علماء من عصرنا

مذكرات الشيخ رفاعي طه (12) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

مذكرات الشيخ رفاعي طه (12) من مؤسسي الجماعة الإسلامية المصرية

سجلها عنه وحررها أ. محمد إلهامي

بعد حوار دافعت فيه عن الشريعة الإسلامية انضممت للتيار اليساري:

• قال لي عميد الحقوق: أنا مثل مالك والشافعي وأحمد ولا تقرأ في الكتب الصفراء
• كانت الجماعة الدينية في الجامعة أوائل السبعينات ضعيفة متهالكة تجمع الصوفيين والأمنجية
• كان الخطاب اليساري جذابا يمس المشكلات اليومية

أول ما أتذكره من أيام الجامعة ذلك النقاش الذي اندلع مع أستاذ القانون حول الشريعة الإسلامية، وقد كان من محاسن الجامعة ذلك التقارب الذي يكون بين الطالب والأستاذ الجامعي، فإنه أفضل من العلاقة الأبوية التي بين تلميذ المدرسة والـمُدَرِّس، وذلك أنك تستطيع الحديث مع أستاذ الجامعة في أي وقت، تطرح وجهة نظرك، تجادل فيها، تناقش المادة نفسها ومعلوماتها ولا تتعامل معها كأنها مقدسة كما هو الحال مع المادة في المدرسة، وذلك هو ما شجعني لبدء هذا النقاش.

غاب عني الآن اسم الأستاذ، لعل اسمه كان “محمود سلام زناتي”، وكان عميداً لكلية الحقوق، لكنه كان يُدَرِّس لنا مادة “مبادئ القانون” في كلية التجارة، وكانت تشتمل على جزء من القانون البحري أو القانون التجاري، لا أتذكر الآن بدقة، على أن مقدمة هذه المادة جاء فيها أن “الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع” أو نحواً من هذا، فاستفزني هذا الكلام، فذهبت إليه في الاستراحة التي تكون بين جزئي المحاضرة، وفيها كان الطلاب يذهبون فيسألون الأستاذ، وقد كانت شخصيته لطيفة فكان يجيبهم ويبش لهم، فعمدت إليه ومعي الكتاب، وانتظرت حتى فرغ الطلاب من حوله، ثم دار بيننا هذا الحوار، قلت له:

– لو سمحت حضرتك، أريد أن أسأل سؤالاً
– تفضل يا بني
– أنت تقول في المذكرة إن الشريعة الإسلامية هي المصدر الثالث للتشريع.. هذا صحيح؟
– نعم، صحيح!
– الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع؟!
– نعم!
– الشريعة الإسلامية!! المصدر الثالث!! للتشريع؟!!
زاد استغرابه، وصار لا يفهم ما أقول، فقال بنوع جدية وصرامة:
– أين السؤال؟!
فقلت له وأنا سادر في أسلوبي:
– يعني لم تدرك السؤال بعد؟!
– عيب يا بني.. عيب! ما هذه اللهجة وما هذه الطريقة في الكلام.. من أين أنت؟
– من أرمنت، قنا (وأنطقها بلهجتي الصعيدية التي تُنطق فيها القاف كأنها جيم قاهرية)
– أين أرمنت قنا هذه؟!
– ألا تعرفها.. لا تعرف أرمنت، قنا؟!
– لا، لا أعرف
– مركز أرمنت، محافظة قنا.
– آها، نعم، محافظة قنا معروفة.. المهم، أين السؤال، عم تريد أن تسأل؟
– حضرتك تقول: الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع، هل هذا صحيح؟!
– نعم، هذا صحيح، أنا أقول هذا فعلاً، ما الذي يعسر عليك في فهم هذا؟!
– أنا معترض على قولك: إن الشريعة الإسلامية المصدر الثالث للتشريع.
– حسناً، فماذا تريدني أن أقول؟ هل تحب أن أقول إنها المصدر الأول؟
– نعم، يجب أن تقول: المصدر الأول
– ولكنها ليست كذلك، ليست المصدر الأول
– ليكن، ليكن أنها الآن ليست المصدر الأول، لكن هل أنت مقتنع أن مكانها الطبيعي أن تكون المصدر الثالث؟! هل يليق بالشريعة أن تكون المصدر الثالث برأيك؟ أم أنك تسير مع الوضع الحالي الذي جعلها المصدر الثالث؟
– رد بتجهم: أنت تكثر القراءة في الكتب الصفراء!
لم أفهم إشارته وتلميحه، ولم أكن أعرف أن الكتب الصفراء مصطلح يطلق على كتب التراث الإسلامي، وتصورت أنه يقصد الكتب التي ورقها أصفر كالكتب القديمة المطبوعة على الورق الأصفر، وقع في ذهني المعنى المباشر للألوان، وهو ظاهر الكلام، فأجبته ببراءة ولهجة دفاعية:
– لا والله العظيم، أنا لا أقرأ أبداً في كتب صفراء.. أنا…
وجد الدكتور نفسه أمام طالب بينه وبينه فجوة في التواصل! فقال بلهجة ودود:
– الشريعة الإسلامية يا بني لا تصلح أن تكون مصدراً مستقلاً في التشريع
– لكن هذا الكلام غلط يا دكتور
– أين الغلط يا ابني؟
– هذه الشريعة الإسلامية أنزلها الله تعالى
– من قال لك: أنزلها الله؟! الشريعة الإسلامية هذه هي أقوال الفقهاء، مجرد اجتهاد بشري، مجرد فهم للنص، وأنا فقيه.. أنا من فقهاء الأمة! وأنا أفهم النص مثلما كان يفهمه الإمام أحمد والإمام الشافعي والإمام مالك وهؤلاء الفقهاء
– لا طبعا.. كيف؟ كيف تُسَوِّي نفسك بهؤلاء الأئمة؟
– وما أدراك أنت بهؤلاء؟ هل تعرفهم؟ هل تعرف أنت مالك والشافعي وأحمد؟ هل قرأت لهم شيئاً؟ هل إذا أعطيتك الآن مجموعة من كتبي مثل كتبهم.. هل تشهد أني أفهم مثلهم؟!
أصابني الارتباك، كان موقفاً غريباً وغير متوقع، رجل يقول إنه مثل مالك وأحمد، ويفهم مثلهم.. لكني مع ذلك تماسكت وقلت:
– لا، حضرتك لديك علم في القانون الوضعي الذي تُدَرِّسه، لكن لا يمكن يكون لديك من علم الشريعة مثل أحمد ومالك وهؤلاء الأئمة، هؤلاء أخذوا علمهم من القرآن والسنة.
– نحن أيضاً مصدر علمنا الكتاب والسنة، كيف تتخيل العلم الذي لدينا؟ القانون الفرنسي نفسه مأخوذ عن الشريعة الإسلامية، ثم نُقِل إلينا بهذه الكيفية، ففي الواقع فإن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية حين يحتكم إلى القانون الفرنسي.
هنا أصابني الانبهار، وأخذني مسار الكلام لأعجب به، لقد رسم لي أن العالم كله يحتكم إلى الشريعة الإسلامية، وكفى بهذا فخراً ومصدر سعادة.. ومع ذلك فقد كان شيءٌ ما في نفسي يرفض هذا، ويراه تلفيقاً أو تزويراً أو كلاماً غير مقبول، فعاودت أقول وأرد:
– لا.. لا يمكن أن يكون هذا القانون هو القانون الإسلامي
– يا بني، أنا عميد كلية الحقوق، وعندما أقول لك: إن القانون الفرنسي مأخوذ من الشريعة الإسلامية، فأنا أعلم ما أقول!

في هذه العبارة الأخيرة احتد عليَّ، وارتفع صوته في النقاش، وما كنتُ لأستغرب هذا، فمثل هذا الحوار والجدال لم يكن ممكناً أن يدور مع مُدَرِّسٍ في المدرسة، وها هو يدور بين طالب وعميد لكلية الحقوق، ومع أن الرجل أفحمني وأسكتني، ومع أني لم أعد أعرف بم أجيب ولا كيف أرد، إلا أنني بقيت على انبهاري بالرجل وإعجابي به. ثم مع ذلك فقد كرهت مادة القانون، وعزمت ألا أحضر هذه المحاضرة!

كنت مبهوراً نعم، لكن أيضاً لم أبتلع قوله إن الشريعة هي المصدر الثالث للتشريع، ثم إن له فلسفة تُعْجِزُني، والعجز يضيق الصدر ويسبب أزمة، ما هذا الرجل؟! هل يمكن أن يكون فعلاً كالإمام أحمد أم أنه يريد بهذا تشويه علماء الشرع حين ينزل بهم إلى نفسه؟! هل له فعلاً مثل إنتاجهم؟! هل يمكن أن يكون له مثل فهمهم وعلمهم بالدين؟! أمور لم أستطع أن أبتلعها وإن أسكتني حواره، وكان الحل الأسهل أن أتجنب هذه المادة وصاحبها.. وقد كان! ثم كانت بعد ذلك آثارها، لقد ظللت أرسب في هذه المادة ثلاث سنوات متتاليات!

ويبدو أن ذلك الحوار قد طبع صورتي في ذهنه، فقد شاهدني ذات يوم وأنا داخل إلى المدرج فنادى عليَّ، ثم سألني: لم لا تحضر معنا؟ فأجبته باقتضاب وأنا أتملص من الموقف: سأحضر سأحضر، ثم سارعتُ منصرفاً.

ومن المفارقات، أني وبعد هذه المحاورة التي أبدو فيها كإسلامي متشدد، ما لبثت أن انخرطت في صفوف التيار اليساري، ناشطاً طلابياً!

ومن المفارقات أيضاً أني لم أحاول فيما بعد هذا الحوار أن أعود إلى الكتب فأقرأ لأردَّ عليه، استمر شأني في القراءة كما هو، القراءة المتنوعة غير الموجهة، لكن لم أقرأ بغرض الردّ عليه، كأن الحوار لم يستفزني للرد رغم أنه أعجزني وأضاق صدري، لقد وقر في نفسي أنه أستاذي وكيف أردّ عليه؟!

أتذكر أني كنت في تلك الفترة أقرأ في الكتب الإسلامية عموماً، وأقرأ تفسير القرآن لابن كثير، ومقدمة ابن رشد التي هي بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكتاب أصول الفقه الصغير الذي ألفه الشيخ محمد خلاف. كانت هذه الكتب الثلاثة تلازمني في المرحلة الثانوية، ثم في أول سنة بالجامعة كنت أقرأ فيهم فيتحسن فهمي، ثم اشتريت كتاب “الأم” للإمام الشافعي، وبمرور الوقت بدأت تتكون ملكة القراءة في كتب السلف، لا سيما في المعسكرات الطلابية ومعارض الكتاب الإسلامية، ولقد أعطى نشاط التيار الإسلامي في السبعينات دفعة هائلة لمثل هذه الميول.. لكن هذا سيأتي فيما بعد!

أما قصة انضمامي إلى التيار اليساري فكان السبب فيها أني بطبعي شخص نشط، ولا أستطيع الخمول والسكون، وفي ذلك الوقت لم يكن قد بدأ النشاط الإسلامي في الجامعات، بل كان النشاط يكاد يكون حكراً على اليساريين، نعم.. كان هناك ثمة جماعة ضعيفة اسمها “الجماعة الدينية” إلا أنه يغلب عليهم التوجه الصوفي والتوجه الأمني كذلك، كان معظمهم صوفية وتابعين للأمن! كنت أعرف الصوفيين بما لدي من تجربة قديمة في الصوفية، لكن التابعين للأمن كان تصنيفاً جديداً أخذته من الرفاق الشباب اليساريين الذين كنا نعمل معاً.

ومع هذا فلم يكن أولئك التابعون للأمن عتاة أو دهاة، إنما كان توجههم الصوفي ينزع بهم إلى ذلك كما ذكرت سابقاً، من أن التدين في عصر عبد الناصر كان ذا مسحة صوفية وأن هذا كان مطلب السلطة لتوظيف الدين ضمن سياستها، ولقد كان مألوفاً أن يكون المرء اشتراكياً وصوفياً معاً كما سبق الحديث. ثم إن هذه الجماعة الدينية ضعيفة وخاملة ولا نشاط لها، إنهم يُعرفون بالتزامهم الصلاة وبمجلة حائط ضعيفة متهالكة لا تسمن ولا تغني من جوع. وهو ما يخالف طبعي ويجعلني نافراً من حالة السبات هذه!

أما اليساريون فأصحاب نشاط وحركة، يصدرون عدداً من مجلات الحائط، بل لقد كنتُ أصدر مجلة حائط وحدي، إعداداً وتنفيذاً، وقد شاركوا فيها وكانوا يدعمونني، وكانت الجامعة تشهد حرية طلابية، وقد كان الطلاب اليساريون يُجَهِّزون معرضاً ويتكلمون فيه عن السادات والحرب والحق في الخبز والعدالة الاجتماعية والأزمة الاقتصادية والبلد التي تعاني من المجاعة والشعب الذي يعضه الفقر، يتكلمون أحياناً أخرى عن الطالب المصري، وأزمة الكتاب لدى الطالب المصري، أزمة التعليم لدى الطالب المصري، ما الذي يتلقاه الطالب في مصر من المناهج الضعيفة غير العلمية غير المركزة.. إلخ!

كان اهتمامهم منصباً على المشاكل التي تمس الحياة اليومية، إضافة إلى البعد السياسي، وقد كان للسادات نصيب الأسد من نقدهم وهجومهم. وكان هذا ما يجذب إليهم، وهو من جملة ما جذبني كذلك.

 

 

(المصدر: مجلة “كلمة حق”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى