كيف وصلنا إلى درك التشكيك بصحيح البخاري؟

كيف وصلنا إلى درك التشكيك بصحيح البخاري؟

بقلم أحمد اسماعيل سعود

أزمة هؤلاء الذين يحدثوننا عن صحيح البخاري وكتب السنة وأبي هريرة رضي الله عنه وحجّية السنّة هي جهلهم المركّب، فلا هم يعترفون باختصاص علمي، ولا هم يعلمون بجهلهم، ثم بعد تراهم يهرفون بما لا يعرفون، فيَضِلّون ويُضِلّون! كان لمدرسة الإحياء والتجديد السلفية دورها الذي لا ينكر في إزالة الحواجز بين العامة والأصول، فربطوهم بالكتاب والسنة، وردّوهم إلى مورد النبع الصافي قبل أن تعكّره دلاء آراء الرجال، وحاولوا تنقية التراث من أخلاط الأفهام الشاذّة عن منهج أهل الاصطفاء والخيريّة.

كان لهذا المنهج نفعه العميم الذي أوقد جذوة الاجتهاد بعد كمون، وأزال ركاما من الشطط والغلوّ وتقديس الأشخاص والتعصّب للآراء والجمود على اختيارات صارمة في التراث لم تعد تتسع لنوازل العصر! غير أن بعض أتباع المدرسة، وخاصة من تصحّر منهم ولم يختلط بثقافات متعددة وآراء متدافعة، اتخذ موقفا متطرّفا بحق فهم الكتاب والسنّة، فقصر الاجتهاد على مدرسة في الفهم واحدة، زعم أنها فهم السلف دون سواها، وتطاول على فهم سواه بدعوى أنها آراء رجال! حتى كان بعضهم يتطاول على رموز مدارس فقهية كبيرة بقوله: “هم رجال ونحن رجال”!

هذا الطعن المستمر بفقه التراث، وإغراء العامة بالعودة المباشرة للكتاب والسنّة، مع ظاهرية في الفهم، وقلة عناية بفقه المقاصد، وعدم حكمة في ترتيب الأعمال، وفقه تغيير المنكر، وأمور أخرى، جعلت كثيرين ينفرون من هذه المدرسة الظاهرية، ثم لا يعودون بعدها لمدارس التراث التقليدية، ولا يحترمونها، بذات الدعوى: أنهم رجال، وأولئكم رجال! أما الاختصاص، فلا يهم أن تكون ساعاتيا أو طنبرجيا أو مهندس بترول أو مدني أو طبيبا أو شاعرا أو قصّاصا أوموسيقارا! كلهم رجال، وكلهم يستطيع العودة للكتاب والسنّة، بلا مدارس فقهية ولا دراسات!

بل طور هؤلاء المسفّهون الجدد للتراث، والذين يحلو لهم أسماء التنوير والتغيير، فصاروا يسمّون العودة لأصول الفقه تصنيما، فيحقرونه بدعوى التجديد، وينالون من رموزه وفي مقدمتهم الإمام الشافعي، حيث زعموا أن العصر تجاوز قوالبهم ومحدداتهم! وقرأوا مدارس الفقه الأربعة كاجتهادات لأشخاص أربعة، وليس كنسق لأمة من العلماء تضافرت اجتهاداتها ضمن أصول وقواعد لتختط مذهبية فقهية، من الظلم ادّعاء أنها تمثّل حالة اجتهاد فردي!

الطامة الكبرى أن هؤلاء وأسلافهم من المتمسلفين جرّأوا العامة من غير أهل الاختصاص أن يناطحوا أهل الذكر وأولي الأمر في علم الشريعة من الفقهاء الذين يعلمون ويستنبطون.. فصاروا يجترئون بما يفتقدونه من أدوات علم على الخوض في أكبر القضايا وأكثرها حساسية، فما يسمونه مراجعات وتقويما واجتهادات وتجديدا لن يكلّفهم سوى أن يعودوا للمصدرين فيقرأون منهما ببضاعتهم المزجاة في علم الشريعة، ثم يقدّموا للناس شذوذات الآراء مستمدة من بعض الأوهام وسقيم الأفهام وعقدة الهزيمة أمام هجمة ذئاب الاستشراق وتشويههم كل قيم الإسلام! وصدق القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي رحمه الله حين قال:

وإن ترفع الوضعاء يوماً … على الرفعاء من إحدى البلايا
إذا استوت الأسافل والأعالي … فقد طابت منادمة المنايا

إن نقطة البداية في خط الانحراف انطلقت من تجريئ هؤلاء الرويبضة على النهل من كتب السنّة دون إعداد تحضيري لهذه المهمة! وصدق من قال قديما أن الفقهاء أطباء والمحدّثين صيادلة، والحقيقة أن كتب السنّة النبوية صيدليات نبوية، ونصوص الكتاب والسنّة هي أدوية ذات فعالية وتأثير، ولكن بعض هذه الأدوية الحديثية وصفات صيدلانية خطيرة يجب أن تحفظ بعيدا عن (الأطفال)، حتى لا يجترئ الأصاغر على الأكابر كالبخاري وغيره، فهذه الصحاح والمسانيد والسنن والجوامع والمعاجم صيدليات، فلا يجوز صرف أدويتها إلا بوصفة طبية من فقيه معتبر، بالكمية والاحتياطات المذكورة في الوصفة الطبية (الفقهية) المرفقة، وأي زيادة في الجرعة قد تكون قاتلة!

مرة أخرى احفظوا أدوية الحديث النبوي بعيدا عن متناول الأطفال! بل عبث هؤلاء أخطر من عبث الأطفال، فالأطفال حماهم الله يؤذون أنفسهم إذا عبثوا بها، أما عبث الرويبضة فيتعدى أذاه لفتنة أمة من الناس يضلّونهم فيزيّنون لهم المنكر ويشوّهون المعروف، فأنى يرتوي الناس بهدي الشريعة بعد، ومتى ينوّر الله قلوبهم؟!

متى تصل العطاش إلى ارتواء … إذا استقت البحار من الركايا؟!

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى