، أم في الانتخابات البرلمانية، أم في انتخابات رئاسة الجمهورية في أعوام 2011 ـ 2013.

لقد شهدت مصر صراعاً عنيفاً بين ـ هويات ـ مختلفة على مدار القرن العشرين لكن “الهوية العربية ـ الإسلامية”، كما رأينا، كانت هي الفائزة في النهاية وسننتقل الآن إلى سوريا ونرصد صراع الهويات هناك على مدار القرن العشرين، فماذا نجد؟ وماذا حدث؟

سوريا.. الهوية الفنيقية-السريانية في مواجهة الهوية العربية-الإسلامية

لقد برز اسم “سوريا” بعد الحرب العالمية الأولى كدولة تحوي عدة أقاليم، وقام حزب رئيسي في سوريا يدعو إلى اعتماد “الهوية الفينيقية ـ السريانية” واعتبارها هي الأصل لـ “الهوية السورية” وتسمى هذا الحزب باسم “الحزب السوري القومي الاجتماعي” وترأسه أنطون سعادة.

الاستهداف لـ “الهوية العربية ـ الإسلامية” من قبل حزب البعث وحكم آل الأسد، لم ينجح في اقتلاع “الهوية العربية ـ الإسلامية” من سوريا

تصارعت الهويتان “العربية” و”السورية” الممثلتان للفكر “القومي العربي” والفكر “القومي السوري” على حكم سوريا، وقد اتضح ذلك عندما تصارع الحزبان “الحزب السوري القومي الاجتماعي” و”حزب البعث العربي الاشتراكي”، لكن كفة “حزب البعث العربي الاشتراكي” هي التي رجحت وذلك عندما اغتال “الحزب السوري القومي الاجتماعي” نائب رئيس أركان الجيش السوري العقيد عدنان المالكي عام 1955 والذي كان محسوبا على حزب البعث في الملعب البلدي في دمشق، وكانت هذه العملية سبباً في تصفية أنصار “الحزب القومي السوري الاجتماعي” من الجيش بشكل خاص، ومن الحياة المدنية بشكل عام، وكان هذا إيذاناً برسوخ “الهوية العربية” واقتلاع “الهوية السورية” من بلاد الشام.

ثم وصل “حزب البعث العربي الاشتراكي” عام 1963 إلى حكم سورية، فمرت سوريا بما مرت به مصر من بروز الطرح الأيديولوجي المتمثل في أيديولوجية “القومية العربية” من جهة، و”الاشتراكية الماركسية” من جهة ثانية، وقد مثل ذلك الطرح “القيادة القطرية” التي كان من أبرز قادتها “صلاح جديد”، فبرزت “الهوية القومية العربية ـ الاشتراكية” في مواجهة “الهوية العربية ـ الإسلامية” والتي استهدفت اقتلاع الجانب الديني من هوية الأمة، وحدثت مجازر مروعة في حق الدين والمتدينين بدءاً من مجزرة جامع السلطان في حماه ومسجد خالد بن الوليد في حمص عام 1964، مروراً بمسجد بني أمية عام 1965 وانتهاء بتدمير حماه وجسر الشغور عام 1980.

لكن انتصار حافظ الأسد على صلاح جديد عام 1970 في الصراع الحزبي الذي دار بينهما منذ 1967 إلى عام 1970 من خلال “الحركة التصحيحية” التي قادها، وهو البراغماتي الذي لا تهمه المبادئ، إنما يهمه حكمه الشخصي من جهة، وحكم عائلته من جهة ثانية، وحكم طائفته من جهة ثالثة، قاد إلى خفوت الطرح الأيديولوجي الصاخب المرتبط بالشعارات الماركسية بين عامي 1970 ـ 1980.

لكن نظام الأسد عاد إلى مخزونه المعادي لـ “الهوية العربية ـ الإسلامية” وللدين والعلماء والإسلاميين بعد حادثة “مدرسة المدفعية” في حلب عام 1979، والتي أطلقت شرارة ثورة 1980، والتي أدت إلى أن يرتكب أقصى درجات الإجرام في حق الشعب السوري بما ارتكبه من المجازر الدموية في معظم المدن السورية.

لكن هذا الاستهداف لـ “الهوية العربية ـ الإسلامية” من قبل حزب البعث وحكم آل الأسد، لم ينجح في اقتلاع “الهوية العربية ـ الإسلامية” من سوريا، بل تأكد رسوخ هذه “الهوية العربية ـ الإسلامية” بعد انطلاق الربيع العربي في آذار (مارس) من عام 2011، فقد كانت الجماهير التي خرجت في هذا الربيع لمواجهة نظام الأسد جماهير إسلامية، وانطلقت من المساجد وهي أماكن إسلامية، وكانت قياداتها في معظمها وأغلبها إسلامية.

إن هذا الرسوخ لـ “الهوية العربية ـ الإسلامية” في المنطقة الممتدة من المحيط إلى الخليج رغم كل محاولات الاقتلاع خلال القرن الماضي يجعلنا ندعو القيادات الإسلامية إلى أن تعي هذه الحقيقة وتبني عليها، فهذا يساعدها في عملية تغيير الواقع بل يسهل عليها ذلك التغيير.

الخلاصة: تملك أمتنا هوية راسخة هي “الهوية العربية ـ الإسلامية” من المحيط إلى الخليج على الأقل، وقد استهدف المستشرقون والمستغربون تدميرها أو اقتلاعها على مدار القرن الماضي من خلال توليد هويات أخرى منافسة، ولكنهم فشلوا في ذلك، لذلك يجب على الدعاة العمل على تحصينها والاستفادة منها في السعي إلى تحقيق أهدافهم السياسية والاجتماعية.

(المصدر: عربي21)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى