رأي فضيلة الدكتور علي القره داغي في كتاب “الإباضية” لمؤلفه الدكتور الصلابي

رأي فضيلة الدكتور علي القره داغي في كتاب “الإباضية” لمؤلفه الدكتور الصلابي

بقلم أ. د. علي القره داغي

تعود علاقتي بدراسة مذهب الإباضية الفقهي إلى أواخر السبعينات عند إعداد رسالتي للدكتوراه في الشريعة والقانون “مبدأ الرضا في العقود”؛ حيث ذكرت رأي الإباضية إلى جانب بقية المذاهب الفقهية الإسلامية، وإنني أتذكر عند مناقشة الخطة على مستوى القسم ولجنة من الخبراء، سُئلتُ: ما الذي دفعك للالتزام بذكر آراء الإباضية في رسالتك مع أنهم من الخوارج؟

فكان جوابي أني اطلعت على الكتب الفقهية مثل كتب أبي إسحاق إبراهيم أطفيش ونور الدين عبد الله بن حميد السالمي والشيخ أحمد الخليلي  وغيرهم، و كتب أصول فقههم حيث تنص بشكل واضح على أن أصول فقههم هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهم في ذلك لا يختلفون عن أهل السنة والجماعة، بل هم يعتمدون على المصادر المعتمدة في التفسير القرآني والسنة، ثم قلت : إن مؤسس المذهب هو التابعي المعروف جابر بن زيد الأزدي (93 ه أو 103-104)؛ وهو أحد تلامذة حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وقال فيه الإمام النووي: “هو الإمام أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي البصري التابعي، سمع ابن عباس، وابن عمر، والحَكم بن عمرو الغفاري رضى الله عنهم وروى عنه عمرو بن دينار، وقتادة، وعمرو بن هرم، واتفقوا على توثيقه، وجلالته، وهو معدود من أئمة التابعين وفقهائهم، وله مذهب يتفرد به”، وجاء عن ابن عباس أنه قال: “لو أخذ أهل البصرة بقول جابر بن زيد لأوسعهم علماً عن كتاب الله”.

ومنذ ذلك العهد كنت أبحث عن أحد العلماء المتخصصين أن يكتب عن المذهب الإباضي بإنصاف واعتدال إلى أن أهدى إليّ فضيلة أخي الحبيب العالم المؤرخ المحقق الدكتور علي الصلابي كتابه عن الإباضية، (الإباضية…مدرسة إسلامية بعيدة عن الخوارج)، فكم فرحت به فرحاً لا يعلم به إلا الله تعالى، ولذلك عكفت على قراءته، على الرغم من مشاغلي الكثيرة، وقمت بسبر أغواره لأصل إلى الحقائق حول المذهب الذي استفدت منه فقهياً في رسالتي الدكتوراه (1).

فقد بذل الأستاذ الصلابي -حفظه الله -جهوداً مضنية للوصول إلى ما يظهر له من الحق والصواب أو ما يقرب منه من خلال دراسة جادة علمية معتمدة على أكثر من 300 مصدر ومرجع علمي، ومن داخل المذهب لبيان أصوله ورجالاته، ومصادره، وخارج المذهب لبيان آراء الآخرين عنه ذاكراً ما كتبوا عنه باعتدال وإنصاف أو بظلم واعتساف.

لقد ناقش الآراء، وبخاصة الآراء العقدية بموضوعية، ونأى بنفسه عن التعصب لأي رأي أو قول إلا إذا كان معه البرهان الجلي والدليل القوي، فلم يقبل بأي رأي مهما كان قائله مشهوراً إلا إذا كان مبنياً على الحجة والبيان، فلم يجامل مذهباً لحساب مذهب آخر، كما ابتعد عن مناهج التكفير والتبديع، والتشهير، وتصيد العثرات، وتتبع السقطات، والتغافل عن الحسنات، فكان في هذا متبعاً المنهج الصحيح في التعامل مع الأخرين، كما أن الحديث النبوي الشريف: (إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث) (2)، ويفهم منه أن كثرة الحسنات تغرق في بحرها بعض السيئات.

وقد انطلق الشيخ الصلابي بالإضافة إلى منهجه العلمي المعتدل من مجموعة من المنطلقات الصحيحة من أهمها:

  1. إن للعقيدة ثوابت ومتغيرات، وأصولاً وفروعاً، فليس كل ما يتعلق بها من القطعيات، بل فيها القطعيات والظنيات، وأن باب الاجتهاد فيها مفتوح لأهله وبضوابطه، وليس مسدوداً (3).

فمن هذا المنطلق، استطاع الدكتور الصلابي أن يستوعب جميع المذاهب الإسلامية في إطار مقبول، وساعده في ذلك حسن ظنه بجميع علماء الأمة الربانيين، وتحريم النيل من عرض المسلم، ولذلك نظر إلى ما ذهب إليه الإباضية فوجد أن ما ذهبوا إليه هو في دائرة الفروع.

وحينئذ يكون داخلا ًفي ميزان الاجتهادات التي تدور بين المصيب والمخطئ، والأصوب، وبالتالي، فلا يجوز الحكم على العلماء المجتهدين في فروع العقيدة وغيرها بالتكفير أو التفسيق أو التبديع.

  1. إن معظم الخلافات داخل المذاهب والفرق الإسلامية تعود إلى التأويل الذي جرت سنة الله تعالى في أن تتحمله معظم النصوص.

فلو دققنا النظر في الاختلافات الكبيرة حتى في باب الصفات لوجدناها في ميزان التأويل، وحتى الذين يقولون من أهل الحديث: “إن لله يدا أو وجهاً ليست يده كيدنا ووجهه كوجهنا” فهذا أيضا لا يخرج عن باب التأويل، لأن “الوجه” في اللغة العربية هو الوجه المعروف للإنسان، واليد هي المعروفة، لذلك كان مذهب السلف التفويض إلى علم الله تعالى في مثل هذه المتشابهات.

نعم يمكن أن يكون أحد التأويلات أرجح أو أصوب من الآخر، ومن هذا المنطلق، فإن معظم ما يقوله الإباضية في باب العقيدة لن يخرج عن هذه الدائرة التي سميتها:

“فقه الميزان للثوابت، وفقه الميزان للمتغيرات، وفقه الميزان للنصوص القطعية، والنصوص الظنية” (4).

  1. أثبت العلامة الصلابي أن مدرسة الإباضية قد رفضت تبعيتهم للخوارج في وقت مبكر، وأن مؤسسها الإمام جابر بن زيد الأزدي قد حارب فكر الخوارج، وأنه بالمقابل وقف ضد الظلم وأثبت أيضاً أن علماء الإباضية المعتمدين في المذهب قد تبنوا رأي عمر بن عبد العزيز في الخليفة عثمان رضي الله عنه، ولم يثبتوا آراء عبد الله بن إباض فيه، وقد دافع الصلابي عن عثمان رضي الله عنه، ودحض الشبهات التي أثيرت حوله، واعتبره الخليفة المظلوم المفترى عليه.

وكما حارب إمام الإباضية جابر بن زيد فكر الخوارج حاربه كذلك تلامذته وأتباعه المعتمدون بدءاً من عبد الله بن إباض وأبي عبيدة التميمي، وأبي إسحاق أطفيش رحمهم الله إلى العلامة الشيخ أحمد الخليلي (حفظه الله)… إذن، فكيف تسند هذه المدرسة إلى الخوارج!؟

4.  لقد كشف المفكر الصلابي عن زيف كثير مما نقلته كتب الفِرق والمقالات في عقيدة الإباضية، واعتمد في ذلك على رسالة علمية للدكتور مسلم بن سالم بن علي الوهيبي: (الفكر العقدي عند الإباضية، طبعة مكتبة الضامري، سلطنة عمان 1427ه/ 2006م). حيث بيَّن بأن العمل جزء لا يتجزأ من الإيمان، وأنه شرط صحة في الإيمان، وأن المعصية والإيمان لا يجتمعان في إنسان (5).

ومع ذلك لا تحكم الإباضية بكفر العصاة وإخراجهم من الملة وهذا ما أكده الباحث الوهيبي واعتمد كذلك على بعض علمائهم الأخرين، مثل: الشيخ يحيى ابن علي (6)، ولكن لا يُسمى مرتكب الكبيرة مؤمناً وذلك مبني على نفي الإيمان الشرعي الذي تترتب عليه أحكامه من العدالة والولاية ونحوهما (7)، وقولهم بعدم إخراج العصاة من الملة يختلف تماما عن عامة الخوارج القائلين بكفر أهل الكبائر العصاة صراحة.

والاختلاف الموجود بين أهل السنة والجماعة في زيادة الإيمان أو نقصه هو نفسه موجود داخل المذهب الإباضي.

والكفر عندهم أيضاً نوعان كفر شرك وجحود، وكفر نعمة وكفر نفاق وأن النفاق نفاق عقيدة، ونفاق عمل، ويظهر أن هذه التقسيمات تفسر لنا بقية اطلاقاتهم.

وقد أفاض الأستاذ الصلابي في موقف أهل السنة من الآيات والأحاديث الواردة بشأن الإيمان والكفر والنفاق والمعاصي، حيث بناه على أساس فقه الميزان.

وقد اعتمد الإباضية على عقيدة الولاء والبراء واعتبروها أصلاً من أصول الدين، وأهل السنة والجماعة اتفقوا على وجوب الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين، ووجوب البراءة من الكفار والمشركين ولكنهم اختلفوا مع الخوارج والإباضية في البراءة عن مرتكب الكبيرة.

وفي نطاق الصفات، فإن الإباضية يؤولون آيات الصفات التي يظهر منها التشبيه مثل الوجه واليد حالهم حال جمهور الخلف من الأشاعرة والماتريدية.

والإباضية ينفون رؤية الله في الدنيا والآخرة مستدلين ببعض الآيات والأحاديث، وقد ناقش الدكتور الصلابي هذه المسألة وأقام الحجة على صحة رأي أهل السنة والجماعة، ولكن الإباضية مختلفون في القول بخلق القرآن.

وخلاصة القول: إن الشيخ الصلابي قد بذل جهوداً مضنية، منصفة، تتسم بمنتهى الاعتدال والإنصاف والدقة والأمانة، والبعد عن الأهواء والتعصب والاعتساف، فجزاه الله خيراً ونفع به الإسلام والمسلمين، وقد توصل إلى مجموعة من النتائج تتحلى بغاية من الأهمية حيث ذكرنا أهمها.

ومن قراءتي لهذا السفر الكبير ولغيره، فقد توصلت أنا أيضاً إلى أن الإباضية ليست من الخوارج، فهم ينفون قديماً وحديثاً هذه النسبة حتى قال العلامة أبو إسحاق أطفيش:” إن اطلاق لفظة الخوارج على الإباضية من الدعايات الفاجرة”، وأنهم هم أعلم بمذهبهم من غيرهم، فهم مدرسة فقهية معتبرة تعتمد على المصادر المعتمدة لدى أهل السنة والجماعة، كما أنها مدرسة فكرية ضمن المدارس الإسلامية المعتبرة التي لها اجتهاداتها في العقيدة والصفات ونحوها وقد نتفق معها أو نختلف معها ، لكن وفقاً لأدب الخلاف المطلوب وفي ظلال الإسلام الجامع وكما له شموله وسعته

ونرى أيضاً أن إبعاد هذا المذهب العميق القديم وإدخاله في الخوارج لا يقود إلا لصالح الفرقة والكراهية والتطرف والميل عن جادة الصواب، فنحن جميعاً مسلمون وإخوة في العقيدة والدين والحمد لله، قال تعالى: (إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ) سورة الأنبياء -92، وقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) سورة الحجرات:10. وقال تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) سورة الحشر: 10.

مراجع:

  1.  تهذيب الأسماء واللغات للنووي (ت 676هـ) ط. إدارة الطباعة المنيرية، ونشر دار الكتب العلمية، بيروت، 141– 142.
  2. رواه أبو داوود (64)، والترمذي (67) والنسائي (328)، وابن ماجه (517) وأحمد (هـ460)، والدار قطني (731)، والبيهقي (1288). قال الحافظ بن حجر العسقلاني في الفتح (1/414) “حديث صحيح”، وأكده الآخرون مثل المحدث العظيم أبادي في عون المعبود (81هـ)، وصاحب البدر المنير (1/8)، ورواه بن جرير الطبري عن بن عباس بسند صحيح (مسند بن عباس 2/736)، ورواه ابن ابى شيبه في المصنف، (247 37).
  3. فقد كتبت بحثاً مفصلاً حول: “فقه الثوابت والمتغيرات وأثره على تقريب المذاهب والجماعات”، وقد نشر في مجلة المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، وفي غيره ثم نشر في كتابي: “إسلام الرحمة”، طبعة دار البشائر الإسلامية، بيروت، 2017م.
  4. يراجع كتابنا: فقه الميزان، طبعة دار النداء، إستانبول، 2018م.
  5. مسلم الوهيبي: الفكر العقدي عند الإباضية، ص. ص78– 181.
  6. الشيخ علي يحيى معمر: في موكب التاريخ، ص87.
  7. مسلم الوهيبي المرجع السابق، ص184.

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى