تقارير وإضاءات

تاريخ من المشانق.. لماذا تفضل الدولة المصرية إعدام الإسلاميين؟

تاريخ من المشانق.. لماذا تفضل الدولة المصرية إعدام الإسلاميين؟

إعداد محمد فتوح

“أنا خصيمك أمام الله يوم القيامة، أنا واللي معايا مظلومين وأنت عارف ده كويس”

(محمود الأحمدي – أحد الشباب المعدومين في قضية النائب العام)

مثّل عام 1954 في التاريخ المصري الحديث، بداية عهد جديد من استباحة دماء الإسلاميين تحت مظلة نظام شمولي قاده جمال عبد الناصر، نظام استخدم ذات الممارسات وآليات الأنظمة الشمولية(1) التي أنتجتها الحرب العالمية الأولى، ولتتدلى على إثرها أجساد الإسلاميين من على مشانق النظام، وهي الإعدامات التي فتحت الباب على مصراعيه تجاه الإسلاميين، والذي لم يُغلق حتى الآن! نهر الدم الذي انسكب منذ النظام الناصري، بدأ بإعدام “عبد القادر عودة”، ثم سيد قطب، ليستمر مسلسل الإعدامات بعدها في عصر السادات في حادثتي الفنية العسكرية واغتيال السادات، ثم تبعه استئصال مبارك للجماعة الإسلامية، حتى الوصول إلى عبد الفتاح السيسي.

عبد القادر عودة قبل إعدامه (مواقع التواصل)

بيد أن الإعدامات السياسية، لم تكن على اتساعها بالصورة التي يختطها عبد الفتاح السيسي في عهده، حيث عادة، ووفق المسار التاريخي للدولة المصرية الحديثة، فإن الإعدام السياسي لم يكن سوى مرحلة ردع نهائية تلجأ لها الدولة بعد فشل جميع السُّبل الأخرى لاحتواء الموقف، حيث لم تتجاوز أعداد المعدومين سياسيا منذ عام 1952 إلى 2013 أكثر من 150 فردا [أ]. إلا أن السيسي، والذي وصل للسلطة بانقلاب دموي، فقد توزعت إعداماته بـ “المجّان”، ليزداد نهر الدم، ولتشهد مصر معه أعلى معدلات الإعدام في تاريخها الحديث، حيث بلغت أحكام الإعدام منذ 2014 أكثر من 1000 حكم، نُفّذت منها 43 حالة خلال أربع سنوات فقط، وأُيّد حكم الإعدام نهائيا على 50 آخرين! [2] ومع تتابع حالات الإعدام، والتي يبدو أنها في تزايد مضطرد؛ يعلن عبد الفتاح السيسي أن طريق مصر السياسي سيظل دمويا حتى حين!

ووسط حملة التعديلات الدستورية التي ستُخوّل السيسي مُدد رئاسة إضافية، يُعلن السيسي عبر إعدام خصومه، لا سيما من الإسلاميين، بأن معادلته صفرية. حيث تُنفّذ أحكام الإعدام تحت إشرافه شخصيا وبتوقيعه، وهو الوحيد الذي يملك، بحسب القانون المصري، صلاحية العفو أو تخفيف الحكم، وهو الأمر الذي لم يحدث! [3]

وفي ظل هذه الأحكام، والتي طالت جميعها شبابا من الإسلاميين، برز ما يُعرف لدى الحقوقيين بـ “قضاة الإعدام” بعدما كان الإعدام السياسي لا يكاد يخرج عن دائرة القضاة العسكريين، فكيف بدأت قصة الصراع بين الإسلاميين والعسكر مع الإعدامات، وكيف تطورت عبر الأنظمة المختلفة، حتى أتى السيسي ليُرسل معارضيه السياسيين إلى حبل المشنقة مباشرة، ضمن ما يمكن وصفه باعتباره “تدجين قضائي” لم تشهده مصر من قبل؟

إعدامات 1954.. عبد القادر عودة ورفاقه

“ماذا يهمني أين أموت؛ أكان ذلك على فراشي، أو في ساحة القتال.. أسيرا، أو حرّا.. إنني ذاهب إلى لقاء الله”

(عبد القادر عودة)

في الثامن والعشرين من فبراير/شباط عام 1954 وقف عبد القادر عودة، المستشار وعضو لجنة كتابة الدستور، من شرفة قصرعابدين يطلب من الجماهير المتظاهرة [ب] أن تتراجع عن اقتحام القصر وتنصرف بهدوء إلى بيتها، وهو ما استجابت له الجماهير من فورها حينما طالبهم عودة بذلك، بينما، وعلى النقيض، فإن طلب محمد نجيب، الرئيس المصري حينها، للجماهير بالانصراف لم يحرك فيهم ساكنا، وهو ما جعل نجيب يستعين بعودة قائلا: “شوف ولادك يا عبد القادر”، ليصرفهم عودة بكلمة واحدة. [4]

لكن المفاجأة التي لم يتوقعها أحد، حتى عودة نفسه، أن حياته هو شخصيا ستنتهي على يد العسكر الذين نافح عنهم. مئتان واثنان وثمانون يوما كانت الحد الفاصل بين زعامة عودة وبين حبل المشنقة الذي فصّله له العسكر.

استطاع عبد الناصر -بعد حادثة قصر عابدين- الوصول لعرش مصر وتنحية محمد نجيب، وعمل عبد الناصر وعلى الفور باتجاه إزاحة الكتل المؤثرة والفاعلة من معارضيه، وعلى الرأس منهم كان قائد الجموع الثورية “عبد القادر عودة”. وكما يقول المثل “اجعل صديقك قريبا وعدوك أقرب”، فقد سعى عبد الناصر لأن يجعل من عبد القادر عودة مقربا منه، حتى أصبح جليسه الخاص، وليطمئن له عودة بُحسن نية [ج]، الحال الذي لم يلبث طويلا حتى شن عبد الناصر هجمته المباغتة، ليعتقله بعد حادثة المنشية، ويحكم عليه وعلى ستة آخرين، كلهم من الإخوان المسلمين بالإعدام شنقا، وهم محمود عبد اللطيف، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمد فرغلي، وحسن الهضيبي مرشد الإخوان، والذي خفف الحكم عليه إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

كانت هذه هي الواقعة الأولى من الإعدام السياسي للإسلاميين المخالفين للدولة، وهو الباب الذي ظل مفتوحا على مصراعيه، ولم يغلق حتى الآن.

إعدامات 1966.. سيد قطب ورفاقه

“إن كلماتنا ستبقى ميتة لا حراك فيها هامدة أعراسا من الشموع، فإذا مِتنا من أجلها انتفضت وعاشت بين الأحياء”

(سيد قطب)

كان سيد قطب رئيسا لهيئة التحرير التي أنشأتها ثورة يوليو، ووجها من الوجوه الشهيرة في المجتمع، ومقربا من صُناع القرار في مجلس قيادة الثورة، ومن عبد الناصر شخصيا، تأثير انعكس حينما عقد مجلس قيادة الثورة حفلة شخصية لسيد اعترافا بجهوده معهم، وليهتف عبد الناصر باسمه في هذه الأمسية [5]. بحسب أحمد رائف: “كان عبد الناصر وسيد قطب صديقين عزيزين، وكان قطب من أهم الشخصيات التي أثرت في قرارات عبد الناصر، كما أنه صنع أهم القرارات التي بنى بها عبد الناصر مستقبل الثورة، علاقة وطيدة انعكست عبر مقابلات يومية بين الاثنين” [6].

بيد أن النزاع الذي حدث بين قطب وعبد الناصر بدأ بالظهور للعلن حينما أنشأ الإخوان صحيفة وأرادوا قطبا رئيسا لتحريرها، إلا أن عبد الناصر طلب من قطب رفض العرض لخصومة جمال عبد الناصر معهم تلك الفترة، وهو الأمر الذي رفضه قطب، مما ساهم في تأجيج الصدام مع عبد الناصر، وهو ما آل إلى اعتقاله. اعتقال دام عشرة أعوام أصبح فيها قُطب هو المفكر الإسلامي الأبرز ورمز الصمود والتضحية، وصاحب الظلال، ثم أُفرج عنه في عام 1964، وبعد عام واحد فقط، نشر سيد قطب كتابه “معالم في الطريق”، ليُشنق بعدها في التاسع والعشرين من أغسطس/آب 1966 [7].

وعلى الرغم من شخصية قطب الهادئة، فإن حياة قطب كانت مشحونة بالحركة والفعل، بعيدة عن السكون والانعزال، وهي الصفات نفسها التي اتسم بها موته أيضا. فقطب الذي عُرف باعتزازه بذاته، لم يسمح لشيء أن يغير هذه الحالة بداخله، وهو الذي لم يتغير حتى بعدما سافر إلى أميركا في بعثته الدراسية، بل زاد صلابة ومِراسا على مبدأه [8]. وهو ما جعل كتابات قطب تُمثّل مُرشدا، وملاذا في كثير من الأحيان لأجيال عريضة من الإسلاميين.

عزز هذه الروح رفض قطب أن يستجدي عطفا من عبد الناصر، أو يستجلب شفقته للإفراج عنه، ورفض محاولات الوساطة من أخته قائلا: “إن السبابة التي ترتفع لهامات السماء موحدة بالله عز وجل لتأبى أن تكتب برقية تأييد لطاغية ولنظام مخالف لمنهج الله الذي شرعه لعباده” [9]. حُكم على قطب بالإعدام إثر اتهامه بقيادة تنظيم سري عُرف بتنظيم 1965 وأُعدم معه محمد يوسف هواش، نائبه في التنظيم، وعبد الفتاح إسماعيل، مسؤول الاتصالات الخارجية للإخوان ومن عُرف باعتباره “دينامو الحركة” وقتها. إعدام سيد قطب لم يطوِ قصة حياته، بل بدأت مع آخرين انتسبوا إلى فكره، ونصبت لهم المشانق لاحقا، وكان أولهم تنظيم الفنية العسكرية بقيادة صالح سرية.

إعدامات 1974.. صالح سرية ورفاقه

“وماذا يملك أنور السادات من أمره حتى يملك أن يُطيل في عمري شيئا؟ انظروا إلى هذا السجن الكئيب والطعام الرديء والمراحيض المسدودة، هذه هي الدنيا فلماذا نتمسك بها؟!”

(صالح سرية، قائد تنظيم الفنية العسكرية)

في 18 أبريل/نيسان 1974 قُتل سبعة عشر فردا وأُصيب خمسة وستون آخرون في محاولة انقلابية قام بها طلاب عسكريون، تمثل هدفهم في إنهاء حكم السادات، وإقامة ما وصفوه بـ “الحكم بالشريعة الإسلامية” فيما عُرف بأحداث “الفنية العسكرية” [10].

قاد هذه المحاولة “صالح سرية” والذي كان منتسبا للإخوان المسلمين ومن أصول فلسطينية جاء وافدا إلى مصر، واستطاع أن يُجنّد مجموعة من الشباب الذين آمنوا بحاكمية الشريعة، وكان أثر إعدامات 54 و66 حاضرا في أحاديثهم ومرافعاتهم أمام المحكمة، بالأخص فيما يتصل بسيد قطب. ففي مرافعة كارم الأناضولي، الذي أُعدم مع سريّة، قال: “فإن هذه القضية التي أنا متهم فيها الآن ليست قضية “الفنية العسكرية” ولا قضية “صالح سرية”، ولكنها في حقيقة الأمر هي قضية حسن البنا نفسها، هي بعينها قضية يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة ومحمد هواش وعبد الفتاح إسماعيل، ويكفي أن نقول: إنه ما كان مقتل سيد قطب إعداما كَمَا صوروه وأرادوا، بقدر ما كان بعثا للإسلام والمسلمين، وما هذا الشباب المتعطش للإسلام اليوم في الجامعات إلا بشائر هذا البعث، وإن أخانا سيد هو الرجل الذي قُتل لئلا يُعبد في الأرض إلا الله”.

بيد أن محاولة الانقلاب التي قادها التنظيم باءت بالفشل، ليعتقل صالح سرية وباقي أفراد التنظيم البالغ عددهم 92 فردا، وليستمر تعذيبهم أحد عشر يوما، ويموت اثنان منهم جراء التعذيب، ثم بعد مُحاكمة امتدت لعام ونصف، حُكم على المتهم الأول صالح سرية (المنظر للتنظيم)، وكارم الأناضولي (مسؤول الطلاب العسكريين)، وطلال الأنصاري (مسؤول مجموعة الإسكندرية) بالإعدام شنقا، ليُخفف الحكم الصادر من السادات على الأنصاري إلى الأشغال الشاقة فيما بعد، وكان هذا الحُكم من الإعدامات السياسية هو الأول في عهد السادات.

بدأت الجماعة الإسلامية في عهد السادات منذ السبعينيات كحركة طلابية، ثم تم تسييسها لاحقا وتحولت إلى حركة ذات إطار فكري ومنهجي تناهض النظام الحاكم، وقد مَثّل اغتيال السادات أهم العمليات التي قامت بها الجماعة الإسلامية عام 1981م [11].

صورة خالد الإسلامبولي وهو يغتال السادات وهو في المحكمة (مواقع التواصل)

خالد الإسلامبولي وعبد الحميد عبد السلام بالزي العسكري (مواقع التواصل)

بعد اتفاقية كامب ديفيد التي أرست قواعد السلام بين مصر والكيان الإسرائيلي، زاد العداء بين السادات والإسلاميين، وهو العام ذاته الذي اعتقل فيه السادات ما يزيد على 1500 من معارضيه، الأمر الذي عجّل بلحظة الصدام بين الجماعة الإسلامية والسادات.

كانت الخطة مبنية على تقسيم لمجموعات، إحداها تقتل السادات، والأخرى تسيطر على مبنى الإذاعة والتلفزيون، والثالثة تعمل على حشد الناس في الشارع والميادين والإيمان بالثورة الجديدة. وبالفعل تم قتل السادات، على يد خالد الإسلامبولي ورفاقه المشاركين في العملية، والذين كانوا جميعا ضباطا في الجيش.

إلا أن الخطة لم تكتمل، ليُعتقل منفذو العملية، وليُحكم على الإسلامبولي وعبد الحميد عبد السلام وحسين عباس وعطا طايل بالإعدام رميا بالرصاص، ولينضم إليهم في قائمة الإعدامات المدني الوحيد، وهو المهندس عبد السلام فرج، الذي كان عضوا في جماعة الجهاد، وعمل على التخطيط للعملية والتنسيق بين أفرادها، فيما صدرت أحكام مؤبدة لباقي المشاركين، مثل عبود الزمر وطارق الزمر وآخرين [12].

          

الجماعة الإسلامية ومشانق التسعينيات

“تتكرر مأساة الحاكم الكافر في كل عصر مع المسلمين الضعفاء.. لهذا كان حتما أن تخرج السيوف من أغمادها، ويشتعل البارود ويطلق الرصاص، ويقوم المجاهدون لدفع الظلم والجبروت، ورد العنف بالعنف والقوة بالقوة… فإما الجهاد والمواجهة والقتال، وإما الأسر والذل والهوان”

(حتمية المواجهة – بيان للجماعة الإسلامية بعد قتل أحد أفرادها)

بدأت المواجهات بين الجماعة الإسلامية والأمن، حينما بدأت الشرطة بالتضييق على أعمال الجماعة واقتحام المساجد وإطلاق القنابل المسيلة للدموع والقتل خارج القانون واعتقال المنتمين إليها. تكرر هذا السلوك في محافظات عديدة مثل أسوان والمنيا وسوهاج وأسيوط والقاهرة، لمنع الجماعة من حملاتها الدعوية، واتخاذها لنهج “إنكار المنكر باليد” [13]. وليرفع وزير الداخلية حينها زكي بدر شعار “الضرب في سويداء القلب”، ولترفع الجماعة بالمقابل شعار “مساجدنا معاقلنا” و”مساجدنا خط أحمر”.

بيان من الجماعة الإسلامية بعد مواجهات أفرادها مع قوات الأمن (مواقع التواصل)

ومع غياب عدد من قيادات الجماعة عن المشهد بعد حادثة قتل السادات واعتقال مجموعة الصعيد مثل كرم زهدي وعصام دربالة والزمر وآخرين، تزايدت حوادث القتل خارج القانون وزادت معها ردود الجماعة تجاه قوات الأمن، وهو ما آل إلى اعتقال 20 ألفا في التسعينيات، مات منهم 434 خارج القانون نتيجة الإهمال والتعذيب في المعتقلات، بدءا من “الجلد والصعق بالكهرباء، وإبقاء الفرد عاريا أو شبه عارٍ على أرضية الزنزانة”. أما الإعدامات فقد طالت 88 فردا من أفراد الجماعة الإسلامية، والتي ازدادت وتيرتها بوصول حسن الألفي لمنصب وزير الداخلية، والذي اعتمد سياسة أمنية تعتمد على توسيع دائرة المواجهة [14].

بدأ الألفي تنفيذ قرارات الإعدام الصادرة عن المحاكم العسكرية، وقد رصد الباحث أحمد مولانا في دراسته “الجماعة الإسلامية: إستراتيجيات متعارضة” بعض حالات الإعدام تلك. حيث نُفذ في 13 يونيو/حزيران 1993 الحكم على شريف حسن المتهم في قضية “العائدون من أفغانستان”، ثم أُعدم حسن بدران يوم 23 من الشهر نفسه لاتهامه بقتل ضابط الشرطة علي خاطر، ثم أعدم 7 أفراد في 8 يوليو/تموز 1993 لاتهامهم بقضية “ضرب السياحة”. وفي 17 يوليو/تموز 1993 أُعدم خمسة من المتهمين بتنفيذ محاولة اغتيال صفوت الشريف، وفي مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 1993 أُعدم محمود صلاح ومصطفى عوني لاتهامهما بقتل نقيب الشرطة أحمد البلتاجي بالقاهرة.

مسيرة لنساء الجماعة الإسلامية للتضامن مع دماء المسلمين حول العالم (مواقع التواصل)

إعدامات جماعة الجهاد.. بين الكَرّ والفَرّ

اختلفت جماعة الجهاد عن الجماعة الإسلامية من حيث منطلقها الأساسي الذي اعتمدت فيه على نظرية الثورة الإسلامية والانقلابات المسلحة، وليس مجرد كونها جماعة دعوية مثل الجماعة الإسلامية، وهو ما أضفى على الجماعة حجاب من السرّية. كان أول أحكام الإعدام للمهندس عبد السلام فرج الذي انتمى لجماعة الجهاد لكنه أقنع العسكريين من الجماعة الإسلامية بقتل السادات. وقد انضم لجماعة الجهاد عدد من القادة العسكريين مثل الرائد عصام القمري والذي قُتل لاحقا في مواجهات مع الأمن [15]. تركزت حوادث جماعة الجهاد على عمليات قتل نوعية تستهدف الرئيس الظالم ومعاونيه وليست مواجهة شاملة، مثل استهداف موكب وزير الداخلية حسن الألفي بدراجة نارية مفخخة عام 1993، مما أسفر عن إصابته في ذراعه، وقُتل في الحادث عضوا الجماعة نزيه راشد وضياء عبد الحافظ، بينما توفي أحمد فاروق أثناء التعذيب في التحقيقات، وأُعدم خمسة من عناصر الجماعة على خلفية الحادث.

ومحاولة أخرى لاستهداف محمد حسني مبارك بسيارة ملغومة في اليمن، وهي ما أُعدم على إثرها “سيد صلاح، وأحمد عثمان، وهانئ عبد الرؤوف”. وأُعدم كذلك الضابط أحمد جمعة في محاولة استهداف للرئيس مبارك في قاعدة رأس التين بالإسكندرية [16].

السيسي.. الفُجر الأخير

عَنْ بُرَيْدَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ.

رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ.

وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ، فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ.

 وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ.

مثل صعود عبد الفتاح السيسي بانقلابه العسكري، مرحلة جديدة في ملف الإعدامات السياسية، حيث أصبحت شبهة التورط في أي “عمل ديني” تُقابل بالإعدام مباشرة، فقد بلغت أحكام الإعدام منذ 2014، 2054 حُكما، وتم بالفعل تنفيذ الإعدام في 43 معارضا سياسيا، بينما ينتظر 50 آخرون التنفيذ في أي لحظة، بعد تأكيد الأحكام عليهم.

وبحسب منظمات دولية وبيانات حقوقية، فإن غالبية الأرواح التي أُزهقت بالإعدام، من فئة الشباب الذين انتُزعت اعترافاتهم تحت التعذيب، وفي أوساط اختفاء قسري وتهديد وصل حد اغتصاب الأهل والصعق بالكهرباء، الأمر الذي يُبطل عمليات المحاكمة من أساسها.

ففي قضية النائب العام، طلب الشاب محمود الأحمدي من القاضي إعادة النظر في تحقيقات النيابة، وليُظهر له جسده الممتلئ بآثار التعذيب قائلا: “أخدنا كهربا تكفي مصر عشرين سنة، وأنت بريء من التهمة والضابط قالي هتشيلها يا محمود، وقلت له دا ظلم!”.

إلا أن القاضي حسن فريد، أحد “قضاة الإعدامات”، لم يرد سوى بكلمة واحدة: “انت اعترفت يا محمود”، ماضيا في طريقه المرسوم سلفا.

حادثة تكررت مع قضاة آخرين، مثل محمد شيرين فهمي، القاضي المكلّف بالنظر في قضايا الرئيس المصري السابق محمد مرسي، ومكتب الإرشاد، والتخابر مع حماس، والذي عقد “خطبة عصماء” في هجاء المتهمين قبل الحكم عليهم مما يُبين أنه ليس طرفا محايدا كما ينبغي أن يكون القاضي [17]، وهو ما صارحه به أحد المتهمين قائلا: “أنت خصم لنا، جاي تحاكمنا ليه” [18].

لاقت إعدامات الشباب في مصر استهجانا واسعا حول العالم، لا سيما بعد قضية التسعة المتهمين بقتل النائب العام، حيث قتلت “الداخلية” 4 مجموعات مختلفة في وقت سابق بالتهمة ذاتها، ثم واصلت لتكلل القضية بإعدام 9 أفراد يُعرف من شهاداتهم وشهادات ذويهم أنهم لم يكونوا على علم بالحادث!

عدة بلدان تحركت بوقفات تضامنية ضد أحكام الإعدام في مصر وكندا وأميركا وبريطانيا وألمانيا وتونس وتركيا [19]، وليهاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبد الفتاح السيسي واصفا التعذيب الذي يُلحقه بمعارضيه قبل الإعدام بقوله: “جوابي لمن يسأل لماذا لا تقابل السيسي، أنا لا أقابل شخصا كهذا على الإطلاق” [20].

    

حِراكٌ لم يوقف نهر الدم تجاه الإسلاميين حتى الآن. فالقوة كما يبدو، هي التي تصوغ معادلات المعركة الآنية، معاركٌ لن توقفها تنديد ومظاهرات على الرغم من أهميتهم الرمزية، وإنما بتدخلات الساسة وتشابكات المصالح الدولية أو حتى بانقلابات عسكرية جديدة، وغيرها من الحلول التي يمكن أن تعيد صياغة معادلات الداخل المُحكمة، وحتى تأتي واحدة من هذه الخيارات، فسيستمر نزيف الشباب، وتستمر دعوات المظلومين في الصعود إلى السماء.

——————————————————————–

الهوامش

أ- يختلف الإعدام السياسي عن القتل خارج القانون، فالأول مُورس بكثرة في العصور المختلفة، لكن الإعدام السياسي كان التحفظ فيه أوسع ولا تميل له الدول من حيث الأصل، وهو ما جعل شخصيات مركزية مثل الشيخ عمر عبد الرحمن في قضايا الجهاد وغيرها يخرجون براءة. وكان اللجوء إلى القضاء العسكري لا القضاء المدني هو العرف المتبع حين إرادة الحكم على المعارضين سياسيا بالإعدام كما حدث في إعدام عبد القادر عودة وسيد قطب وصالح سرية وخالد الإسلامبولي وغيرهم، لكن الأمر سيختلف كثيرا مع عبد الفتاح السيسي، وسيصبح الحكم بالإعدام متاحا للجميع وفي كل أنواع المحاكم.

ب- كان من أسباب المظاهرات أن يُعاد محمد نجيب رئيسا حتى يتم تسليم البلاد، ومحاكمة قتلة الثوار عند كوبري قصر النيل، وتنحية المظلومين، والإفراج عن المعتقلين، وتطبيق شرع الله!

ج- تعقيب عن “سذاجة الإخوان“.

(المصدر: ميدان الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى