كتاباتكتابات مختارة

العز بن عبد السلام.. سلطان العلماء وبائع الامراء

العز بن عبد السلام.. سلطان العلماء وبائع الامراء

بقلم محمود محمد القريوتي

خرج العز بن عبد السلام من بيت المقدس إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسؤوليات كبيرة في الدولة وكان المتوقع أن يقول العز بن عبد السلام: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظًا على مصالح المسلمين وألاَّ أعكِّر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب -مع أنه رجل عفيف وشريف إلا أنه كان رجلاً جبارًا مستبدًّا شديد الهيبة حتى إنه ما كان أحدٌ يستطيع أن يتكلم بحضـرته أبدًا ولا يشفع لأحد ولا يتكلم إلا جوابًا لسؤال حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائمًا نقول ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب: لن نخرج من المجلس إلا إلى السجن فهو رجل مهيب وإذا سجـن إنسانًا نسيـه ولا يستطيع أحد أن يكلِّمه فيه أو يذكره به وكان له عظمة وأبهة وخوف وذعر في نفوس الناس سواءً الخاصة منهم والعامة.

فماذا كان موقف العز بن عبد السلام معه؟ في يوم العيد خرج موكب السلطان يجوس في شوارع القاهرة والشرطة مصطفّون على جوانب الطريق والسيوف مُسلطة والأمراء يقبّلون الأرض بين يدي السلطان هيبة وأبهة (وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت) وهنا وقف العز بن عبد السلام وقال: يا أيوب (هكذا باسمـه مجردًا بلا ألقاب) فالتفت الحاكم ليرى: من الذي يخاطبه باسمه الصريح بلا مقدمات ولا ألقاب؟ ثم قال له العزّ: ما حُجَّتُك عند الله – عز وجل – غدًا إن قال لك: ألم أُبَوِّئْكَ ملك مصر فأبحت الخمور؟ فقال: أويحدث هذا في مصر؟ قال: نعم في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات وأنت تتقلّب في نعمة هذه المملكة؟ فقال: يا سيدي أنا ما فعلت هذا إنما هو من عهد أبي. فَهَزَّ العز بن عبد السلام رأسه وقال: إذن أنت من الذين يقولون: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) فقال: لا أعوذ بالله وأصدر أمرًا بإبطالها فورًا ومنع بيع الخمور في مصر.

رجع العز بن عبد السلام – رحمه الله – إلى مجلسه يعلِّم الطلاب ويدرِّسهم وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة كما يعلمهم الحلال والحرام ويعلمهم الغَيْرة على الدين مثل ما يعلمهم الأحكام إذ ما قيمة أن يوجد طالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث ومع ذلك هو ميت الغيرة على الإسلام لا يغضب لله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – ولا يَتَمَعَّر وجْهُهُ إذا رأى المنكر ويَتَطَلَّعُ لمنازل الصِّديقين والشهداء؟ ما قيمة هذا العلم؟ وعندما رجع العز بن عبد السلام إلى مجلس درسه جاءه أحد تلاميذه يقال له: الباجي يسأل: كيف الحال؟ قال: بخير والحمد لله. قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي رأيت السلطان وهو في أبهة وعظمة فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه فأردت أن أهينها.

إذن العز بن عبد السلام أعلن هذا الأمر على الناس لأنه يريد أن يربي السلطان ويقصد إنكار مُنْكَرَيْن في وقت واحد: المنكر الأول: الحانة التي يباع فيها الخمر. والمنكر الثاني: هو هذا الغرور وهذه الأبهة والطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم فأراد أن يقتلعه ويزيله من نفسه لذا قال العز: “لئلاّ تكبر عليه نفسه فتؤذيه”. فقال له تلميذه الباجي: يا سيدي أما خِفْتَه؟ قال: “لا والله يا بني استحضرت عظمة الله – عز وجل – وهيبته فرأيت السلطان أمامي كالقط!

من مواقفه الشهيرة أيضًا والتي اصطدم فيها مع الصالح أيوب نفسه أنه لما عاش في مصر اكتشف أن الولايات العامة والإمارة والمناصب الكبرى كلها للمماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب قبل ذلك ولذلك فهم في حكم الرقيق والعبيد ولا يجوز لهم الولاية على الأحرار فأصدر مباشرة فتواه بعدم جواز ولايتهم لأنهم من العبيد. وكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها وقال: هذا عبد مملوك حتى لو كان أميرًا وكبيرًا عندهم أو قائدًا في الجيش يَرُدُّه إذ لابد أن يُبَاع ويحرَّرَ وبعد ذلك يُصَحِّحُ بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها أما الان فهم عبيد.

واشتعلت مصر بغضب الأمراء الذين يتحكمون في كل المناصب الرفيعة حتى كان نائب السلطان مباشرة من المماليك وجاءوا إلى الشيخ العز بن عبد السلام وحاولوا إقناعه بالتخلي عن هذه الفتوى ثم حاولوا تهديده ولكنه رفض كل هذا – مع أنه قد جاء مصر بعد اضطهادٍ شديد في دمشق – وأصرَّ على كلمة الحق. فرُفع الأمر إلى الصالح أيوب فاستغرب من كلام الشيخ ورفضه. فهنا وجد الشيخ العز بن عبد السلام أن كلامه لا يُسمع فخلع نفسه من منصبه في القضاء فهو لا يرضى أن يكون صورة مفتي وهو يعلم أن الله عز وجل سائله. وركب الشيخ العز بن عبد السلام حماره ليرحل من مصر وخرج خلف الشيخ العالم الأمة كلها حتى ذكر المؤرِّخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال وحتى الذين لا يؤبه لهم -هكذا تقول الرواية- مثل: النجارين والصباغين والكناسين… وخرج كل أصحاب الحرف والمهن -الشريفة والوضيعة- الجميع خرجوا وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيب رهيب.

ووصلت الأخبار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب فأسرع بنفسه خلف الشيخ العز بن عبد السلام واسترضاه فقال له العزُّ: إن أردت أن يتولى هؤلاء الأمراء مناصبهم فلا بد أن يباعوا أولاً ثم يعتقهم الذي يشتريهم ولما كان ثمن هؤلاء الأمراء قد دفع قبل ذلك من بيت مال المسلمين فلا بد أن يرد الثمن إلى بيت مال المسلمين. ووافق الملك الصالح أيوب. وفعلاً فَعَلَها العز بن عبد السلام – رحمه الله – قام وجمع هؤلاء وأعلن عنهم وبدأ يبيعهم وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار فلا يبيعه تَحِلَّةَ القسم وإنما يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأن هذه الواقعة لم يحدث مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى