قضية الإصلاح المجتمعي بين القرآن ودعوات الأنبياء

قضية الإصلاح المجتمعي بين القرآن ودعوات الأنبياء

بقلم عزة مختار

حين نتحدث عن قضية التغيير المجتمعي فيلزمنا قرن المسألة بالبديل عن الواقع المُرّ الذي تحياه الأمة، وهذا البديل هو الإصلاح، وحين نتحدث عن #الإصلاح فيلزمنا كذلك أن نحدد مفهوم وحجم هذا الإصلاح المنشود الذي تحتاجه الأمة، هل هو إصلاح شامل وتغيير كلي، أم إصلاح جزئي مع الإبقاء على بعض المفاهيم التي لم يمسها التغيير الجذري، والتعديل السلوكي.
والقرآن الكريم وفعل الأنبياء وضّحا مفهوم #التغيير والإصلاح المجتمعي بشقيه العام والخاص، أو الكلي والجزئي، فما أرسل الأنبياء إلا ليقوموا بالتبليغ لإحداث إصلاح ديني ينبني على دستور سماوي لا يميل لهوى، ولا يخضع لنقصان.

-الإصلاح في القرآن:

تناول القرآن مفهوم الإصلاح بصيغتين: صيغة الصالحين، وهي تعبر عن الصلاح الفردي، وصيغة المصلحين، وهي عدم اكتفاء الصالح بصلاحه، وإنما تصديه لعملية الإصلاح لغيره، وبين القرآن أن تلك الفئة هي السبب في بقاء البشرية وحفظها وضمانة وجودها، فيقول تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} [هود،آية:117].

يقول الأستاذ “سيد قطب” رحمه الله في الظلال: “وهذه الإشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الأمم، فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها إما بهلاك الاستئصال وإما بهلاك الانحلال والاختلال.

فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده وتطهير الأرض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره هم صمام الأمان للأمم والشعوب، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره، إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ودينهم فحسب، إنما يحولون بهذا دون أممهم وغضب الله واستحقاق النكال والضياع” اهـ.

ومن هذه الآية نخلص إلى أن مسألة الإصلاح في الأرض ليست مسألة اختيار يقوم بها البشر، أو يهملونها، إنما هي فريضة على فئة منهم لتضمن عدم هلاك الجميع.

مسألة الإصلاح في الأرض ليست مسألة اختيار يقوم بها البشر، أو يهملونها، إنما هي فريضة على فئة منهم لتضمن عدم هلاك الجميع

ولقد أولى القرآن الصلاح والإصلاح اهتماماً كبيراً يليق بمقام القائمين على حفظ المجتمع بإصلاحهم له، فأثنى الله على المسلمين بقوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء،آية:105]. وقال تعالى: {ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين} [الأنبياء، الآية:72].

وربط الله عز وجل الإصلاح بالتقوى، فقال سبحانه: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} [الأنفال،آية:1]، والمؤمن حين يدعو فهو يدعو بالصلاح، قال تعالى: {وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين} [الأحقاف،آية:15].

والإصلاح في الأرض هو أصل قبول الأعمال، قال تعالى: {ومن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} [غافر،آية:40]، والآية تدل على العمل وليس مجرد القول، والإصلاح شرط في قبول التوبة، قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم} [الأنعام،آية:54]، ويقول تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم، فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم} [المائدة،آية:38]، ويقول أيضاً: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} [النور،آية:4].
فالتوبة من ذنب، أو إثم، أو تقصير في حق النفس أو حق الأمة، أو حق الله يلزمه تبديل العمل، وتغيير الذات بالإصلاح ، ولا يكفي معها الصلاح الفردي ليكون الناتج الحتمي نجاة المجتمع بمن فيه الفاسد، كأن المصلح ينقذ السفينة بمن عليها، فيقول ربنا تبارك وتعالى: {وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} [هود،آية:117].

-الإصلاح الغاية من إرسال الأنبياء:

ولأن الله عز وجل خلق الأرض بمن عليها؛ لتعبيد الناس لله مختارين غير مرغمين، فقد أرسل الرسل ليبينوا، ويعلموا، ويوضحوا بالأدلة قضية وجود الله عز وجل، وأنه وحده المستحق للعبادة، وأن منهجه القويم هو المنهج الوحيد القادر على ضمان السعادة للإنسان في الأولى والآخرة، وغالباً ما يبعث النبي حين تضل البشرية وتضيع من سبيل خالقها، فيأتي ليبدل حالة الكفر لحالة إيمان، وعقيدة الشرك لعقيدة توحيد، واستبدال التشريع البشري بتشريع سماوي، ومن الضعف إلى القوة، ومن النقص الإنساني إلى الكمال الإنساني، ولأن البشرية دائمة النسيان، فقد سنّ الله عز وجل سنة العمل الدعوي للأمة الخاتمة، وحثّ المسلمين عليها، وجعل خير القول هو الدعوة إلى الله، {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله} [فصلت، الآية:33]، حتى يستمر التذكير والتجديد لدين الله عز وجل، إن مهمة الأنبياء ومن خلفهم الدعاة تتلخص في تحرير الإنسان من كل عبادة سوى عبادة الله عز وجل، وتحكيمه دون غيره، وتحرير المجتمع من ظلم الظالمين أو المستبدين الذين يضعون أنفسهم في مقام الألوهية، فيشرعون للناس ويرهبونهم من دون الله.

إن مهمة الأنبياء ومن خلفهم الدعاة تتلخص في تحرير الإنسان من كل عبادة سوى عبادة الله عز وجل، وتحكيمه دون غيره، وتحرير المجتمع من ظلم الظالمين أو المستبدين الذين يضعون أنفسهم في مقام الألوهية، فيشرعون للناس ويرهبونهم من دون الله

وكل مسلم مطلوب منه أن يكون داعية لله في مكانه أو وظيفته أو شارعه بقدرته التي وهبه الله إياها ، فالعلماء تختلف وسيلتهم عن العامة، والقادة تختلف قدرتهم عن المقودين، ولذلك قسم الله التغيير حسب القدرة الفردية لكل مسلم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (صحيح مسلم).

ولا يقبل من المسلم أن يكون مداهنا للباطل وإلا فهو مهدد بالوقوع في الرياء أو النفاق، وأقل مقام في التغيير هو الإنكار بالقلب أي كراهية الباطل وتجنبه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (صحيح مسلم).

وخلاصة القول أن قضية الإصلاح ليست قضية هامشية في حياة الأمة المسلمة، وإنما هي الفيصل بينها وبين الأمم السابقة ، فلا يصح منها إسلام أو إيمان أو عبادة بينما هي تتعايش مع الباطل والفساد والاستبداد وحكم الظالمين، إنه أصبح واجباً على تلك الأمة أن تسعى للنهوض السريع، ونفض غبار التواكل والركون للباطل بحجة تفوقه، وإنما لينهض قادتها والمهتمون بتغيير واقعها المرّ لتربية شبابها وفتياتها، وإعداد جيل يعلم يقيناً أن المستقبل لهذا الدين شاء من شاء، وأبى من أبى، وإن لم نقم نحن بمهمة التمكين له والتعريف به، وهداية الناس إليه، فسوف يكون الاستبداد الأكيد، ليأتي الله بقوم يرفعون تلك الراية، ويبذلون أنفسهم في سبيلها، فالصلاح وحده لا يكفي لبناء الأمم، وإنما يقوم على ذلك بالمصلحين لا غيرهم.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى