المرأة بين التشريع الرباني والموروث البشري

المرأة بين التشريع الرباني والموروث البشري

د. سيرين الصعيدي

قضية #المرأة في مجتمعاتنا لا زالت تعاني وضعاً لا تحسد عليه من الإفراط والتفريط، ولا يستطيع أن ينكره عاقل، فإن كان تردي وضعها ومكانتها في المجتمعات الغربية أمر لا بد منه -لبعدها عن شريعة الإسلام، وتحكم أهل الأهواء والشهوات في قضاياها- فإن تفشي ذلك في مجتمعات تؤمن بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً، فإن ذلك من مكامن الخطر التي تهدّد كيان مجتمعاتنا، ونذير شؤم ينعق على خراب بيوتنا، بل وأجيالنا كلها.

فلا التفريط في حقوقها، ولا الإفراط في دورها وشأنها يخدم أيّ منهما المرأة وقضاياها، وإن حاول كلا الطرفين ارتداء ثوب القداسة والبراءة والإنسانية؛ لأن كلاهما يذبح الإنسانية في المرأة من الوريد إلى الوريد قرباناً لأهوائهما وغاياتهما، وإن حاولا الظهور بغير هذا، فالأول يدفن المرأة ويئدها في الحياة، وقد جرّدها من كل حق أكرمها الله به، والآخر بإفراطه حمل اللواء وتصدّر منصات لجان وجمعيات حقوق المرأة، وحقيقة كلمة حق أريد بها باطل، وأعلى ما حققوه من منجزات أن جعلوها سلعة تُباع وتُشترى وتُعرض على المستهلك وليس أكثر من ذلك!

وفي دوامة الصراع بين الطرفين أضاعوا الحقوق والواجبات؛ إذ اعتمدوا في حراكهم في قضايا المرأة على موروثات بشرية تحتمل الصواب والكثير من الخطأ، واتخذوا من تصوّر فلان من البشر أو قانون ما المرجعية في قضايا المرأة، والأصل لمن أراد الحق -وكانت الحكمة ضالّته- أن يجعل مرجعيته في قضايا المرأة وسائر القضايا بعالم الغيب والشهادة ممن خلقهما وأودع الروح في هذا المخلوق البشري ألا وهو المرأة ، ولا أقول أنّ المرأة نصف المجتمع، بل هي المجتمع كله، كونها القائمة والمتعهدة لنصفه الآخر.

وخلاصة الخروج من دوامة إشكالية المرأة ودحض الشبهات التي تثار في قضيتها بين حين وآخر، لا سيما فيما يخصّ الغاية من وجودها ودورها في كل أطوار حياتها، ومسؤوليتها أمام ربها ودينها ونفسها ومجتمعها، إنما مدار ذلك بالرجوع للنصوص المعتبرة والموثوقة من مراجعنا، وليس هناك أصدق من كلام ربنا وسنة نبينا وسير الصحابة الذين هم أفضل القرون، والذين كانت حياتهم ترجمة وسلوكاً عملياً للشرع الذي ارتضاه الله لنا. ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً- تذكرة المخلوق بالغاية من خلقه وإيجاده، سواء كان ذكراً أو أنثى، وهذا يتمثل في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات: آية56]، فالذي يحصر وجود المرأة بكونها وعاء لتفريغ شهوات الرجال، أو لعبة للهو بها، إنما يتعدى بذلك على حكمة الله من إيجاد الخلق ، ولتقليل دور المرأة، ولإثارة الشبهات في فكرها، وبالتالي اضطراب ثقتها بنفسها، فيضطرب باضطرابها المجتمع بأسره، وذلك من خلال ليّ وتحريف أعناق النصوص؛ ليخدم أهواء قامت في نفسه، مع التأكيد على عدم الاعتراض أو التذمر من وجود الشهوة في كلا الجنسين، بل هي وسيلة من وسائل التعبد لله، لا يفهم جمالها ونقاءها إلا من تشربت نفسه من منابع هذا الدين الحنيف.

ثانياً- المساواة بين الرجل والمرأة في أصل التكوين، بدلالة قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [سورة الأعراف:آية189]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [سورة النساء: آية1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال) (رواه أبو داود).

هذه النصوص لو تفكرنا بها، وأذعنّا للخطاب الرباني فيها، لأدركت عقولنا فضل الله علينا بالإيجاد والخلق أولاً، والذي أوجدهم وحده جلّ شأنه الذي يرسم لهم معالم حياتهم، ويشرّع لهم أنظمتهم، وأسس التعامل بينهم، ووحده جلّ شأنه من يحدد لهم حقوقهم وواجباتهم، وإليه المرجع والتحاكم في الاختلاف، كما أنّ هذه النصوص توحي بأن البشرية صدرت عن إرادة واحدة، وانبثقت من أصل واحد، وبناء على هذا الفهم نفهم ذواتنا ووظائفنا وطبائعنا ومبدأنا ومنشأنا، وإلى ما نصير إليه من شرع ربنا، وتفرّغ كل منا للمسؤولية الملقاة على عاتقه دون تغييب أو تغليب جنس على آخر.

ثالثاً- المساواة في التكليف والجزاء، إذ يقول جل شأنه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [سورة الأحزاب: آية35]، ويقول عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ} [سورة آل عمران: آية195].

رابعاً- كرامة الإنسان وقيمته في الوجود، أي إنسان-بغض النظر عن جنسه ولونه- إنما يستمدها من كونه مخلوق الله تعالى، ومن ثم من حسن قيامه بما كلّفه به ربه جل شأنه، ومدى استجابته لأمر ربه، والتزام شرعه، فالمرأة إنما تستمد كرامتها من الله تعالى وليس من المحيطين بها من الرجال، ولا من منصب دنيوي أو مركز بشري، وهذا له شواهده وأدلّته من الشرع الحنيف ومن هذه الشواهد والنماذج:

المرأة إنما تستمد كرامتها من الله تعالى وليس من المحيطين بها من الرجال، ولا من منصب دنيوي أو مركز بشري

*نموذج آسيا امرأة فرعون، إذ يقول تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [سورة التحريم: آية11]، انظر لكرامتها مع أن زوجها فرعون عصره.

*نموذج مريم ابنة عمران، وقيمتها عند الله وقدرها وثقل التكليف الذي امتثلت له، وصبرت عليه بإذعان وتسليم مطلق، فقد كانت المثل الثاني الذي ضربه الله للذين آمنوا: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [سورة التحريم: آلآية12].

بالمقابل انظر لأولئك الذين فقدوا كرامتهم عند الله، وضرب الله فيهم مثلاً للذين كفروا، فلم تغن عنهم صلتهم وقرابتهم من صفوة البشرية أنبياء الله شيئاً:

*نموذج زوجتي لوط ونوح عليهما الصلاة والسلام: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [سورة التحريم: آية10].

*نموذج ابن نوح عليه السلام، إذ يأتي التقرير الرباني بإلغاء أي صلة لم تكن العقيدة أساسها، ولم تشفع له بنوته من نبي كريم على الله من إهدار كرامته، وعدم اعتبارها، إذ يقول تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [سورة هود: آية46].

من خلال النظرة السريعة السابقة والموجزة، وبناء على فهم تلك النصوص، يتبين لنا أنّ للمرأة دوراً في كافة أدوار حياتها، فهي حجر الأساس في الأسرة التي هي لبنة المجتمعات، وإذا فهمت المرأة دورها ورسالتها في الحياة وعملت على تحسين أدائها والقيام بما عهد لها ربها من مسؤوليات جسام لا ينكرها عاقل، أدركت أن لها مسؤولية مستقلة وأساسية بشخصها وكيانها، وليس كما يصدر لها من تهميش لوجودها، وذوبانها في ذوات غيرها، وإنما عليها أن تفهم أن لها دوراً متمماً لأدوار غيرها، كما أن أدوار غيرها متمم لدورها، وللخروج من دوامة الصراع حول كيان المرأة، وفهم دورها في هذا الوجود، عليها أن تقف وقفة متأنية جادة أمام النصوص الآتية:

1-قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يسألَ عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فَعَلَ، وعن ماله من أين اكتسبهُ، وفيم أنفقهُ، وعن جسمه فيم أبلاه) (رواه الترمذي).

عندما تدرك المرأة أنها ستسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فهذا يمدّها بثقل وأهمية دورها ومسؤوليتها في المجتمع، فلا يتسع وقتها لمهاترات وسجالات النزاع والشبهات التي يثيرها الطاعنون والمغرضون.

عندما تدرك المرأة أنها ستسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فهذا يمدّها بثقل وأهمية دورها ومسؤوليتها في المجتمع، فلا يتسع وقتها لمهاترات وسجالات النزاع والشبهات التي يثيرها الطاعنون والمغرضون

2-حديث: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته) (رواه البخاري).

3- قول الأوزاعي: كان يقال: (ما من مسلم إلا وهو قائم على ثغرة من ثغر الإسلام فمن استطاع ألا يؤتى الإسلام من ثغرته فليفعل) (كتاب السنة للمروزي).

وهل تدرك المرأة أنها تقيم على أهم ثغرة من ثغور المسلمين، وهي الأسرة المسؤولة عن تربية وإنشاء الأجيال !

فالمرأة التي هي ربّة المنزل أي هي المسؤولة والقائمة عليه، هي حقيقة على ثغرة لا ينبغي التقليل من شأنها، أو احتقارها، فقد أقامها الله في هذا الدور، وكلّفها بذلك، فعليها أن تؤدي ما عليها؛ لأنها ستحاسب على ما كلّفها به ربها الذي هو الحكيم العليم الخبير بما هو أصلح لنا، جاء في لسان العرب: “ربب”: الرب: هو الله عز وجل، هو رب كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق، لا شريك له، ولا يقال الرب في غير الله إلا بالإضافة، و رب كل شيء: مالكه ومستحقه، وقيل: صاحبه، ويقال: فلان رب هذا الشيء، أي ملكه له، وكل من ملك شيئا فهو ربه. يقال: هو رب الدابة، و رب الدار، وفلان رب البيت، والرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد والمدبر والمربي والقيم والمنعم، وترباه أحسن القيام عليه، ووليه حتى يفارق الطفولية.

بناء على ما سبق فإن للمرأة وظيفة اختصها الله بها، حيث أمدّها بكل ما تحتاجه من وسائل وأساليب، وهيأها بمقومات أساسية تحتاجها لهذه الوظيفة، فإن وعت دورها وأدركت خطر وعظم مسؤوليتها، قام في نفسها شعور المسؤولية والأهمية الذي يجعلها تراعي الله في نفسها، وفي أمتها، ففازت وفلحت، وكانت سبباً في فوز وفلاح غيرها، وإن عاندت الفطرة التي فطرها الله عليها، وقتها تكون أول المعاول التي تهدم كيانها وكيان أمتها بأسرها، وليكن قول ربنا جل علاه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [سورة الأحزاب: آية36].

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى