مقالات مترجمة | انهض واقتله أولاً (1)

انهض واقتله أولاً (1)

للصحفي الإسرائيلي: رونين بيرجمان 
ترجمة وتلخيص: عبد الله محمد / مجلة “كلمة حق”

[سلسلة مقالات حصرية تُترجم وتُلخص كتاب “انهض واقتله أولاً” للصحفي الإسرائيلي “رونين بيرجمان”، والكتاب صدر في يناير 2018]

بالدم والنار
في عام 1896 نشر الصحفي النمساوي اليهودي ثيودور هرتزل كتابًا سماه “الدولة اليهودية”، خلص فيه إلى أن معاداة السامية متجذرة في أوروبا، ولا يمكن لليهود أن يعيشوا فيها، والحل الوحيد لهم أن ينشئوا وطنًا قوميًّا خاصًّا لهم.
انتشرت هذه الفكرة بين يهود أوروبا الفقراء، إذ كان أغنياؤهم مستقرين وراضين بحالهم، وفي عام 1905 قامت الثورة الاشتراكية في روسيا ولكنها لم تنجح، وانتهت إلى أن قام القيصر ببعض الإصلاحات الشكلية، وطارد من شاركوا في الثورة بمن فيهم فقراء اليهود الروس الإشتراكيون، فهربوا إلى أماكن مختلفة في أنحاء العالم من ضمنها فلسطين.
في عام 1907 عقد أحد يهود فلسطين يدعى (بن زفي) اجتماعًا سريًّا مع اليهود الروس الهاربين من بطش القيصر، وقرروا في نهاية الاجتماع أن ينشئوا فرقة يهودية مقاتلة تقاتل لإقامة الدولة اليهودية، مستفيدين من خبرة اليهود الروس، وسموا هذه الفرقة Bar-Giora.
في بداياتها كانت مهمة هذه الفرقة هي تنفيذ الاغتيالات وحماية المستوطنات اليهودية، لم تكن حركة شعبوية في بدايتها، ولكن مع وفود 35000 يهودي إلى أرض فلسطين ما بين عامي 1905-1914، تزايد عدد أفرادها، ومع حلول عام 1912 كانت هذه الفرقة موكلة بالدفاع عن أربعة عشر مستوطنة يهودية في فلسطين.
كانت هذه الفرقة تغتال أي شخصية تعادي الفكرة الصهيونية، بداية من العرب وانتهاء باليهود المعادين للصهيونية، مثل Jacob De Haan وهو يهودي من أصل هولندي كان مقيمًا في القدس، اغتالوه قبل يوم واحد من من سفره إلى لندن، حيث كان متوجهًا للاحتجاج على وعد بلفور عند الحكومة البريطانية.
ولم تتوقف عمليات الجماعات اليهودية عند العرب واليهود فحسب؛ بل اغتالوا شبكة استخباراتية يهودية أسستها المخابرات البريطانية للتجسس على الدولة العثمانية وأسمتها NILI.
تغير اسم الفرقة إلى هشومر في 1912 ثم الهاجانا في عام 1920، وكانت نواة للجيش الإسرائيلي لاحقًا، في هذا الوقت كانت تجري صراعات داخلية أساسها سياسة الاغتيالات؛ إذ كان جناح ديفيد بن غوريون – رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا – يؤمن بأنه يجب اتباع سياسة أكثر اعتدالً،ا بينما كان اليمينيون يؤمنون بضرورة سفك دماء أكثر واتباع سياسة عمليات الاغتيال لأبعد حد، ونتج عن هذا الخلاف انشقاق مجموعات يمينية وتأسيس فرق مثل “ليهي” و”إرجون”، التي كان يرأسها في 1940 مناحم بيغن – رئيس وزراء إسرائيل لاحقًا – وواصلوا عمليات القتل المستهدف بسِرية، كان من ضمنها عمليات اغتيال لأعضاء الشرطة البريطانية.
في بدايات الحرب العالمية الثانية تطوع أكثر من 38000 يهودي من سكان فلسطين للقتال في صف الجيش البريطاني ضد النازية، وسمي هؤلاء المتطوعون بـ”الفرقة”. عاين هؤلاء اليهود أحوال اليهود في ألمانيا والنمسا والحدود الإيطالية، وكونت معايشتهم لهذه الأوضاع رغبة في الانتقام، وتعهد بعضهم ألا يُضطهد اليهود بعد اليوم.
مع نهاية الحرب أمر قادة الهاجانا بعض أعضاء الفرقة بالبقاء في أوروبا وعدم الرجوع إلى فلسطين، وأوكلت إلى هؤلاء الباقين مهمة ملاحقة النازيين الفارين والانتقام منهم، وسموا بـ Gmul، وسلمت قيادتها لرجل اسمه مناحم غيتشون.
حصل مناحم غيتشون إثر مطاردته للنازيين الهاربين على وثائق للشرطة الألمانية لم تُتلف جيدًا في ثلاث مدن ألمانية ونمساوية هي Taraviso وVillach وKlagenfurt وكان الحصول على قوائم العملاء وأماكن إقامتهم أول الغيث، ثم حصل أن قبضوا على عميل نازي قديم هُدد بالتعذيب فصرح بمعلومات خطيرة عن الشخصيات لم تكن موجودة في الوثائق كذلك، وبناء على ما تراكم لديهم من معلومات لاحقوا الألمان النازيين، وكانت عادتهم استخراج المعلومات من كل شخص ثم قتله حتى لا يتكلم، وفي غضون ثلاثة أشهر قتل من ١٠٠ إلى ٢٠٠ شخص على أيديهم.ؤولم تُحل هذه الفرقة إلا لما أحست القيادة البريطانية بفقدان الكثير من النازيين الموضوعيين في قوائم المشتبه بهم.
كان الهاجانا الفاعل الحقيقي في أعمال اغتيالات الشخصيات البريطانية والعربية وأيضًا الألمان الذين كانوا يسكنون فلسطين بعد الحرب. ولكن هؤلاء الألمان هاجروا كلهم بعد ما اغتيل أحد كبارهم وهو Gotthilf Wagner، وكان الدافع لاغتياله هو دعمه للنازية أيام الحرب.
أما البريطانيون فقد اغتيل الكثير من كبرائهم وقادة شرطتهم الذين أزعجوا الجماعات اليهودية السرية بالاعتقالات، أو عارضوا الفكرة الصهيونية، وكذلك اغتيل اللورد موين الذي كان وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط؛ إذ وضع العراقيل ضد الهجرة اليهودية الجماعية لفلسطين في 1944. أما جماعات مثل إرجون فقد فجرت فندق الملك داوود، وهو مكان إقامة المندوب البريطاني وإدارته، وقيادة الجيش البريطاني في فلسطين وشرطته.
شعرت القيادة اليهودية أن الدولة اليهودية لن تنعم بالاستقرار إلا إذا تأسست لديها أذرع استخباراتية في الداخل والخارج، ولهذا أسسوا لهم ثلاث شعب استخباراتية، الأولى وهي (الشاباك) أو الشين بيت وهي مخولة بالأمن الداخلي، والثانية هي (الموساد)، وهو مخول بالأمن الخارجي، والثالثة وهي (أمان) وهي وحدة الاستخبارات العسكرية.
في 1954 هرب ضابط بحرية إسرائيلي من البلد متوجهًا إلى روما بغية بيع أسرار عسكرية إلى السفارة المصرية في إيطاليا، ولكن عميلًا للموساد أبلغهم بالقضية، وهنا كان أول اختبار للموساد؛ إذ كان عليهم اختطاف العميل في باريس قبل وصوله لإيطاليا وإعادته قبل إتمام صفقته، ولكن العملية أسفرت عن كارثة بكل المقاييس؛ إذ تُوفي الضابط في الهواء إثر جرعات تخدير زائدة ورموا جثته من طائرة الاختطاف قبل هبوطها.

مكتب ترتيب اللقاءات مع الله
القيادة العليا كلها بضربة واحدة
كان هذا الحادث ما دفع رئيس الموساد في ذلك الوقت هاريل لإنشاء وحدة للموساد مختصة بالاغتيالات لا غير، وبالفعل أسس هاريل هذه الوحدة التي سميت بـ Mifratz في بداية الأمر، وضمت أعضاء الجماعات المتطرفة أمثال إرجون وليهي وجنود سابقين في الجيش الإسرائيلي، كذلك وسلمت قيادتها لضابط شاب اسمه آرييل شارون.
في هذا الوقت بدأت الاستخبارات العسكرية “أمان” تنفذ اغتيالاتها الخارجية، فاغتيل مصطفى حافظ الضابط في الجيش المصري في غزة، وصلاح مصطفى الملحق العسكري المصري في الأردن، كان هذان العسكريان يتحكمان بالفدائيين في فلسطين ووُكلت لهما مهمة تجنيدهم وإرسالهم وكل ما يتعلق بالفدائيين، وبما أن إسرائيل لم تستطع أن تتهم علنًا أيًّا من السلطة المصرية أو الأردنية فقد بدأت تعمل سرًّا بتجنيد العرب عن طريق المال أو النساء.
وما بين 1948-1956 جندت إسرائيل أكثر من 400 مخبر عربي في غزة كونوا مخزنًا للمعلومات، بناء عليها جندوا عملاء لاغتيال كل من الاثنين، ونجحت عمليتا الاغتيال اللتان نُفذتا بطردين يحويان متفجرات.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فقد عثر الجيش الإسرائيلي بعد حرب 1956 في منزل مصطفى حافظ بغزة على وثائق تحوي كل أسماء وبيانات الفدائيين المتخفين في فلسطين، لم يكن قد أخذها الجيش المصري الهارب من غزة معه، وشكلت هذه الوثائق فتحًا استخباراتيًّا؛ إذ كشف الغطاء عن مئات الفدائيين، وبناء عليه بدأت اغتيالات الشاباك للفدائيين الفلسطينيين عن طريق عملاء عرب يهدون إليهم صناديق الهدايا التي تحتوي المتفجرات، أو الأطعمة المسمومة وما إلى ذلك، وفي النهاية تبين أن هذه الاغتيالات كانت ناجحة تكتيكيًّا ولكن ليست كذلك على المستوى الإستراتيجي، فقد كانت الاغتيالات تطال الفدائيين الميدانيين الذين يمكن استبدالهم بغيرهم وليس قادتهم.
بدأ صعود إسرائيل كقوة استخباراتية عام 1956 بعد الحرب، عندما عقد نيكيتا خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتي بعد ستالين كلمة سرية جدًّا، تحدث فيها عن جرائم خلفه جوزيف ستالين، كان مثل هذا الأمر حساسًا ومحرجًا للقادة السوفييت، ولذا تكتموا على الكلمة إلى أقصى حد.
وصلت أنباء إلقاء مثل هذه الكلمة لمسامع CIA وجميع استخبارات العالم الغربي، ولكن لم يستطع أي منهم تجاوز جدار الاستخبارات السوفيتي الحديدي، وفي إحدى الأيام تلقت المخابرات الأمريكية الخطاب كاملًا عن طريق الموساد، مما أدى إلى اندهاش المخابرات الأمريكية وبعث الخطاب للرئيس الأمريكي مباشرة.
أما الموساد فقد بدأ ينفذ عملياته في البلاد التي ليست في حالة حرب مع إسرائيل رسميًّا، فاختطف ألمانيًّا نازيًّا سابقًا اسمه أدولف آيخمان في 1960 يقيم في الأرجنتين على وأحضره إلى إسرائيل وأُعدم فيها، وأعطت التسريبات الإعلامية بهذا الشأن الموساد نوعًا من الهيبة، كذلك حاولت الوحدة 8200 – وهي أكبر وأهم وحدة للاغتيالات في الاستخبارات العسكرية – تفجير طائرة وفد مصري يرأسه عبدالحكيم عامر بناء على معلومات تلقتها من عملاء عرب في الداخل. كان الوفد راجعًا من سوريا قبل يوم واحد من بدأ حرب 1956 ولكن عامر رئيس الوفد قرر في آخر لحظة أن ينتظر ويستقل الطائرة ثانية، وصعقوا بنبأ تفجر الطائرة الأولى التي كان يفترض أن يكون فيها الرئيس.

كأن السماء سقطت على رؤوسنا
في نهار يوليو 1962 صعقت إسرائيل كلها بإعلان جمال عبدالناصر عن تصنيع مصر وامتلاكها لصواريخ بعيدة المدى تستطيع أن تضرب بيروت وكل ما يقع في جنوبها، أصبح هذا الإعلان بمثابة التعبير عن فشل الموساد الاستخباراتي. وكانت المصيبة الأخرى أن العلماء الذين صنعوا هذه الأسلحة كانوا علماء ألمانيين نازيين سابقين وعاطلين، جذبتهم أموال عبدالناصر.
أعلن إسير هاريل حالة طوارئ داخل الموساد، وأمر بتوجيه كل الجهود للحصول على معلومات عن البرنامج الصاروخي. وعلى الفور بدأ عملاء الموساد أولًا يتسللون إلى السفارات والقنصليات المصرية في أوروبا، ونجحوا في تجنيد عامل سويسري كان يعمل في EgyptAir، وهي شركة طيران كانت واجهة للاستخبارت المصرية. كانت مهمة العامل هي السماح لعملاء الموساد بالمجيء ليلًا لأخذ كافة المعلومات المتعلقة بالبرنامج التي وجودها من مخططات ووثائق وأسماء وعناوين، إلى منزل موساد آمن حيث سيصورون الأوراق ويأخذون النسخ، ثم يعيدونها في الليلة نفسها مرتين في الأسبوع.
كان الموساد يعلم أن البرنامج لا يمكن أن ينجح بدون العلماء، ولذا فإن اختطاف أو اغتيال العلماء يعني نهاية البرنامج، وكانت المعلومات المتوفرة كافية للتخطيط لاغتيال العلماء الألمان. لكن محاولات اغتيال العلماء الألمان – وخاصة كبارهم – لم تنجح في البداية أحيانًا لعدم جاهزية الأسلحة وأحيانًا أخرى للصدفة. ومع محاولات الاغتيالات المتعددة جندت المخابرات المصرية خبيرًا أمنيًّا ألمانيًّا نازيًّا اسمه أدولف فالنتاين، والذي بدوره أرشد العلماء إلى الخطوات الأمنية الصحيحة، بداية بإعطائهم المسدسات وتعليمهم استخدامها، وانتهاء بإرشادهم إلى كل شيء في حياتهم اليومية.
كان الموساد في حاجة ماسة إلى التعامل مع فالنتين فقد أسهمت إرشاداته الأمنية في الزيادة من صعوبة الفتك بالعلماء، وفي نفس الوقت كان عملاؤهم يزيدون من جهدهم في جمع المعلومات والصور في كل سفارات مصر في أوروبا.
تمكن الموساد في هذه الفترة من التواصل مع الضابط أوتو سكورزيني في مدريد، وكان سكورزيني ضابطًا ألمانيًّا رفيعًا في المخابرات الألمانية النازية، وكان كبير مخططي عمليات الجيش النازي في الحرب، اشتهر بإنقاذه للرئيس الإيطالي موسيليني من الاختطاف أثناء الحرب العالمية الثانية. تواصل الموساد مع هذا الضابط واتفق معه على أن يتواصل مع فالنتين ويقنعه بترك البرنامج المصري للصواريخ مقابل أن يمسح الموساد -بما لديهم من اتصالات- اسم سكورزيني من قائمة العملاء النازيين المطاردين حول العالم.
تواصل سكورزيني مع فالنتاين ووعده بأحلام جميلة، فأوهمه بأنه يعمل سرًّا على إقامة الرايخ الرابع، وأنه يجب أن يمده بكل المعلومات حول برنامج صواريخ مصر، وبما أن سكورزيني كان أعلى مرتبة من فالنتاين في العهد النازي فإن فالنتاين امتثل للأمر. وعُطّل البرنامج الصاروخي كليًّا بعد ما أقنع سكورزيني العلماء الألمان شخصيًّا -الذين لم يرحلوا إلى مصر بعد- أن يبقوا في ألمانيا ليؤسسوا لإعادة أمجاد ألمانيا، وتلقى العلماء الألمان المقيمون في مصر والذين اكتشفت هوياتهم وعناوينهم تهديدات أجبرتهم على الرحيل من مصر خوفًا على حياتهم.
كانت هذه أول مرة يوجه فيها الموساد كامل قدراته وعتاده إلى مهمة واحدة انتهت بالنجاح، وبعدها مباشرة تأسست وحدة في الموساد تسمى Caesarea، كانت خليطًا من أعضاء الوحدة 188 من الاستخبارات العسكرية ذات الخبرة، ووحدة Mifratz المختصة بالاغتيالات، كانت مهمة Caesarea هي جمع المعلومات المتعلقة بالاغتيالات من الدول الخارجية سواء من السفارات أو من غيرها.

ـــــــــــ
[حمل العدد الجديد: bit.ly/2ZNNjwp، حمل هدية العدد: bit.ly/2Wh27l2 ]

لتحميل جميع الأعداد السابقة من مجلة كلمة حق: bit.ly/2vvtufk

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى