كتاباتكتابات مختارة

الإمامان البخاري ومسلم

الإمامان البخاري ومسلم

بقلم د. يحيى بن إبراهيم اليحيى

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي. كان العرب في زمن النبوة من أذكى الأمم فقد كانت ألواح قلوبهم صافية لم تكتب فيها تلك الفلسفات والأساطير والأغلوطات التي يصعب محوها كما في الأمم المعاصرة لهم، فكأنهم يعدونها لحمل أبهى علم وأعظمه وهو الإسلام، ولهذا كانوا أحفظ شعب عرف في ذلك الزمن وقد وجه الإسلام قريحة الحفظ والذكاء إلى حفظ الدين وحمايته، فكانت قواهم الفكرية، ومواهبهم الفطرية مذخورة فيهم، لم تستهلك في فلسفات خيالية، وجدال بيزنطي عقيم، ومذاهب كلامية معقدة. ([1]) وكانت الأمية غالبة عليهم يعتمدون في أحوالهم وأيامهم على الحفظ، فكان الواحد منهم مثلاً يحفظ من القصائد ما يفوت الإحصاء والحصر، فهذا الأصمعي من المتأخرين يقول: “ما بلغت الحلم حتى رويت اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب”. واتساع لغتهم دليل على قوة حفظهم وذاكرتهم فإذا كان للعسل ثمانون اسماً وللثعلب مائتان وللأسد خمسمائة، فإن للجمل ألفاً، وكذا السيف، وللداهية نحو أربعة آلاف اسم، ولاشك أن استعياب هذه الأسماء يحتاج إلى ذاكرة قوية حاضرة وقادة. ([2]) ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي فيهم ثلاثة وعشرين عاما داعيا ومعلما ومربيا ومرشدا ومبشرا وبث فهم العلم ووجه قرائحهم لحفظه والعناية به، وما انتقل إلى ربه حتى وعوا عنه كل شيئ وتركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، وقال لهم تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وسنتي. فكانوا يعتمدون على ذاكرتهم الوقادة وقوة حفظهم حيث كانوا يحفظون الحديث من أول مرة يسمعونه لا يخرمون منه حرفا. ولهذا تأخر التدوين الشامل للحديث النبوي يقول ابن حجر: “أعلم علمني الله وإياك أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدونة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين: أحدهما إنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك كما ثبت في صحيح مسلم خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم. وثانيهما: لسعة حفظهم وسيلان أذهانهم ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة”. ولم يبدأ التدوين إلا في أواخر عصر التابعين فكان أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح 1، وسعيد بن أبي عروبة 2، وغيرهما وكانوا يصنفون كل باب على حدة. ثم بدأ تدوين الأحكام، فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمر وعبد الرحمن بن عمر الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم. وأما إفراد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتدوينه غير مختلط بغيره من أقوال الصحابة والتابعين فقد بدأ على رأس المائتين حيث صنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء. ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة” (مقدمة الفتح ص 8). علم الحديث هو العلم المشتمل على نقل ما أضيف إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – أو إلى صحابي أو إلى من دونه من الأقوال والأفعال والتقارير والأحوال والسير والأيام حتى الحركات والسكنات في اليقظة والمنام وأسانيد ذلك وروايته وضبطه وتحرير ألفاظه وشرح معانيه (الرسالة المستطرفة ص3). ثم جاء بعدهم الإمام البخاري ومن بعده الإمام مسلم فخرجا للأمة بأعظم تأليف على الأبواب عرفته البشرية إلى يومنا هذا من حيث الصحة والدقة والتحري، وقد جمعا فيه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم غير مختلط بغيره فأجمعت الأمة على كتابيهما وتلقتهما بالقبول والتسليم (فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 3]). حتى أذعن له المخالف والموافق وتلقى كلامه في التصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق. قال النووي: “قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله جميع ما حكم مسلم رحمه الله بصحته فى هذا الكتاب فهو مقطوع بصحته والعلم النظري حاصل بصحته فى نفس الأمر، وهكذا ما حكم البخارى بصحته فى كتابه وذلك لأن الأمة تلقت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ووفاقه في الإجماع”. قال النووي: “اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الامة بالقبول” (مقدمة شرح مسلم 1/14). للاعتبارات التالية: 1. أنهما أول من ألف في الصحيح وقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه في علوم الحديث فيما أخبرنا به أبو الحسن بن الجوزي عن محمد بن يوسف الشافعي عنه سماعا قال أول من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز (مقدمة الفتح ص12). وقال النووي : “وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان للإمامين القدوتين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وأبي الحصين مسلم بن الحجاج القشيري، رضي الله عنهما فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات” (مقدمة شرح مسلم 1/4). اشتراطهما الصحة في كتابيهما: قال ابن حجر عن البخاري: “تقرر أنه التزم فيه الصحة، وأنه لا يورد فيه إلا حديثا صحيحا، هذا أصل موضوعه، وهو مستفاد من تسميته إياه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ومما نقلناه عنه من رواية الأئمة عنه صريحا….” (مقدمة الفتح ص9 قال ابن حجر : كونه أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي مقدمة الفتح ص9). 2. تحريهما وتشددهما في الشيوخ: قال ابن حجر: “ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتض لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته، ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما..” (مقدمة الفتح ص 403). قال النووي: “سلك مسلم رحمه الله في صحيحه طرقا بالغة في الاحتياط والإتقان والورع والمعرفة، وذلك مصرح بكمال ورعة وتمام معرفته وغزارة علومه وشدة تحقيقه بحفظه وتقعدده في هذا الشأن وتمكنه من أنواع معارفه وتبريزه في صناعته وعلو محله في التمييز بين دقائق علومه لا يهتدي إليها إلا أفراد في الإعصار فرحمه الله ورضى عنه وأنا أذكره أحرفا من أمثلة ذلك تنبيها بها على ماسواها اذ لا يعرف حقيقة حاله الا من أحسن النظر في كتابه مع كمال أهليته ومعرفته بأنواع العلوم التي يفتقر إليها صاحب هذه الصناعة كالفقه والأصولين والعربية وأسماء الرجال ودقائق علم الأسانيد والتاريخ ومعاشرة أهل هذه الصنعة ومباحثتهم ومع حسن الفكر ونباهة الذهن ومداومة الاشتغال به وغير ذلك من الأدوات التي يفتقر إليها” (مقدمة شرح مسلم 1/21). 3. قوة شرطهما في قبول الحديث، قال ابن حجر: “عن أبي المعمر المبارك بن أحمد عنه شرط البخاري أن يخرج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الاثبات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وأن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وأن لم يكن الا راو واحد وصح الطريق إليه كفى”. قال الحافظ أبو بكر الحازمي: “أن شرط الصحيح أن يكون إسناده متصلا وأن يكون راويه مسلما صادقا غير مدلس ولا مختلط متصفا بصفات العدالة ضابطا متحفظا سليم الذهن قليل الوهم سليم الاعتقاد” (مقدمة الفتح ص11). وقال الإسماعيلي في (المدخل) له: “أما بعد فإني نظرت في كتاب (الجامع) الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعا كما سمي لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها الا من جمع إلى معرفة الحديث نقلته والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك فبرع وبلغ الغاية فحاز السبق وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به” (مقدمة الفتح ص13). قال النووي: “قال الشيخ الامام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله شرط مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أن يكون الحديث متصل الاسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة قال وهذا حد الصحيح فكل حديث اجتمعت فيه هذه الشروط فهو صحيح بلا خلاف بين أهل الحديث” (مقدمة شرح مسلم 1/15). 4. كثرة مراجعتهما لكتابيهما وقال البخاري ما كتبت في كتاب الصحيح حديثا الا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين (سير أعلام النبلاء 12/402، مقدمة الفتح ص 9). وقد روى بن عدي عن جماعة من المشايخ أن البخاري حرر تراجم جامعه بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين (سير أعلام النبلاء 12/404). قال وراق البخاري له: “تحفظ جميع ما أدخلته في مصنفاتك؟”، قال: “لا يخفى علي جميع ما فيها وصنفت جميع كتبي ثلاث مرات..” (مقدمة الفتح ص512). روى الفربري عن البخاري قال: “ما أدخلت في الصحيح حديثا إلا بعد أن استخرت الله تعالى وتيقنت صحته” (مقدمة الفتح ص 513). وقال محمد بن أبي حاتم الوراق: “كان أبو عبد الله إذا كنت معه في سفر يجمعنا بيت واحد إلا في القيظ، فكنت أراه يقوم في الليلة الواحدة خمس عشرة مرة إلى عشرين مرة في كل ذلك يأخذ القداحة فيوري نارا بيده ويسرج ويخرج أحاديث فيعلم عليها ثم يضع رأسه، فقلت له: إنك تحمل على نفسك كل هذا ولا توقظني، قال: أنت شاب فلا أحب أن أفسد عليك نومك” (سير أعلام النبلاء 12/404). 5. انتخاب كتابيهم من آلاف الأحاديث مع طول النفس والتأني في التأليف: على الرغم من قوة حفظ البخاري وحدة ذكائه وضخامة تحصيله العلمي إلا أنه كان من أشد الناس تأنيا في التأليف، وعن البخاري قال: “صنفت الجامع من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة وجعلته حجة فيما بيني وبين الله” (مقدمة الفتح ص9، وص 513). قال النووي: “رواه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي باسناده عن مسلم رحمه الله قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة (مقدمة شرح مسلم 1/15). صنف الإمام مسلم صحيحه في بلده نيسابور بحضور أصوله وبقي في تصنيفه خمس عشرة سنة (التذكرة 589، والسير). 6. عرض كتابيهما على علماء عصرهم قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي لما ألف البخاري كتاب الصحيح عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث، قال العقيلي: “والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة” (مقدمة الفتح ص9، 514). وقال مكي بن عبد الله: “سمعت مسلم بن الحجاج يقول عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما” (مقدمة شرح مسلم 1/15). 7. جودة التأليف: ومن حقق نظره فى صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده فى أسانيده وترتيبه وحسن سياقته وبديع طريقته من نفائس التحقيق، وجواهر التدقيق، وأنواع الورع والاحتياط، والتحرى فى الرواية، وتلخيص الطرق واختصارها، وضبط متفرقها وانتشارها، وكثرة اطلاعه واتساع روايته، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيات، علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (مقدمة شرح مسلم 1/11). وقال ابن حجر عن صحيح البخاري: “ضمن أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار…” (مقدمة الفتح ص15). وقال السخاوي: “ولله دره في جامعه الذي أبدع فيه وجعله حجة واعتمادا للمحدث والفقيه، ومقتدى للاقتباس من أنوار الكتاب، والسنة البهية الصحيحة الانتساب، تقريرا واستنباطا، وكرع في مناهلهما المروية انتزاعا وانتشاطا…” (عمدة القاري والسامع في ختمة الصحيح الجامع ص48). لقد أطبقت الأمة على دراسة كتب الإمامين البخاري ومسلم مما كان سبب في تفجر التدوين في الحديث وعلومه في أصقاع المعمورة من زمنهما إلى يومنا هذا ولا غرو في ذلك فالذين تلقوا صحيح البخاري عن مؤلفه مباشرة تسعون ألف نفس (مقدمة الفتح ص 516)، ولقد جرى أهل البصرة خلف البخاري حتى أوقفوه في بعض الطرق فاجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه (تهذيب الأسماء واللغات 1/10)، وكان من عظمة هذين الإمامين بعد أن اتفقت الأمة على إمامتهما والاقتداء بهم أن أقبل الناس على كتبهم رواية ودراية مما أسفر عن تسارع العلماء في الكتابة والتدوين مقتدين بهما متأثرين بكتبهما، وقد كان من أبرز مظاهر ذلك ما يلي: 1. انتشر التأليف على منوال الصحيحين فألف في زمنهم كتب السنن المشهورة وهي: سنن الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجة، والدارمي وغيرهم، قال الإسماعيلي عن البخاري: “وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني، لكنه اقتصر على السنن ومنهم أبو داود السجستاني، وكان في عصر أبي عبد الله البخاري فسلك فيما سماه سننا ذكر ما روى في الشيء وإن كان في السند ضعف إذا لم يجد في الباب غيره ومنهم مسلم بن الحجاج، وكان يقاربه في العصر فرام مرامه وكان يأخذ عنه (مقدمة الفتح ص13). 2. وبعد زمنهم انتشر هذا النوع من التأليف: مثل صحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان والضياء المقدسي في المختارة وابن الجارود وابن السكن وغيرهم (المستطرفة ص16-20) ومن السنن: والبيهقي في السنن الكبرى والصغرى، وعلاء الدين المارديني، وابن جريج، وأبو مسلم الكشي، ومحمد بن الصباح البزار وموسى بن طارق، والأثرم، وأبو علي الخلال، وسهل بن أبي سهيل، وأحمد بن عبيد الصفار، وأبو بكر الهمداني وغيرهم كثير (انظر الرسالة المستطرفة ص25-29). 3. اهتم العلماء بالمستخرجات على الصحيحين طلبا لعلو الإسناد وزيادة قوة الحديث بكثرة طرقه وزيادة ألفاظ صحيحة مفيدة صيانة (صحيح مسلم ص87) فكان منها… المخرجه على الصحيحين والحافظ (أبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصفهاني) نسبة إلى أصبهان مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها الصوفي الشافعي صاحب التصانيف المتوفى: بأصبهان سنة ثلاثين وأربعمائة. والحافظ (أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن يوسف الشيباني النيسابوري) المعروف: (بابن الأخرم) المتوفى: سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي ذر الهروي) وتقدمت وفاته. والحافظ (أبي محمد الحسن ابن أبي طالب محمد بن الحسن بن علي البغدادي) المعروف: (بالخلال) بفتح الخاء المعجمة وشد اللام نسبة إلى الخل المأكول المتوفى: سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. والحافظ (أبي علي الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عيسى بن ما سرجس الماسرجسي) نسبة إلى جده (ماسرجس) المذكور كان نصرانيا فأسلم على يد (عبد الله بن المبارك النيسابوري) المتوفى: سنة خمس وستين وثلاثمائة. والحافظ (أبي مسعود سليمان بن إبراهيم الأصبهاني المليحي) المتوفى: سنة ست وثمانين (ص 30) وأربعمائة. والحافظ (أبي بكر أحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن منجويه الأصبهاني البردي) نزيل نيسابور المتوفى: سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. والحافظ (أبي بكر أحمد بن عبدان بن محمد بن الفرج الشيرازي) محدث الأهواز المتوفى: سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. والحافظ (أبي بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي البرقاني) نسبة إلى برقانة قرية من نواحي خوارزم الشافعي المتوفى: ببغداد سنة خمس وعشرين وأربعمائة التسعة على كل منهما. المستخرجات على البخاري: ثانيا: (كمستخرج) الحافظ (أبي بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الجرجاني) إمام أهل جرجان الشافعي المتوفى: سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي أحمد محمد بن أبي حامد أحمد بن الحسين بن القاسم بن الغطريف بن الجهم الغطريفي) نسبة إلى جده (غطريف العبدي الجرجاني الرباطي) رفيق (أبي بكر الإسماعيلي). المتوفى: سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي عبد الله محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عصيم بن بلال بن عصم) بضم فسكون. المعروف: (بابن أبي ذهل. الضبي العصمي الهروي). المتوفى: سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه الأصبهاني)، صاحب (التاريخ) و(التفسير المسند) أيضا. المتوفى: سنة ست عشر وأربعمائة. الأربعة على (البخاري). ثانيا المستخرجات على مسلم: مستخرج الحافظ (أبي عوانة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الأسفراييني) المتوفى: بأسفرايين سنة ست عشرة وثلاثمائة وله فيه زيادات عدة. مستخرج الحافظ (أبي محمد قاسم بن أصبغ البياني القرطبي) وتقدمت وفاته. والحافظ (أبي جعفر أحمد بن حمدان بن علي بن عبد الله بن سنان الحيري) المتوفى سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. والحافظ (أبي بكر محمد بن محمد بن رجاء النيسابوري الأسفراييني) وهو متقدم يشارك (مسلما) في أكثر شيوخه توفي: سنة ست وثمانين ومائتين. والحافظ (أبي بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريا الشيباني النيسابوري) محدثها (الجوزقي)، وجوزق قرية من قرى نيسابور، المتوفى: سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. والحافظ (أبي حامد أحمد بن محمد بن شارك الهروي الشاركي الشافعي)، المتوفى: بهراة سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. والحافظ (أبي الوليد حسان بن محمد بن أحمد بن هارون القرشي الأموي القزويني النيسابوري الشافعي)، المتوفى: سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي عمران موسى بن العباس بن محمد الجويني) نسبة إلى جوين كورة على طريق القوافل من بسطام إلى نيسابور النيسابوري أحد الرحالين المتوفى: بجوين سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. والحافظ (أبي النصر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي الشافعي) المتوفى: سنة أربع وأربعين وثلاثمائة. والحافظ (أبي سعيد أحمد ابن أبي بكر محمد بن الحافظ الكبير أبي عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري النيسابوري) المستشهد بطرسوس سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. والحافظ (أبي الفضل أحمد بن سلمة النيسابوري البزار) رفيق (مسلم) في الرحلة إلى بلخ وإلى البصرة المتوفى: سنة ست وثمانين ومائتين، قال الذهبي: “له مستخرج كهيئة (صحيح مسلم)، وقال الشيخ (أبو القاسم النصراباذي): (ص 29) رأيت (أبا علي الثقفي) في النوم فقال لي: “عليك (بصحيح أحمد بن سلمة)”. والحافظ (أبي محمد أحمد بن محمد بن إبراهيم الطوسي البلاذري) الواعظ المتوفى: سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، قال الذهبي: “خرج صحيحا على وضع كتاب (مسلم) الاثنتا عشرة كلها على (مسلم). فمن هذه الكتب المخرجة على صحيح مسلم كتاب العبد الصالح أبى جعفر أحمد بن أحمد بن حمدان النيسابوري الزاهد العابد ومنها المسند الصحيح لأبي بكر محمد بن محمد بن رجا النيسابوري الحافظ وهو متقدم يشارك مسلما فى أكثر شيوخه، ومنها (مختصر المسند الصحيح) المؤلف على كتاب مسلم للحافظ أبي عوانة يعقوب بن إسحاق الاسفرايني روى فيه عن يونس بن عبد الأعلى وغيره من شيوخ مسلم، ومنها كتاب أبى حامد الشازكى الفقيه الشافعي الهروي يروى عن أبي يعلى الموصلي، ومنها (المسند الصحيح) لأبى بكر محمد بن عبد الله الجوزقى النيسابوري الشافعي، ومنها المسند المستخرج على مسلم للحافظ المصنف أبى نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهانى ومنها المخرج على صحيح مسلم للإمام أبي الوليد حسان بن محمد القرشي الفقيه الشافعي وغير ذلك والله أعلم (مقدمة شرح مسلم 1/26-27). 4. قد استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه فألف الامام الحافظ أبو الحسن على بن عمر الدارقطني في بيان ذلك كتابه المسمى بالاستدراكات والتتبع وذلك في مائتى حديث مما في الكتابين ولأبي مسعود الدمشقي أيضا عليهما استدراك ولأبى علي الغساني الجياني في كتابه تقييد المهمل في جزء العلل منه استدراك أكثره على الرواة عنهما (مقدمة شرح مسلم 1/27)، واجتهد عدد من العلماء الكبار في تدوين المستدركات على الصحيحين مع أنهما لم يشترطا جمع الصحيح كله (مقدمة شرح مسلم 1/24)، وروى الإسماعيلي عنه قال لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر… وقال إبراهيم بن معقل النسفي: “سمعت البخاري يقول ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح حتى لا يطول” (مقدمة الفتح ص9). 5. كما قام عدد كبير من أهل العلم في جميع العصور في شرح صحيحي البخاري مسلم ومن أمثلة ذلك: وقد ألف في شرح البخاري ما يزيد على مائة وأربعين شرحا (سيرة الإمام البخاري للمباركفوري ص 148-196، لا مع الدراري 1/393-479 وكشف الظنون 1/545-555، وكتاب الإمام البخاري سيد الحفاظ ص147)، كما زادت شروح صحيح مسلم على سبعين شرحا (كشف الظنون 1/557، وكتاب الإمام مسلم بن الحجاج 1/646، الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه ص153). 6. كتب مختصرات الصحيحين: ذكر الدكتور عبد الغني عبد الخالق ستة عشر مختصرا للبخاري (انظر كتابه الإمام البخاري وصحيحه ص 242)، وذكر مشهور بن حسن ستة عشر مختصرا لصحيح مسلم (انظر كتابه الإمام مسلم بن الحجاج 2/633). 7. كتب جمعت بين الصحيحين: ذكر مشهور بن حسن أن هناك أكثر من خمسين كتابا جمعت بين الصحيحين (انظر كتابه الإمام مسلم بن الحجاج 2/633). 8. كتب انتقدت الصحيحين: لم أقف على أكثر من سبعة كتب انتقدت الصحيحين. انظر الإمام مسلم ومنهجه في صحيحه ص150، والإمام مسلم بن الحجاج 2/634. 9. كتب اعتنت برجال الصحيحين: ذكر مشهور بن حسن أن هناك أكثر من عشرين كتابا عن رجال (مسلم (2/634)). 10. الكتب المؤلفة في أطراف الصحيحين. 11. كتب الزوائد. 12. كتب في تراجم البخاري في صحيحه. 13. كتب في أسانيد الصحيحين. 14. كتب في شيوخ الشيخين. 15. كتب اختصت بتراجم البخاري مثل: ترجمان التراجم لأبي عبد الله بن رشيد السبتي، ومنها كتاب (فك أغراض البخاري المبهمة في الجمع بين الحديث والترجمة)، وكذلك أحمد بن المنير وغيرهم كثير (مقدمة الفتح ص16). وهكذا كتب الإمامين الأخرى كان أكثرها أصلا لمن جاء بعدهما فهذا التاريخ الكبير للبخاري نال اهتماما كبيرا في حياة البخاري فشيخه الإمام إسحاق بن راهوية بلغ إعجابه بهذا الكتاب أن حمله إلى عبد الله بن طاهر الأمير، وقال له: “هل أريك سحرا” (تاريخ بغداد 2/7). نقل الخطيب عن أبي العباس بن سعيد قوله: “لو أن رجلا كتب ثلاثين ألف حديث لما استغنى عن كتاب تاريخ محمد بن إسماعيل البخاري” (الموضح 1/9). وقال الحاكم الكبير أبو أحمد: “كتاب محمد بن إسماعيل في التاريخ كتاب لم يسبق إليه ومن ألف بعده شيئا في التاريخ أو الأسماء أو الكنى لم يستغن عنه..” (شرح العلل 1/31-32 الإمام البخاري محدثا وفقيها ص30). وكان التاريخ معتمد العلماء في الرجال ومن ألف بعده جعل التاريخ الكبير عمدته، فالعقيلي وابن الجارود وابن حبان من عادتهم اتباع قول البخاري في كتبهم (انظر تهذيب التهذيب 4/452، 7/365). وألف ابن الأخرم (لسان الميزان 2/273)، وكذا ابن خيثمة وابن عقدة كتبا في (تاريخ الرجال على النحو من تاريخ البخاري)، (سير أعلام النبلاء 11/492)، (تاريخ بغداد 3/408)، (الثقات 1/11)، وابن أبي حاتم أخذ التاريخ الكبير وضمنه كتابه الجرح والتعديل (الموضح 1/8)، والدار قطني الإمام الشهير نقل من تاريخ البخاري مئات النصوص في كتابه العظيم (المؤتلف والمختلف) (تاريخ البخاري لعادل الزرقي ص50). ويشير الخطيب البغدادي أن تاريخ البخاري الكبير أصبح سلما للشهرة فمن أراد أن يشتهر تناول التاريخ في تأليفه (الموضح ص7). (المقدمة الفصل الاول في بيان السبب الباعث لأبي عبد الله البخاري على تصنيف جامعه الصحيح وبيان حسن نيته في ذلك). ولكن البخاري ومسلم أحدثا نقلة كبيرة في التأليف في الحديث النبوي مما كان له أكبر الأثر في التدوين فيمن عاصرهم ومن جاء بعهدهم. فلما رأي البخاري رضي الله عنه هذه التصانيف ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها وجدها بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين وقوى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه. قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: “كنا عند إسحاق بن راهويه فقال لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم”، قال: “فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الجامع الصحيح”. وعن محمد بن سليمان بن فارس قال: “سمعت البخاري يقول رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه، فسألت بعض المعبرين فقال لي: “أنت تذب عنه الكذب”، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح”. قوة دقة البخاري في انتخاب الأحاديث وتشدده في الصحة، فمع قوة شرطه يفعل ذلك مع كل حديث يدونه، ولعل هذا من أسباب البركة التي جعلها الله في هذا الكتاب المبارك. قال الإسماعيلي: “لأنه لو أخرج كل صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة ولذكر طريق كل واحد منهم إذا صحت فيصير كتابا كبيرا جدا”. فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 8] (الفصل الثاني في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه وتسمية المؤلف لكتابه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه) ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة. ثم ظهر لي أن البخاري مع ذلك فيما يورده من تراجم الأبواب على أطوار أن وجد حديثا يناسب ذلك الباب ولو على وجه خفي ووافق شرطه أورده فيه بالصيغة التي جعلها مصطلحة لموضوع كتابه وهي حدثنا وما قام مقام ذلك والعنعنة بشرطها عنده وأن لم يجد فيه الا حديثا لا يوافق شرطه مع صلاحيته للحجة كتبه في الباب مغايرا للصيغة التي يسوق بها ما هو من شرطه ومن ثمة أورد التعاليق كما سيأتي في فصل حكم التعليق وأن لم يجد فيه حديثا صحيحا لا على شرطه ولا على شرط غيره وكان مما يستأنس به وقدمه قوم على القياس استعمل لفظ ذلك الحديث أو معناه ترجمة باب ثم أورد في ذلك اما آية من كتاب الله تشهد له أو حديثا يؤيد عموم ما دل عليه ذلك الخبر وعلى هذا فالأحاديث التي فيه على ثلاثة أقسام وسيأتي تفاصيل ذلك مشروحا إن شاء الله تعالى. أول من صنف في الصحيح: مقارنة بين الصحيحين: وأما ما رويناه عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: “ما أعلم في الأرض كتابا في العلم أكثر صوابا من كتاب مالك”، قال: “ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ يعني بلفظ أصح من الموطأ فإنما قال ذلك قبل وجود كتابي البخاري ومسلم، ثم أن كتاب البخاري أصح الكتابين صحيحا واكثرهما فوائد”. وأما ما رويناه عن أبي على الحافظ النيسابوري أستاذ الحاكم أبي عبد الله الحافظ من أنه قال: “ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج”، فهذا وقول من فضل من شيوخ المغرب كتاب مسلم على كتاب البخاري إن كان المراد به أن كتاب مسلم يترجح بأنه لم يمازجه غير الصحيح فإنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث الصحيح مسرودا غير ممزوج بمثل ما في كتاب البخاري في تراجم أبوابه من الأشياء التي لم يسندها على الوصف المشروط في الصحيح فهذا لا بأس به وليس يلزم منه أن كتاب مسلم أرجح فيما يرجع إلى نفس الصحيح على كتاب البخاري وإن كان المراد به أن كتاب مسلم أصح صحيحا فهذا مردود على من يقوله والله أعلم. انتهى كلامه وفيه أشياء تحتاج إلى أدلة وبيان فقد استشكل بعض الأئمة إطلاق أصحية كتاب البخاري على كتاب مالك مع اشتراكهما في اشتراط الصحة والمبالغة في التحري والتثبت وكون البخاري أكثر حديثا لا يلزم منه أفضلية الصحة والجواب عن ذلك أن ذلك محمول على أصل اشتراط الصحة فمالك لا يرى الانقطاع في الإسناد قادحا فلذلك يخرج المراسيل والمنقطعات والبلاغات في أصل موضوع كتابه والبخاري يرى أن الانقطاع علة فلا يخرج ما هذا سبيله إلا في غير أصل موضوع كتابه كالتعليقات والتراجم. ولا شك أن المنقطع وأن كان عند قوم من قبيل ما يحتج به فالمتصل أقوى منه إذا اشترك كل من رواتهما في العدالة والحفظ فبان بذلك شفوف كتاب البخاري وعلم أن الشافعي إنما أطلق على الموطأ أفضلية الصحة بالنسبة إلى الجوامع الموجودة في زمنه كجامع سفيان الثوري ومصنف حماد بن سلمة وغير ذلك وهو تفضيل مسلم لا نزاع فيه، واقتضى كلام بن الصلاح أن العلماء متفقون على القول بأفضلية البخاري في الصحة على كتاب مسلم، إلا ما حكاه عن أبي على النيسابوري من قوله المتقدم وعن بعض شيوخ المغاربة أن كتاب مسلم أفضل من كتاب البخاري من غير تعرض للصحة فنقول روينا بالإسناد الصحيح عن أبي عبد الرحمن النسائي وهو شيخ أبي على النيسابوري أنه قال ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل والنسائي لا يعني بالجودة إلا جودة الأسانيد كما هو المتبادر إلى الفهم من اصطلاح أهل الحديث. ومثل هذا من مثل النسائي غاية في الوصف مع شدة تحريه وتوقيه وتثبته في نقد الرجال وتقدمه في ذلك على أهل عصره حتى قدمه قوم من الحذاق في معرفة ذلك على مسلم بن الحجاج وقدمه الدارقطني وغيره في ذلك وغيره على إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح. وقال الإسماعيلي: “في المدخل له أما بعد فإني نظرت في كتاب (الجامع) الذي ألفه أبو عبد الله البخاري فرأيته جامعا كما سمي لكثير من السنن الصحيحة ودالا على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث نقلته والعلم بالروايات وعللها علما بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك فبرع وبلغ الغاية فحاز السبق وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به”. قال: “وقد نحا نحوه في التصنيف جماعة منهم الحسن بن علي الحلواني لكنه اقتصر على السنن ومنهم أبو داود السجستاني وكان في عصر أبي عبد الله البخاري فسلك فيما سماه سننا ذكر ما روى في الشيء وأن كان في السند ضعف إذا لم يجد في الباب غيره ومنهم مسلم بن الحجاج وكان يقاربه في العصر فرام مرامه وكان يأخذ عنه أو عن كتبه إلا أنه لم يضايق نفسه مضايقة أبي عبد الله وروى عن جماعة كثيرة يتعرض أبو عبد الله الرواية عنهم وكل قصد الخير غير أن أحدا منهم لم يبلغ من التشدد مبلغ أبي عبد الله ولا تسبب إلى استنباط المعاني واستخراج لطائف فقه الحديث وتراجم الأبواب الدالة على ما له وصلة بالحديث المروي فيه تسببه ولله الفضل يختص به من يشاء. أن مسلما كان مذهبه على ما صرح به في مقدمة صحيحه وبالغ في الرد على من خالفه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن ومن عنعن عنه وأن لم يثبت اجتماعهما الا أن كان المعنعن مدلسا والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة وقد أظهر البخاري هذا المذهب في تاريخه وجرى عليه في صحيحه وأكثر منه حتى أنه ربما خرج الحديث الذي لا تعلق له بالباب جملة إلا ليبين سماع راو من شيخه لكونه قد أخرج له قبل ذلك شيئا معنعنا. ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق ولا يتصدى لما تصدى له البخاري من استنباط الاحكام ليبوب عليها ولزم من ذلك تقطيعه للحديث في أبوابه بل جمع مسلم الطرق كلها في مكان واحد واقتصر على الأحاديث دون الموقوفات فلم يعرج عليها إلا في بعض المواضع على سبيل الندور تبعا لا مقصودا…. كان أبو محمد بن حزم يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السرد اه وعندي أن بن حزم هذا هو شيخ أبي مروان الطبني الذي أبهمه القاضي عياض ويجوز أن يكون غيره ومحل تفضيلهما وأحد ومن ذلك قول مسلم بن قاسم القرطبي وهو من أقران الدارقطني لما ذكر في تاريخه صحيح مسلم قال لم يضع أحد مثله فهذا محمول على حسن الوضع وجودة الترتيب وقد رأيت كثيرا من المغاربة ممن صنف في الأحكام بحذف الأسانيد كعبد الحق في احكامه وجمعه يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون وسياقها دون البخاري لوجودها عند مسلم تامة وتقطيع البخاري لها فهذه جهة أخرى من التفضيل لا ترجع إلى ما يتعلق بنفس الصحيح والله أعلم. وكذلك الجهة العظمى الموجبة لتقديمه (يعني صحيح البخاري) وهي ما ضمنه أبوابه من التراجم التي حيرت الأفكار وادهشت العقول والأبصار وإنما بلغت هذه الرتبة وفازت بهذه الخطوة لسبب عظيم أوجب عظمها وهو ما رواه أبو أحمد بن عدي عن عبد القدوس بن همام قال شهدت عدة مشايخ يقولون حول البخاري تراجم جامعه يعني بيضها بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره وكان يصلي لكل ترجمة ركعتين… أثر البخاري في تغيير ميزان منهج الصحة عند المحدثين …. مراعاة البخاري لزمنه لاختلافه عن زمن مالك. فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 15]. (الفصل الثالث في بيان تقطيعه للحديث واختصاره وفائدة إعادته له في الأبواب وتكراره) لطائف الأسانيد عند البخاري: قال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي فيما رويناه عنه في جزء سماه جواب المتعنت: “أعلم أن البخاري رحمه الله كان يذكر الحديث في كتابه في مواضع ويستدل به في كل باب بإسناد آخر ويستخرج منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد وإنما يورده من طريق أخرى لمعان نذكرها والله أعلم بمراده منها فمنها: أنه يخرج الحديث عن صحابي ثم يورده عن صحابي آخر والمقصود منه أن يخرج الحديث عن حد الغرابة وكذلك يفعل في أهل الطبقة الثانية والثالثة وهلم جرا إلى مشايخه فيعتقد من يرى ذلك من غير أهل الصنعة أنه تكرار وليس كذلك لاشتماله على فائدة زائدة. ومنها أنه صحح أحاديث على هذه القاعدة يشتمل كل حديث منها على معان متغايرة فيورده في كل باب من طريق غير الطريق الأولى. ومنها أحاديث يرويها بعض الرواة تامة ويرويها بعضهم مختصرة فيوردها كما جاءت ليزيل الشبهة عن ناقليها. ومنها أن الرواة ربما اختلفت عباراتهم فحدث راو بحديث فيه كلمة تحتمل معنى وحدث به آخر فعبر عن تلك الكلمة بعينها بعبارة أخرى تحتمل معنى آخر فيورده بطرقه إذا صحت على شرطه ويفرد لكل لفظة بابا مفردا. ومنها أحاديث تعارض فيها الوصل والإرسال ورجح عنده الوصل فاعتمده وأورد الإرسال منبها على أنه لا تأثير له عنده في الوصل. ومنها أحاديث تعارض فيها الوقف والرفع والحكم فيها كذلك. ومنها أحاديث زاد فيها بعض الرواة رجلا في الإسناد ونقصه بعضهم فيوردها على الوجهين حيث يصح عنده أن الراوي سمعه من شيخ حدثه به عن آخر ثم لقي الآخر فحدثه به فكان يرويه على الوجهين. ومنها أنه ربما أورد حديثا عنعنه راويه فيورده من طريق أخرى مصرحا فيها بالسماع على ما عرف من طريقته في اشتراط ثبوت اللقاء في المعنعن. فهذا جميعه فيما يتعلق بإعادة المتن الواحد في موضع آخر أو أكثر وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيرا أو مرتبطا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدا فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك كما تقدم تفصيله فتستفيد بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا طريق واحدة فيتصرف حينئذ فيه فيورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا ويورده تارة تاما وتارة مقتصرا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب فان كان المتن مشتملا على جمل متعددة لا تعلق لإحداها بالأخرى فإنه منه بحسن استنباطه وغزارة فقهه معنى يقتضيه الباب الذي أخرجه فيه وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد وإنما يورده من طريق أخرى لمعان نذكرها والله أعلم بمراده منها. وأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارة واقتصاره منه على بعضه أخرى فذلك لأنه إن كان المتن قصيرا أو مرتبطا بعضه ببعض وقد اشتمل على حكمين فصاعدا فإنه يعيده بحسب ذلك مراعيا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثية وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه قبل ذلك كما تقدم تفصيله فتستفيد بذلك تكثير الطرق لذلك الحديث وربما ضاق عليه مخرج الحديث حيث لا يكون له إلا يخرج كل جملة منها في باب مستقل فرارا من التطويل وربما نشط فساقه بتمامه فهذا كله في التقطيع وقد حكى بعض شراح البخاري أنه وقع في أثناء الحج في بعض النسخ بعد باب قصر الخطبة بعرفة باب تعجيل الوقوف قال أبو عبد الله: “يزاد في هذا الباب حديث مالك عن بن شهاب ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا انتهى”. وهو يقتضي أنه لا يتعمد أن يخرج في كتابه حديثا معادا بجميع إسناده ومتنه وإن كان قد وقع له من ذلك شيء فعن غير قصد وهو قليل جدا.. وأما اقتصاره على بعض المتن ثم لا يذكر الباقي في موضع آخر فإنه لا يقع له ذلك في الغالب إلا حيث يكون المحذوف موقوفا على الصحابي وفيه شيء قد يحكم برفعه فيقتصر على الجملة التي يحكم لها بالرفع ويحذف الباقي لأنه لا تعلق له بموضوع كتابه، كما وقع له في حديث هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: “إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون” هكذا أورده وهو مختصر من حديث موقوف أوله جاء رجل إلي عبد الله بن مسعود فقال: “إني أعتقت عبدا لي سائبة فمات وترك مالا ولم يدع وارثا فقال عبد الله إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون فأنت ولي نعمته فلك ميراثه فإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله منك ونجعله في بيت المال” فاقتصر البخاري على ما يعطي حكم الرفع من هذا الحديث الموقوف وهو قوله: “إن أهل الإسلام لا يسيبون” لأنه يستدعى بعمومه النقل عن صاحب الشرع لذلك الحكم واختصر الباقي لأنه ليس من موضوع كتابه، وهذا من أخفى المواضع التي وقعت له من هذا الجنس، وإذا تقرر ذلك اتضح أنه لا يعيد إلا لفائدة حتى لو لم تظهر لإعادته فائدة من جهة الإسناد ولا من جهة المتن لكان ذلك لإعادته لأجل مغايرة الحكم التي تشتمل عليه الترجمة الثانية موجبا لئلا يعد مكررا بلا فائدة كيف وهو لا يخليه مع ذلك من فائدة إسنادية وهي إخراجه للإسناد عن شيخ غير الشيخ الماضي أو غير ذلك على ما سبق تفصيله وهذا بين لمن استقرأ كتابه وأنصف من نفسه والله الموفق لا إله غيره. الفصل الثامن: فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة. فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 384]. وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره وهكذا نعتقد وبه نقول ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما قلت فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح. عدد أحاديث البخاري فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 468] قلت فجميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات على ما حررته وأتقنته سبعة آلاف وثلاث مائة وسبعة وتسعون حديثا فقد زاد على ما ذكروه مائة حديث واثنان وعشرون حديثا على أنني لا أدعي العصمة ولا السلامة من السهو ولكن هذا جهد من لا جهد له والله الموفق (فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 469]). وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة واحد وأربعون حديثا فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثا وهذه العدة خارج عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب (تعليق التعليق) وهذا الذي حررته من عدة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به لا أعلم من تقدمني إليه وأنا مقر بعدم العصمة من السهو والخطأ والله المستعان (فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 477]). فجميع ما في صحيح البخاري من المتون الموصولة بلا تكرير على التحرير ألفا حديث وستمائة حديث وحديثان ومن المتون المعلقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثا فجميع ذلك ألفا حديث وسبعمائة وأحد وستون حديثا وبين هذا العدد الذي حررته والعدد الذي ذكره بن الصلاح وغيره تفاوت كثير وما عرفت من أين أتى الوهم في ذلك ثم تأولته على أنه يحتمل أن يكون العاد الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولا في موضع ومختصرا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق. فتح الباري – ابن حجر [جزء 1 – صفحة 470]. ذكر مناسبة الترتيب المذكور بالأبواب المذكورة ملخصا من كلام شيخنا شيخ الإسلام أبي حفص عمر البلقيني تغمده الله برحمته: قال رضي الله عنه: “بدأ البخاري بقوله كيف بدء الوحي ولم يقل كتاب بدء الوحي لأن بدء الوحي من بعض ما يشتمل عليه الوحي، قلت ويظهر لي أنه إنما عراه من باب لأن كل باب يأتي بعده ينقسم منه، فهو أم الأبواب فلا يكون قسيما لها، قال وقدمه لأنه منبع الخيرات وبه قامت الشرائع وجاءت الرسالات ومنه عرف الإيمان والعلوم وكان أوله إلى النبي صلى الله عليه وسلم بما يقتضي الإيمان من القراءة والربوبية وخلق الإنسان فذكر بعد كتاب (الإيمان والعلوم)، وكان الإيمان أشرف العلوم فعقبه بكتاب العلم وبعد العلم يكون العمل وأفضل الأعمال البدنية الصلاة ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة فقال (كتاب الطهارة) فذكر أنواعها وأجناسها وما يصنع من لم يجد ماء ولا ترابا إلى غير ذلك مما يشترك فيه الرجال والنساء وما تنفرد به النساء ثم (كتاب الصلاة وأنواعها).

——————————————————————————–

(1) السيرة للندوي (ص : 12).

(2) بلوغ الأرب (1 / 39 – 40).

(المصدر: موقع طيبة الطيبة / طريق الإسلام)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى