كيف يتشابه حالنا اليوم مع أيام الحروب الصليبية؟

كيف يتشابه حالنا اليوم مع أيام الحروب الصليبية؟

بقلم مؤمن الوزان

تعد الحروب الصليبية أهم الأحداث التي كانت السبب في تشكيل عالمين متصارعين يكنان العداء بعضهما لبعض، والأساس في خلق الشرق والغرب بكل تناقضاتهما، وما لهما من جذور عقائدية ودينية مهدت الطريق لحروب دينية ما زالت آثارها حتى اليوم، وتعددت أشكال عودتها في الوقت الحاضر بمسميات مختلفة وكان من نتائجها غزو أفغانستان والعراق، وسبقهما بعقود تأسيس كيان صهيوني جديد، لا يفرق عن ذاك الكيان الصليبي الذي أقامه الصليبيون عند قدومهم في نهاية القرن الحادي عشر وتأسيس مملكة بيت المقدس بعد احتلالها وذبح أهلها الذين قدّر أعدادهم المؤرخون بعشرات الالآف من المسلمين ومن ضمنهم يهود أيضا كما في حادثة حرقهم بعد تجمعهم داخل معبد في الحي الشمالي، ويصف أستاذ التاريخ الإسرائيلي شلومو ساند في ثلاثيته حول أرض إسرائيل وشعبها هذا الكيان الصهيوني: “إنّ مستقبل هذه (المملكة الصليبية) الجديدة، وكيلة العالم الغربي في قلب الشرق، يكتنفه الشك”. وهذا ما يجعلنا تجاه كيانين متشابهين إلا أن ما يفرق بينهما كما يقول المؤرخ محمد طقوش، أن الكيان الصليبي كان كيانا طارئا إلا أن هذا الكيان الصهيوني يعتبره أهله أنه حق شرعي في أرض الكنعانيين. ولهذه الحروب تأثيراتها التي ألقت بثقلها في العصور الوسطى والعصور اللاحقة ولا سيما في مجال العلوم والفكر ويقول المؤرخ محمد طقوش في تقديمه لهذه الحروب:

“وإذا كانت الحروب الصليبية تشكل صفحة في العلاقات بين الشرق والغرب في العصور الوسطى، فما السر في أنها انتهت بتدهور وركود وانحلال استمر طويلا في المشرق الإسلامي في حين صحبها وأعقبها مباشرة قيام نهضة شاملة في الغرب الأوروبي هي الأساس في نهضته الحديثة. ويبدو أن هذه الحروب مسؤولة عن الانهيار الذي تعرض له العالم الإسلامي الشرقي في أواخر العصور الوسطى من واقع أنها استنفدت جهوده وطاقاته في الدفاع عن كيانه، وكرّست كل موارده ونشاطه للقضاء على الخطر الصليبي الذي أصاب بقعة هي بمثابة القلب، وأخذ يسعى من هذا المركز إلى تهديد بقية المناطق في الشام والعراق ومصر والحجاز فضلا عن المغرب والأندلس”.

وهذا أمر لا يمكن تجاهله والتغاضي عنه، وهو من العوامل الرئيسة والمسؤولة عما تعرض له المسلمون في الشرق من عوامل التراجع، وهذه الحرب لم تكن حرب قصيرة الأمد بل نحن أمام حرب استمرت لمدة ثلاثة قرون تقريبا منذ (1099 – 1291)، وهي لم تتوقف عند هذا الحد بل عادت عبر الامتيازات في القرن السادس عشر، ثم عودتها بقوة في نهاية القرن الثامن عشر بحملة نابيلون إلى مصر، ثم في القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، والقرن الحادي والعشرين، أي أن الأمة الإسلامية ومنذ القرن الثاني عشر وحتى اليوم في صراع مستمر مع القوى الصليبية ثم الغربية الإمبريالية ثم أمريكا والصهيونية العالمية.

إن هذه الحروب الصليبية التي اجتاحت الأمة انطلقت من دافع عقائدي مسيحي إيماني، بتحرير بيت المقدس من أيدي المسلمين الذي عملت البابوية على تشويه صورتهم وحث المسيحيين على الاستعداد والانطلاق إلى الشرق نحو بيت المقدس، ونجح البابا أوربان الثاني عام 1095 في تجهيز الحملات التي اتجهت نحو الأناضول وبلاد الشام لتبدأ بعدها مرحلة الصراع الطويل. إن دراسة تاريخ الحروب من الأهمية بمكان لأن تلك المرحلة التي شهدتها الأمة من التمزق واختلاف الكلمة لهو شبيه بحالنا اليوم، فكانت مصر تحت سلطان الفاطميين وبلاد الشام مقسمة ما بين السلاجقة والفاطميين، والخلافة العباسية في العراق تمر بمرحلة ضعف وشيخوخة وخلفاؤها مسلوبو الإرادة خاضعون لسلاجقة إيران، وحال السلاجقة ليس بأفضل إذ بعد اغتيال الحشاشين لنظام الملك انفرط عقدهم ودخلوا بصراعات فيما بينهم، تسببت باجتياح نيقية ثم قونية في الأناضول ثم الدخول إلى بلاد الشام وسقوط أنطاكيا بعد فشل توحد كلمة المسلمين والتي كان سقوطها مريرا مخزيا لأسبابه، إضافة للاختلاف المذهبي (السني – الشيعي) ومشاكل الأتراك والعرب والفرس، كل هذا يجعلنا أمام إعادة للتاريخ، إعادة لا يختلف اثنان ذوا عقل عليها.

إن دراسة هذا التاريخ الممتد من عام 1099 وحتى تحرير بيت المقدس على يد الناصر صلاح الدين عام 1187 يجعلنا نبحث في كيفية النهوض من جديد، وتوحيد الكلمة ورأب الصدع، وتكوين دولة قوية تضم العراق والشام ومصر، فبعد ثلاثة عقود من الخذلان إثر سقوط بيت المقدس بيد الصليبيين ظهر عماد الدين زنكي وبدأ عملية التوحيد لهذه الأمة عام 1127م والذي كلل جهوده بتوحيد إمارة الموصل والجزيرة الفراتية وبلاد الشام خلا دمشق وفتح الرُّها التي تعتبر أول إمارة صليبية أقامها الصليبيون بعد اجتياحهم بلاد الشام.

واستمر هذا القائد حتى تم اغتياله عام 1146، وباستلام ابنه نور الدين محمود قيادة المسلمين من بعده تم تلافي حدوث الشرخ والصدع واستمر بالجهاد وتوحيد الصفوف حتى ضم دمشق ومصر لدولته سنة 1169 بعد أن أرسل القائد شيركوه وكان ضمن قادة جيشه ابن أخيه صلاح الدين، ولكن شيركوه لم يستمر كثيرا إذ توفي، ليستلم بعده صلاح الدين زمام الحكم في مصر، ويعمل على الإطاحة بالفاطميين الذي كانوا يمرون بمرحلة ختامية نشأ عنها نفوذ الوزراء مثل الأفضل الذي كان حاضرا وقت الاجتياح الصليبي الذي تهلل له ظنا منه أنه بإمكانه القيام بحلف معهم ضد أعدائه السلاجقة الذين يسيطرون على أجزاء من الشام، حين كانت تنحصر أملاك الفاطميين في جنوب الشام. بقي نور الدين محيطا بالصليبيين من الشمال وصلاح الدين من الجنوب.

إلا أن الخلاف نشب بين الاثنين مما أدى إلى تأجيل فتح بيت المقدس الذي كان يمثل الحلم لدى نور الدين إلى أنه توفي سنة 1174، مما ترك المجال متاحا لصلاح الدين في توحيد الشام ومصر والجزيرة الفراتية ومن ثم تأسيس الدولة الأيوبية سنة 1175، لتبدأ مرحلة تحرير بيت المقدس التي تكللت بالنجاح في عام 1187 بعد معركة حطين الشهيرة التي انتهت بهزيمة كبرى للصليبيين. ولحق الفتح مرحلة من الصراع الطويل مع الصليبيين شهدت حالات إخفاق ونجاح حتى بدأ عملية التحرير الكاملة لبلاد الشام في نهاية القرن الثالث عشر وفتح عكا عام 1291. وشهدت هذه السنين الطوال ثماني حملات صليبية ابتداء من الحملة الأولى عام 1096 حتى الحملة الثامنة بقيادة لويس التاسع التي توجهت إلى تونس عام 1270.

ومما يمكن أن نلاحظه من هذه الحروب الصليبية:
– أنها ابتدأت بدعوى إيمانية لتحرير بيت المقدس كما في الحملات الثلاث الأولى (1096، 1147،1190)، لكنها كثيرا ما تحولت دوافعها إلى اقتصادية كما في الحملة الخامسة 1219 والسابعة 1249 اللتين توجتها إلى مصر باعتبارها الحامية الرئيسة لبيت المقدس، والحملة الثامنة 1270 التي توجهت نحو تونس واللاتي انتهين بالفشل، ونلاحظ توجه الحملة الصليبية الرابعة 1205 نحو القسطنطينية التي كانت تحت سلطان الدولة البيزنطينية نظرا للاختلاف بين الرومان الكاثوليك والبيزنطيين الأرثوذكس.

– تعددت الدول التي نشأت في بلاد الشام ومصر اللذين كانا يمثلان الثقل الأكبر في مواجهة الصليبيين ابتداء من الدولة الزنكية فالأيوبية فالمماليك، الذين كان لهم دور مهم في مواجهة الصليبيين ومن ثم إجلائهم بصورة كاملة كما فعل الظاهر بيبرس ثم قلاوون ثم ابنه الخليل شريف.
– التفكك الذي كانت عليه الأمة هو السبب في الهزائم التي مُنيوا بها في بداية الحملة الصليبية.
– النصر لا يأتي دون توحيد الكلمة والصف، والقضاء على كل جيوب الخيانة والغدر.
– التخطيط العسكري الفذ والصبر والجَلَد، كما لدى عماد الدين زنكي وابنه نور الدين وصلاح الدين.
– وجود ملوك ضعاف أو طامعون في تأمين سلطانهم، يؤدي إلى نتائج كارثية كما فعل الملك الكامل ابن الملك العادل، أخو صلاح الدين، من تسليم جزء كبير من بيت المقدس إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الثاني في الحملة الصليبية السادسة سنة 1244م.

– إن الصليبيين جاءوا من أماكن مختلفة مثل فرنسا وإنجلترا والنرويج وفلاندر وألمانيا وإيطاليا وقبرص، تجمعهم راية الصليب تارة وأطماع اقتصادية تارة أخرى.
– إن الصليبيين لم يفرقوا بين عربي أو أعجمي، سني أو شيعي، إذ الحرب كانت حربا ضد المسلمين في عمومهم.
– قام الصليبيون وباسم الصليب بجرائم عرقية وتطهيرية تمثلت بقتل المدنيين المسلمين وفي حالات كثيرة لم ينجُ منهم حتى اليهود والمسيحيين، والأسرى عند اقتحامهم المدن، وقيامهم بأعمال وحشية باسم الدين والعقيدة، وهذا ما يحطم الأسطورة التي يشيعها بعضٌ بأن المسيحية دين تسامح في حين أن الإسلام دين سيف، إذ إن الفتوحات الإسلامية لم ترتكب ما ارتكبته الحملات الصليبيين من قتل للمدنيين وتدمير للمدن.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى