تقارير وإضاءات

“ليبانتو”.. لماذا كتب “سفاح نيوزلندا” تاريخ هزيمة عثمانية ساحقة على بندقيته؟

“ليبانتو”.. لماذا كتب “سفاح نيوزلندا” تاريخ هزيمة عثمانية ساحقة على بندقيته؟

إعداد محمد شعبان أيوب

أسماء كثيرة، ومواقع حربية فاصلة حرص “سفاح نيوزلندا” على تدوينها بدقة على بندقيته، ولم يترك مكانا يصلح للكتابة إلا وكتب عليه اسم “بطل أوروبي” سُجّل اسمه كدلالة على إذلاله المسلمين في معركة من المعارك بين الجانبين، أو تاريخ موقعة حربية سالت فيها دماء المسلمين أمام الغرب أنهارًا في تلك المعركة، فكانت فجيعة كبرى في العالم الإسلامي، ونصرًا وظفرا وابتهاجًا غامرًا في العالم الغربي.

ومن تلك التي حرص الإرهابي على كتابتها على إحدى البندقيتين اللتين ارتكب بهما جريمته، نجد “ليبانتو 1571م”، تلك المعركة البحرية الأسطورية التي لا تزال مصادر التاريخ الأوروبي تزهو بها؛ وتصور في فخر كيف انتصر الصليبيون في ذلك اليوم، وكيف أذلّوا أنف الأتراك، بعدما تخلل إليهم اعتقاد بأن هذه الدولة العثمانية لا يمكن هزيمتها قط، مهما اتحدت أوروبا وتكاتفت تحت “راية الصليب”، لكن هذه المعركة جاءت مع نصر أعاد الأمل، وغير أفكارهم وإستراتيجياتهم، ساعين بعدها بكدّ، للانتقام والمواجهة كلما سنحت لهم الفرصة لذلك.

فما هي معركة “ليبانتو 1571م” أو “إينه باختي” أي “الحظ العاثر” كما سماها العثمانيون؟ وأين ولماذا وقعت؟ وكيف كانت إستراتيجية القادة العثمانيين في تلك المعركة البحرية القاسية والرهيبة على حد وصف مصادر التاريخ؟ وما النتائج التي ترتبت على هذه المعركة في العالمين الإسلامي والغربي؟

      

قبرص في قبضة العثمانيين أخيرا!

قبرص، تلك الجزيرة الواقعة في شرق البحر المتوسط كانت منذ الحضارات القديمة كالبيزنطية والأموية والعباسية وما تلاها أرضا للصراع والتجذابات، فموقعها الإستراتيجي في شرق البحر المتوسط، وإشرافها على طريق التجارة البحري بين الأناضول وشرق أوروبا من جهة وبين مصر والشام من جهة أخرى أكسبها هذه الأهمية، للدرجة التي جعلت بعض القوى الأوروبية الأبعد مكانا تأتي للاستيلاء عليها مثل الفرنسيين والإنجليز والبنادقة!

ففي عام 27هـ/648م استولى المسلمون في عصر الخليفة عثمان بن عفان لبعض الوقت على الجزيرة التي كانت تحت السيادة البيزنطية، ثم اكتفوا منها مقابل أن تدفع الجزية للمسلمين، لكن سرعان ما توقفوا عن هذا الأداء، فقام الخليفة هارون الرشيد بعمل هجوم بحري للاستيلاء عليها، بيد أن الإمبراطور البيزنطي نقفور فوكس تمكن من استردادها بعد ذلك، وفي أثناء الحروب الصليبية استولى ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا على الجزيرة وطرد البيزنطيين منها، وعيّن عليها جوي دي لوزجنان، وبقيت الجزيرة منذ ذلك الحين في القرن الثاني عشر الميلادي تُحكم من قبل سلالة هذا الأمير[1].

لكن بعد طرد المماليك لكافة الصليبيين من المشرق في بلاد الشام لجأت مجموعات من هؤلاء إلى قبرص، ومع الوقت أصبحت الجزيرة مرتعا للصليبيين الهاربين من الشام، وبسبب أعمالهم العدائية قرر السلطان المملوكي في مصر الأشرف برسباي في النصف الأول من القرن الخامس عشر الميلادي السيطرة على الجزيرة، وبالفعل أرسل حملة بحرية كبيرة أنزلت بالجزيرة وصليبييها هزيمة ساحقة، بل وأسرت ملكهم الذي خضع في نهاية المطاف للحكم المملوكي، وأصبحت قبرص ولاية مصرية تدين لها بالجزية السنوية، والتبعية المطلقة منذ ذلك التاريخ، وفي نهاية العصر المملوكي قرر المسئولون من آل لوزجنان الحاكمين بعد انقطاع نسلهم بيع الجزيرة إلى البنادقة[2].

السلطان المملوكي الأشرف برسباي (مواقع التواصل)

اشتُهر البنادقة، نسبة إلى جمهورية البندقية في إيطاليا، بالتجارة والقرصنة، كان القرن الخامس عشر الميلادي قرنهم الذهبي في التجارة، فقد تحصّلوا على أموالهم هائلة، وكوّنوا علاقات سياسية ودبلوماسية قوية مع دول المشرق في مصر والشام والأناضول، وحين استولى العثمانيون على مصر سنة 1517م، أرسلوا إلى اسطنبول مقرين بدفع الجزية السنوية، وعلى إبقاء صداقتهم مع العثمانيين، حتى إن سفير فرنسا آنذاك كتب إلى ملكه يقول:

“إن البنادقة يبدون خانعين للأتراك وكأنهم من أتباعهم، وذلك بسبب قبرص؛ ولأن جُزرهم وأرضهم مُعرّضة لغاراتهم، فحتى يحتفظوا برضاهم كانوا يُقدّمون كل عام على الأقل 500.000 بندقي ذهبي للقسطنطينية (للسلطان العثماني)، واعتادوا أن يُسرفوا للسلطان بالهدايا في كل مناسبة صغيرة”[3].

وانشغل السلطان سليمان القانوني بفتوحاته في أوروبا ومواجهاته مع إيران ومد نفوذه إلى العراق وشمال أفريقيا، ولم يأبه لقبرص لخضوعها التام، والتزامها بالشروط العثمانية، لكن اعتلاء ابنه السلطان سليم الثاني عشر الدولة العثمانية سنة 1566م/974هـ غير من المعادلة، رغم معارضة وزير العثمانيين الأشهر وصهرهم الوزير صقوللو محمد باشا الذي رأى أن فتح قبرص سيجر لحرب أوروبية فيما بعد.

السلطان سليم الثاني (مواقع التواصل)

لكن السلطان سليم الثاني رأى في استقرار البنادقة في الجزيرة خطورة على التجارة العثمانية، ونقطة مانعة لسهولة الحركة بين ولاياتها في الشام ومصر وبين العاصمة إسطنبول، وصدرت فتوى من المفتي الأكبر شيخ الإسلام في اسطنبول جاء فيها ضرورة التحلل من الهدنة، ومحاربة “الكفّار” قاصدًا بذلك البندقية صاحبة قبرص، وأنها ملجأ للقراصنة المسيحيين الذين كانوا يُضايقون رحلات الحجيج بين إسطنبول ومصر.

بل إن هؤلاء القراصنة استطاعوا أن يستولوا على سفينة للسلطان سليم الثاني يوم كان وليا للعهد، كانت محمّلة بالخيول وبضائع ثمينة قادمة من مصر لحسابه الخاص، وحاول مرارًا أن يخلصها منهم، ولم تفلح محاولاته سوى بمقابل دفع فدية مالية كبيرة[4] الأمر الذي حفز سليم الثاني يوم ارتقى إلى العرش على وضع حد لهذه القرصنة البندقية والصليبية على سفن العثمانيين، وحماية لسفن المسلمين، وسهولة لحركة التجارة العثمانية.

هاجم العثمانيون ترسانة السفن البندقية ودمروها عن آخرها، وتنبه البنادقة إلى خطورة هذا الأمر الذي يعني أن الهجوم القادم سيكون للاستيلاء على قبرص، وتوالت رسلهم إلى أوروبا يستنهضونهم ويحذرونهم من الخطر العثماني القادم، وبالفعل بدأت القوى الأوروبية من البابوية وإسبانيا وغيرها بالاستعداد لهذه الخطوة العثمانية، لكن على الجانب الآخر كان العثمانيون قد حشدوا أكبر عدد من السفن لم يسبق أن تجمع لهم حتى ذلك التاريخ مثلها، فقد استطاعوا تكوين 400 سفينة حربية من القطع الكبير لغزو قبرص[5]!

بعد مناوشات سريعة، وهجوم مباغت وقوي، وحصار أقوى لأهم المواني القبرصية، تمكن العثمانيون من اقتحام الميناء الرئيسي للجزيرة في “نيقوسيا” بعد حصارها لعدة أيام، وأحرقوها وقتلوا أعدادا كبيرة من المقاتلين البنادقة، الأمر الذي اضطر بقية المدن والموانئ القبرصية إلى الإذعان للاستسلام والتفاوض، لكن ميناء البنادقة الأشهر “فاماغوستا” ظل لعدة أشهر تحت الحصار العثماني، ولما لم تأت لهم إمدادات من أوروبا فإنهم اضطروا في نهاية المطاف للتسليم والنجاة بأنفسهم، وفي نهاية الأمر وبحلول شهر سبتمبر/أيلول من عام 1570م كان العثمانيون قد استولوا على كامل جزيرة قبرص، وطرد البقية الباقية من قوات البنادقة منها، ثم جاءوا بأعداد كبيرة من الأتراك سُكان وسط وجنوب الأناضول لإسكانهم وتوطينهم في الجزيرة، وبذلك حقّق السلطان سليم الثاني العثماني ما لم يحققه أحد ممن سبقه من آل عثمان[6].

    

الحلف المقدس!

كانت الخسارة فادحة على البندقية، حيث فقدت هذه الجمهورية الصغيرة التي كان عمادها التجارة والقرصنة أهم معقل لها في شرق البحر المتوسط، ولم يكن لهم خيار إلا الانتقام ومحاولة استعادة ما يمكن استعادته، وطلبوا من البابا بيوس الخامس أن ينادي بعمل حلف صليبي مقدس لإنقاذ قبرص من يد العثمانيين، وبالفعل رأى البابا ضرورة عقد هذا الحلف، وظل عاما كامل يُرسل سفراءه إلى أهم ملوك وأمراء أوروبا، وجاء في رسائله لهم أنه “لا توجد في العالم المسيحي أية دولة مسيحية يمكنها أن تقف لوحدها تجاه العثمانية، وبناء على ذلك يجب على كافة الدول المسيحية أن تتحد لتكسر الغرور التركي”[7].

في نهاية المطاف وافقت كل من أسبانيا ومالطة بالإضافة إلى الباباوية والجمهوريات والمقاطعات الأصغير في إيطاليا وعلى رأسها البندقية وفلورنسا ولوكا وجنوة مع مشاركة رمزية من فرنسا وغيرها في الدخول إلى حلفٍ مشترك، وكان هذا الحلف الصليبي هو الثالث عشر ضد الدولة العثمانية في تاريخ المواجهات العسكرية بين الفريقين.

قاد دون جوان النمساوي ابن أخي فليب الثاني ملك أسبانيا الأسطول البحري الذي عُرف بالأرمادا (أي الأسطول في اللغة الإسبانية)، وحين دخل فصل الربيع من عام 978هـ/1570م خرجت العمارة أو الدوننما العثمانية أي الأسطول من خليج إسطنبول تجاه العدو، وكانت تتألف من 250 سفينة حربية تحت قيادة القبودان علي باشا، وبمعاونة من السردار الوزير برتو باشا متجهة أولا إلى قبرص حيث أمدتها بالمؤن الغذائية والعسكرية اللازمة، ثم عادت إلى ميناء مرمريس المقابل لجزيرة رودس لمراقبة مراكب العدو التي أُشيع أنها ستحضر لتلك الأماكن، ثم قررت تلك الأساطيل الاتجاه صوب جزيرة كريت التي كانت تتبع العثمانيين حينذاك، وهنالك التحق بها أسطول والي الجزائر أولوج علي باشا.

دون جوان النمساوي (مواقع التواصل)

اتفق الجميع فيما بعد على الاتجاه صوب السواحل الغربية لليونان، وصادفت في طريقها عددا من السفن البندقية فالتحمت معها وأغرقتها، ثم بعد نزلت العساكر إلى تلك الأماكن لتوطيد الأمن، وتقوية دعائم السلام بها، وحين لم تصادف سفن الأعداء لعدة أشهر دخلت إلى ميناء ليبانتو “إينه باختي”، وبحلول الشتاء تفرق كثير من العساكر الانكشارية، وملاحي السفن، وترتب على ذلك نقص كبير في عساكر العثمانيين.

على الجانب الآخر كان الأسطول الصليبي قد تجمّع في ميناء مسّيني/ماسينا في جزيرة صقلية، وتوفّر له ما يقارب 295 سفينة حربية، منها ست سفن من نوع الغليون الكبيرة للغاية ومدافعها ذات العيار الضخم، مع 30 ألف جندي، و1600 جداف، وقرر دون جون أخو ملك أسبانيا بالاتفاق مع الجميع على مباغتة الأسطول والقوات العثمانية في ليبانتو في الساخل الغربي لليونان، مستغلين النقص العددي للملاحين والعساكر الإنكشارية العثمانية، وبالفعل اتجه الأسطول الصليبي من صقلية صوب ليبانتو[8] وعلمت قوات الاسطلاع العثماني تقدم هذا الأسطول فقررت قيادات الأسطول الاجتماع لمدارسة الموقف.

قيادة فاشلة!

كان قائد الأسطول العثماني الوزير برتو باشا قد تسلم أمر العثور على الأسطول الصليبي وإبادته، وكان الديوان قد أعطى الأمر القطعي ذاته إلى قائد القوات البحرية مؤذن باشا، لكن كلا من مؤذن علي باشا وبرتو باشا قائدين لم يركبا السفن إلا حديثًا، وقضيا حياتهما كجنرلين في القوات البرية العثمانية، وبالرغم من أن الأسطول العثماني كان يبلغ 400 سفينة لكن بحلول الشتاء فقد تقلص عدده، وبقيت مع الرجلين 184 سفينة في ميناء ليبانتو “إينه باختي”،  وظل معهما فريق عسكري وبحري قوي ومحترف من كبار القادة مثل أولوج باشا والي الجزائر، وجعفر باشا والي طرابلس الغرب، وزاده حسن باشا مستشارًا لبرتو باشا، فضلا عن 15 جنرالاً “لواء” بحريا، ونحو 200 قبطان سفينة[9].

على إثر اقتراب العدو، جمع الوزير برتو باشا في سفينته الأميرالية كبار القادة والألوية لوضع خطة لمواجهة الأسطول الأوروبي بقيادة الأرمادا الإسبانية، وانقسم المجتمعون إلى قسمين، الأول ويمثله كبار قادة البحرية العثمانية وأصحاب الخبرة والدُّربة وعلى رأسهم والي الجزائر أولوج باشا، رأوا عدم الدخول إلى المعركة في عرض البحر إلا بعد قصف قطعات العدو بمدافع القلاع من الميناء وإتلافها ومن ثم تعقّبه استفادة من الظهير المدفعي الأرضي، وتلافيا لمشكلات نقص أعداد الجنود والإمدادات، واستفادة من الموقع الجغرافي للخليج.

بيد أن الوزير برتو باشا وقائد الأسطول مؤذن علي باشا، وهما أصلا جنرالين سابقين في القوات البرية العثمانية خالفا الجميع الرأي، ورأيا وجوب الخروج إلى الخليج الضيق وكان الأسطول الأوروبي راسيا في الجزيرة المواجهة له، بل قال أحدهما وهو مؤذن باشا لجموع الحاضرين: “أي كلب هو ذلك الكافر حتى نخافه؟!”، ولم يأبه برتو باشا الوزير من مقتل أعداد من المحاربين العثمانيين في كل سفينة، فهذا أمر وارد في المعارك الحربية وفي سبيل الإسلام كما قال[10]!

حاول أولوج علي باشا والي الجزائر مرارًا إثناء مؤذن علي باشا القبطان العام من خطورة خطته وإصراره عليها، وتقدم إليه مخبرا أن التقدم في الخليج خطير، وأن مواجهة الأسطول الصليبي وهو بالقرب من البر يجعل العثمانيين في وضع أضعف، لأنهم سيتعرضون لمدافع الميناء الصليبي المواجه، ولأن الخليج الفاصل بين الفريقين لن تتمكن السفن العثمانية خلاله من سهولة الحركة والدوران خصوصا للسفن الشراعية، لكن القبطان مؤذن باشا لم يقبل هذا الرأي وأصر على المبادرة بالهجوم  على أسطول الأرمادا الذي كان أكثر تحصنا بحكم قربه من البر في جزيرة كارزولاري الكائنة في مدخل جون باتراس شمالي بلاد مورة[11].

المواجهة والخسارة الفادحة!

تقدم الأسطول العثماني وقرر المواجهة، واصطفت أساطيل الحلفاء، وأخذ كل من الفريقين في تشجيع جنوده وقادته، فتقدم الأسطولان تجاه بعضهما في جمادى الأولى 979هـ/1571م ، ولما تقاربتا خرج من وسط الأسطول الصليبي سفينتان كبيرتان بقيادة اثنين من كبار القادة الأوروبيين وأصبحا في مواجهة أمراء الأسطول العثماني، فقابلهم الأسطول العثماني بالمثل، وخرج كل من برتو باشا والقبطان علي مؤذن باشا بسفينتيهما من وسط الأسطول ليظهرها للعدو، وكانت هذه الحركة غير صائبة، فقد جعلت قائد الأسطول دون جون يحترس من هذه السفن طيلة المعركة، ثم قرر أن يقدم ست سفن حربية أكبر من وسط الأسطول الأوروبي، وأخّر باقي سفن الفرق خلف السفن الكبيرة فابتدأ القبطان علي مؤذن باشا بالهجوم على هذه السفن.

كان ما يحدث خدعة ذكية من قائد الأساطيل الأوروبية دون جوان، وقد انتبه والي الجزائر والرجل البحري المخضرم أولوج باشا لخطورة ما يحدث، ونادى على القبطان مؤذن باشا بترك السفن الكبيرة والاتجاه صوب سفن الجناحين في الأسطول الأوروبي لخطورة تمركزها، لكن مؤذن باشا لم يسمع للمرة الثانية لأولوج باشا؛ لأن هذه السفن الأوروبية الكبيرة للغاية عملت كمتاريس وحائل ضد تقدم السفن العثمانية وأعطت للسفن الأوروبية في المقابل حرية الحركة والقتال.

جرت حرب “إينه باختي”/ليبانتو إحدى أكبر الحروب البحرية في التاريخ، بشكل دموي رهيب، فقد تقدم الأسطول الاحتياطي الأوروبي مستغلا الالتحام المباشر بين الجانبين بقيادة المركيز زانطة كروس، واستولى على سفينة القبطان مؤذن باشا الذي وجده مطروحا على الأرض، فقطع رأسه من جسده، وعلّقها على سارية السفينة، ولما رأت السفن العثمانية القريبة رأس قبطانها مؤذن باشا وابنه مقطوعين، حدث عندها خلل كبير ترتب عليه انهزام ذلك الجناح من الأسطول بكامله[12].

كان والي الجزائر أولوج باشا يقود الجناح الأيمن للأسطول، واستطاع بمهارته، ورغم إطباق الأسطول الأوروبي على سفنه، أن ينتصر على عدد لا يستهان منهم

أما والي الجزائر أولوج باشا فكان يقود الجناح الأيمن للأسطول، واستطاع بمهارته، ورغم إطباق الأسطول الأوروبي على سفنه، أن ينتصر على عدد لا يستهان منهم، بل ويأسر عددا من السفن الأوروبية فضلا عن إبادة كامل الأسطول المالطي الذي واجهه، وقتل الأميرال المالطي الكبير واغتنم رايته، ورأى أن الانسحاب بسفنه والسفن الأوروبية التي وقعت في يديه أجدى من مواجهة خاسرة قضت على عدد كبير من أجنحة الأسطول العثماني وقتلت قائده العام!

كشفت المعركة عن خسائر فادحة للعثمانيين، حيث فقدوا ما يقرب من 142 سفينة ما بين غريقة وجانحة على الأرض أو مستولىً عليها، واستولى العدو على 60 سفينة أخرى اقتُسمت بين دول الحلفاء، كما استولوا على 117 مدفعًا كبيرًا، 256 مدفعًا صغيرًا صالحة للاستعمال أخذوا من السفن المستولى عليها، تم تخليص 30 ألف أسير مسيحي كان العثمانيون يُشغّلونهم في تجديف السفن، سقط ما يقرب من 20 ألف قتيل من الأتراك في المعركة فضلا عن 3460 أسيرًا، في مقابل 8000 قتيل من الأوروبيين، و20 ألف جريح[13].

كان 3 من الأسرى العثمانيين برتبة لواء بحري، وأحدهم ابن لقائد القوات البحرية، استولى المسيحيون على 3 شارات رأس لبرتو باشا، وراية مؤذن باشا الحريرة المطرزة بالذهب، واحتفظ بها عند البابوية في روما حتى أعاد الباب هذه الراية إلى الجمهورية التركية سنة 1965م كرمز للصداقة بين الجانبين كما يقول يلماز أوزتونا في تاريخه.

      

كانت الهزيمة العثمانية هي الأولى بهذا الشكل أمام الأوروبيين، وقد انهارت في أعينهم وفي وعيهم الجمعي الدعاية التي طالما ردّدت مقولة “العثماني الذي لا يُقهر”، وكانت على الجانب العثماني خسارة معنوية أكثر منها خسارة مادية، وشرع الأوروبيون المنتصرون في نشوة هذا الانتصار، وشكرا للرب في بناء الكثير من الكنائس  والتماثيل تخليدا لهذا النصر الكبير على العثمانيين، وينقل محمود السيد الدغيم عن المؤرخ الأسباني المعاصر لتلك الحادثة دون كويكزون أنه بعدما عادت الأساطيل الأوروبية إلى موانئ الحكومات التابعة لها أخبرت أن العثمانيين لا تقوم لهم في البحار قائمة بعد ذلك[14].

وكان لأولوج علي باشا والي الجزائر، الرجل المحنك الذي استطاع إخراج ما مجموعه 80 سفينة عسكرية عثمانية فضلا عن تلك التي أسرها من أساطيل الأوروبيين هو الأصدق حدسًا وخبرة ومعرفة، واستطاع أن يدخل إلى اسطنبول بعد شهرين من الهزيمة القاسية في ليبانتو ليستقبله السلطان العثماني سليم الثاني، ويقرر تغيير اسمه إلى “كليج” علي باشا، أي السيف علي، وقرر السلطان ترقيته إلى قائد القوات البحرية وناظرًا لها، وأمره بإعادة بناء الأسطول العثماني على الفور وقد نجح كليج باشا بالفعل في إعادة بناء ما فقده العثمانيون في موقعة “ليبانتو” في عدة أشهر، بل أكثر مما فقده الأوروبيون الأمر الذي اعتبره المؤرخ الألماني فون هامر نصرا للعثمانيين في نهاية المطاف!

تلك هي قصة معركة “ليبانتو” أو “إينه باختي” الحظ العاثر التي انهزم فيها الأسطول العثماني هزيمة قاسية، وفقد فيها 20 ألف شهيد، وأكثر من نصف أسطوله، وبعض من أهم وكبار قادته، تلك المعركة التي لم ينسها سفاح نيوزلندا، ليكتبها على بندقيته كأحد العلامات المضيئة – في نظره – في هزيمة المسلمين، وسحقهم، والقضاء عليهم!

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى