مقال عالم أسير | لَبـرَلة الولاء والبراء (2/2) | د. إبراهيم السكران

مقال عالم أسير | لَبـرَلة الولاء والبراء (2/2) | د. إبراهيم السكران

[حمل العدد الأخير:http://bit.ly/2WDaNls حمل هدية العدد:http://bit.ly/2YHFQOT ]
وأما قولهم “إنه يمتنع أن يجتمع في الشخص الواحد المحبة والبغض، وبالتالي فما دام يجوز أن يحب زوجته الكتابية فلينتفِ البغض الديني عنها”.
فهذا كلام في غاية الضعف العلمي فإن الدواء يجتمع فيه الحب والبغض فهو محبوب من وجه ومبغوض من وجه، وهذا مثال يكرره أهل العلم للتدليل على كيفية اجتماع الحب والبغض في شخص واحد، ونظير ذلك في الشرعيات أن القتال في سبيل الله يجتمع فيه كره طبيعي لما فيه من إيذاء النفوس، وحب شرعي لما فيه من ثواب عظيم؛ كما قال تعالى في الكراهية الطبيعية للقتال: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ } [البقرة: 216]، وقال تعالى في الحب الشرعي للقتال: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة: 92] فانظر كيف أخبر أنهم يكرهون القتال طبعاً ثم تفيض أعينهم من الحزن إذا فاتهم القتال لحبهم إياه شرعاً وديانة.
فمن أنكر الكره الطبيعي للقتال فقد كابر، ومن أنكر الحب الشرعي للقتال فما عرف معنى الإيمان بعد، فإن أثبت اجتماعهما في محل واحد فكيف ينكر اجتماعهما في شخص واحد وهو الزوجة الكافرة ؟ وكذلك فإن كل نفس تجد في داخلها كراهية السجن كراهية طبيعية، ولكن لما كان فيه مصلحة شرعية ليوسف عليه السلام صار أحب إليه شرعاً وإن كان يبغضه طبعاً، كما قال تعالى عن يوسف: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ ﴾ ( يوسف : ۳۳ ) وكذلك فإن الإنسان إذا تصدق بأنفس ماله عنده اجتمع في هذا الفعل حب وبغض، فهو يحب ماله طبعاً، ويحب التخلي عنه والصدقة به شرعاً، كما قال تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ﴾ (ال
عمران:92). وقال تعالى : {وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ} (البقرة : ۱۷۷)، وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ} (الذاريات: 8) .
وأما قول بعضهم: (إن الحب والبغض عمل قلبي يهجم على القلب لا حيلة فيه، وبالتالي يعفى عن حب الكفار). فمؤدي كلام هؤلاء إخراج الحب والبغض عن أصل التكليف، وبالتالي يطال كل أوامر الحب والبغض التي أمر الله بها ورسوله، فصار أمر الله بحبه، وحب رسوله، وحب الأنصار، وحب آل البيت، وغيرها من الشرائع، كلها لغو وعبث لا قيمة له؛ لأن الحب والبغض شأن قلبي يهجم على الانسان ولا حيلة له فيه، ومشهور أن من أعظم خصال الإيمان ما نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ولده). (أخرجه البخاري ( 14 ) من حديث أبي هريرة).
فلو جاء شخص وقال الحب عمل قلبي يهجم على المرء بلا حيلة، ولا أجد في نفسي حب النبي أكثر من والدي وولدي. فهل هذا الكلام مقبول؟ ولذلك لما جاء عمر وأخبر النبي بما في نفسه لم يقبل النبي هذا الكلام، وصحح له هذا الفهم، حتى ارتقى إيمان عمر، كما في البخاري: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي! فقال النبي: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي: الآن يا عمر). (أخرجه البخاري 6623 من حديث عبدالله بن هشام).
فعمر رضي الله عنه حين قال (لأنت الآن أحب إليّ من نفسي) إنما جاهد نفسه حين عرف ثواب الحب، فالحب والبغض يحصل بالمجاهدة. ولذلك فإنه لما أبغض بعض الناس بعض التشريعات بغضاً دينياً جعل الله ذلك منهم ردة وخروجاً عن الإسلام ولم يقل الحب والبغض شعور يهجم على القلب لا حيلة له فيه، كما قال تعالى: { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}. (محمد: 9)
وأما قول بعضهم: (بعض الكفار يحسنون إلينا، فكيف نكرههم وهم يحسنون إلينا، ولا يوجد إنسان سوي إلا وهو يحب من أحسن إليه، ويجد ذلك في نفسه ضرورة). فهؤلاء المعترضون بمثل ذلك لم يتفطنوا إلى أن الحب هو حصيلة أفعال المحبوب، والبغض هو حصيلة أفعال المبغوض، فهذا الكافر أحسن إليك بمال أو هدية أو ابتسامة لكنه أساء إلى ربك بالكفر، وربك أغلى عليك من نفسك، ولذلك فإساءته لك أعظم أضعافاً مضاعفة من إحسانه المادي إليك، إلا إن كانت نفسك أغلى عليك من ربك وخالقك وصرت ترى أن من أساء إليك فهو مستحق للبغض، لكن من أحس إليك وأساء لخالقك فهو مستحق للحب، فقائل هذا قد جعل نفس أعظم من الله، وإلى هذا المعنى أشار السبكي إشارة بديعة للغاية حين قال في فتاواه:
(والذي يظهر أن النفوس الطاهرة السليمة لا تبغض أحداً ولا تعاديه إلا بسبب إما واصل إليها أو إلى من تحبه أو يحبها، ومن هذا الباب عداوتنا للكفار بسبب تعرضهم إلى من هو أحب إلينا من أنفسنا).
فمن اعترض بالقول إنه ليس من المروءة أن أبغض كافراً أحسن إليّ، فيقال له: بل ليس من المروءة أن تحب كافراً أساء لخالقك لمجرد أنه رشاك بلعاعة من الدنيا، فخالقك قد أحسن إليك أضعاف أضعاف ما يقدمه لك هذا الكافر، بل لا نسبة للنعم التي أعطاك إياها خالقه ولعاعة الدنيا التي أعطاك إياها هذا الكافر.
وعلى أية حال، فإن من يستحضر أن هذا الكافر يسيء إلى الله بجحد إلهيته أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يهجم على قلبه بغضه قلبياً، فهذا يعني أنه قلب ميت، فليبك على قلبه، فإن القلب الحي لا يرضى بأن يساء لخالقه ومولاه، إلا إن كان يعتبر الكفر وجهة نظر شخصية لا تغضب الله.
وأما قولهم: (كيف أكرهه وأحبه وقد يكون في داخل الأمر على خلاف ما هو عليه؟ بمعنى: قد أعتقد أنه كافر لكنه في حقيقة الأمر مسلم).
فيقال: الحب والبغض من الأحكام الشرعية، والأحكام الشرعية تتعلق بالظاهر، ولذلك كان تطبيق هذا الحكم على الأعيان مسألة اجتهادية قد يصيب المرء فيها وقد يخطئ خطأ مغفوراً، ولذلك قال ابن تيمية: (ثم الناس في الحب والبغض، والموالاة والمعاداة، هم أيضاً مجتهدون يصيبون تارة ويخطئون تارة). وقبل ذلك نبه الإمام محمد بن الحنفية كما رواه اللالكائي عنه حيث يقول: (من أبغض رجلاً على جور ظهر منه، وهو في علم الله من أهل الجنة؛ أجره الله كما لو كان من أهل النار).
وأما قولهم: (الكفار متفاوتون فكيف نجعلهم سوياً في البغض والمعاداة القلبية؟!). فهذا غير صحيح، ولم يفتِ أحد من أهل السنة بكون الكفار سواء في البغضاء، فإن الكفر يتفاوت في ذاته، كما يتفاوت الإيمان، ولذلك فإنه كما يكون في أهل الخير أئمة في الإيمان، كما قال تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74)، فإنه كذلك يكون في الكفار أئمة فيه، كما قال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: ۱۲]، وكما يتفاوت حب أهل الإيمان بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه، فكذلك تتفاوت معاداة وبغض الكفار بحسب رسوخهم وإمامتهم فيه.
وأما قولهم: (إن تغيير الحكم الشرعي في بغض الكفار سيكون له دور في الترويج للإسلام والدعوة). فقائل هذا الكلام عكس النتيجة كلياً؛ بل تحريف النصوص الشرعية في بعض الكفار أعظم ذريعة إلى الطعن في علماء الإسلام ودعاته أنهم كاذبون مخادعون يتلاعبون بنصوص شريعتهم لأجل مصالح حركية.
إنه لا يخدم صورة الإسلام مثل العلم الصحيح الصادق، نعم؛ قد يتدرج العالم أو الداعية في تنفيذ بعض الأحكام، أما تحريف الأحكام الشرعية فهذا لا يقع من عالم صادق لأجل أي مصلحة موهومة، وشتان بين التدرج والتحريف، على أن بعض أهل الأهواء يحتجون بأفعال النبي، وعمر بن عبد العزيز في التدرج على التحريف، فيخلطون بينهما. ثم افترض أننا استطعنا عبر عمليات تجميلية لبرلة الولاء والبراء وتحريف نصوص «بغض الكفار»، فماذا سنصنع بقوله تعالى عن الكفار: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ} (الفرقان: 44)؟ وقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} (الأنفال:55)، وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ} (الجمعة: 5)، وقوله تعالى: {إنَّمَا الْمُشركون نجسٌ} (التوبة: ۲۸)، وقوله تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} (التوبة: 1)، وقوله تعالى: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: ۷]، وقوله تعالى: {أعِزَةً على الكافرين} [المائدة: 54]، وقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ } (الممتحنة: ۱۰)، ونحو هذه الآيات
فهل سنحرف كل هذه الآيات ونظائرها حتى نقوم بترويج الإسلام والدعوة؟ هناك ملفات كثيرة يريد متفقهة الثقافة الغربية الغالبة العبث بها، لكن آخر ما يمكن أن يحرفوه هو موقف القرآن من الكافر، لقد وضع القرآن الكافر في غاية ما يتصوره العقل البشري من دركات المهانة والحقارة والانحطاط، واستعمل القرآن كل التعابير الممكنة في بيان رجسية الكافر، فأي تأويل يا رحمكم الله يمكنه أن يتلاعب بهذه الآيات القرآنية؟
وهل تدري أين جوهر المشكلة في كلام هؤلاء الذين يريدون تغريب العقيدة ولبرلة الولاء والبراء؟ إنها في حرمان المسلمين من أوثق عرى الإيمان: (إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله، وتبغض في الله). [أخرجه أحمد] وتصرفات متفقهة الثقافة الغالبة في لبرلة الولاء والبراء هي من أوضح النماذج والتطبيقات في تقديم المتشابه على المحكم، وعاهة تقعيد الاستثناءات (أي تحويل الاستثناء إلى أصل، والأصل إلى استثناء)، فالله أمر ببغض الكفار وأجاز نكاح الكتابية، فأخذوا الاستثناء وهدموا به الأصل، فهل هذا إلا فعل أهل الأهواء؟ فكفوا يا رحمكم الله عن تشذيب الإسلام وقصقصته لأغراض التبسم في مؤتمرات إنشائية يخدع بها الحاضرون أنفسهم، قبل أن يخدعوا غيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ننشر هذا المقالة للباحث إبراهيم السكران – المعتقل ظلماً بالسعودية – وهي مقتطفة من كتابه: سلطة الثقافة الغالبة، ص194 وما بعدها، ط: دار الحضارة، ط1، الرياض، 1435.
(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى