كتب وبحوث

العدل والمساواة وضرورة التلازم في الفكر الحقوقي

العدل والمساواة وضرورة التلازم في الفكر الحقوقي

من أهم الأسس الأخلاقية التي تقوم عليه بُنية الحقوق الإنسانية، العدل والمساواة. والربط بينهما مهمٌّ للغاية في بناءِ تصور تكاملي للحقوق بدون خلل أو تناقضات. فالتلازمُ بين العدل والمساواة كمفهومين رئيسَيْن للحقوق لا ينبغي فصلهُما أثناء البيان والتقرير. وفي التاريخ الإنساني المعاصر لـمَّا تم التفريقُ بينهما، واستقلت المساواة عن العدل، ظهرت الكثير من العيوب الحقوقية، كما سيظهر لاحقًا.

ويمكن بيان أهمية العدل والمساواة، وما يلحق بهما من إشكالات ومفاهيم من خلال المسائل الآتية:

أولًا: العدل أساس الحقوق وعماد الأمن والاستقرار.

وجاء في بيان مفهومه عدة معاني؛ فقيل هو: بذل الحقوق الواجبة وتسوية المستحقّين في حقوقهم.[1]

وقال ابن حزم (ت 1064م): هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه.[2]

وقال الجرجانيُّ (ت 1078م): العدل: الأمر المتوسّط بين الإفراط والتّفريط.[3]

وهذه المعاني كلها داخلةٌ في مفهوم العدل من حيث اللغة والاستعمال الشرعي والعرفي، فبعضُها جاء في مقام التوسُّط والاعتدال بين طرفين مذمومين، وبعضها في مقام اجتناب الظلم للنفس أو الآخرين.

كما أن العدل هو الغاية التي من أجلها أرسل الله الرسلَ وأنزل الكتب، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]. والميزان في الآية هو العدل[4].

وقال تعالى آمرًا بالعدل حتى لو كان ضد ما تهوى الأنفس: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152].

وكذا في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

يقول ابن جرير الطبري في معناها: “فلا تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها -لغني على فقير، أو لفقير على غني- إلى أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه”[5].

وتأكد هذا المعنى في القرآن الكريم في أكثر من موضع في وجوب العدل في الحكم والقضاء والتعامل بين الناس، فعلى قانون العدل قامت السموات والأرض.

لهذا تكرر الأمرُ بالعدل في القرآن بوصايا متنوعة تحقيقًا لهذه الغاية الكبرى، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].

قال ابن القيم تأكيدًا لأهمية العدل بين الناس: “إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي به قامت السماوات والأرض، فإذا ظهرت أمارات العدل وتبين وجهه بأي طريقٍ كان فثمَّ شرع الله ودينه، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وعلاماته في شيء ونفى غيرها من الطرق التي هي مثلها أو أقوى منها، بل بيّن ما شرعه من الطرق؛ بأن المقصود هو إقامة العدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، لا يقال: إنها مخالفة له، فلا تقول: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسةً تبعًا لمصطلحكم، وإنما هي شرعٌ حق”[6].

فالعدل في النظم والقوانين وما يصلح في تدبير حياة الناس هو من شرع الله تعالى، حتى لو لم تَرِد النصوص في ذلك.

كما أن العدل أساسُ استقرار الدول والشعوب في معاشها وأمانها على أنفسها ومكتسباتها، يقرر ذلك المعنى شيخُ الإسلام ابن تيمية في نص نفيس يقول فيه: “أمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرةً، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمةً، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام”.[7]

ثانيًا: المساواة؛ أساس بناء المواثيق المعاصرة

وهي من أهم الأسس الأخلاقية والمبادئ الحقوقية التي تمت العناية بها كثيرًا في أوقاتنا المعاصرة، وعليها قامت الكثير من المواثيق والإعلانات الحقوقية، والمقصود هنا بالمساواة: “أن يكون للمرء مثل ما لأخيه من الحقوق، وعليه مثل ما عليه من الواجبات دون زيادة أو نقصان”[8].

وفي الإسلام ظهر هذا المبدأ متعاضدًا مع العدل، وجاء في أهميته والأمر به الكثيرُ من النصوص، منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، فالله تعالى خلق الناس جميعًا متساوون لا فرق بينهم، والتنوع الإنساني الذي يزداد مع كثرة الناس وتوالدهم، يشكّلهم على هيئة شعوبٍ وقبائل أو دولٍ وأوطان؛ وهذا ليس سببًا في التعالي؛ بل هو أساس التعارف بينهم، ومن أراد التعالي على غيره؛ فليس في الإسلام معيار لذلك سوى: التقوى. وصاحب التقوى لا يتعالى على غيره؛ بل تلزمه صفات التقوى بالرحمة والتواضع ولين الجانب.

ومن الآيات الدالة على المساواة بين البشر في أصلهم الوجودي؛ قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

فلأول مرة في تاريخ الإنسانية؛ ثقافة وتعاليم، يأتي تشريع بمثل هذا السمو والعلو الحقوقي؛ ليعتبر كل إنسان على ظهر البسيطة أهلًا للكرامة والرفعة، وأهلًا لتقبل الحقوق والالتزام بالواجبات كأي إنسان آخر، وإن كلًّا من الأصل والجنس واللون لا يمكن أن يفرق بين إنسان وآخر مهما كان شأن هذا الإنسان.

ولو قارنّا الإسلام وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم الأخرى، لوجدنا بونًا شاسعًا فيما جاء به الإسلام وما كان عليه واقع الأمم والشعوب الأخرى من ظُلم وعدم مساواة، فالتفرقة العنصرية على أساس اللون كانت منتشرةً في غالب الحضارات القديمة وحتى المجتمعات المعاصرة، فالإغريق كانوا يرون أنفسهم شعبًا مميزًا بالعقل والحكمة؛ بينما شعوب الأرض الأخرى ليسوا سوى برابرة يملكون القوة البدنية فحسب، وكذا كان الرومان يرون تفوقهم العنصري على غيرهم من الشعوب، وهذه النظرة العنصرية قد برّرت لهم اجتياح العالم وقهر الشعوب وسفك الكثير من الدماء.

ولم تسلم الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية من ترسيخ مبدأ التفرقة إما نظريًّا كما هو حال اليهود الذين يرون أنهم شعب الله المختار، أو عمليًّا كما يفعله المسيحيون من تسويغ احتلال الشعوب وسرقتها وقتلها باسم الرب! ولا يختلف الحال عن الفرس والهنود والصينيون والعرب القدماء في تقديس الفصل العنصري بينهم وبين الأجناس الأخرى.[9]

ثالثًا: ارتباط المساواة بالعدل، شرطٌ لفهم المساواة بشكل حقوقي لا يترتب عليه تناقضٌ أو ظلم؛ لأن المساواة المطلقة قد تكون ظلمًا عندما نُسوِّي بين المختلفات، ونفرّق بين المتماثلات، فالرجل ليس كالمرأة في القوة والبنية وتحمل المشاق، والكبير ليس كالصغير، والمسلم ليس كغير المسلم في الكثير من تطبيقات الأحكام الدينية، كما أن هناك ظروفًا استثنائيةً تمرُّ بالإنسان في بعض حالاته، لا يمكن تسويتُه فيها بمن حالته طبيعية، كحال الإنسان في السفر أو الحرب أو المرض أو الخوف، وهذا هو الجاري ضمن مقاصد الشريعة الإسلامية.

وقد أبدع الإمامُ ابن عاشور في تأصيلِ المساواة بين البشر وفق النظر المقاصدي، مقررًا -رحمه الله- أن المساواة في التشريع يُنظر للأمة إلى تساويهم في الخلقة وفروعها، ممَّا لا يؤثر التمايز فيه أثرًا في صلاح العالَم.

فالناس سواءٌ في البشرية “كلكم من آدم”، وفي حقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة، ولا أثَرَ لما بينهم من الاختلاف بالألوان والصور والسلائل والمواطن.

فلذلك نشأ عن هذا الاستواء فيما ذكر تساويهم في أصول التشريع، مثل حق الوجود المُعَبَّر عنه بحفظ النفس وحفظ النسب، وفي وسائل الحياة المعبَّر عنها بحفظ المال. ومن أول ذلك حقوق القرار في الأرض التي اكتسبوها أو نشأوا فيها؛ مثل مواطن القبائل، وفي أسباب البقاء على حالة نافعة وهو المعبَّر عنه بحفظ العقل وحفظ العرض.

وأعظم ذلك حق الانتساب إلى الجامعة الدينية المعبَّر عنه بحفظ الدين. ووسائل كل ذلك ومكمَّلاته لاحقةٌ بالمُتوسَّل إليه وبالمكمَّل. فظهر تساوي الناس في نظر التشريع في الضروري والحاجي، ولا نجد بينهم فروقًا في الضروري، وقلَّما نجد فروقًا في الحاجي، مثل سلب العبد أهليةَ التصرف في المال إلَّا بإذن سيده، وإنما تنشأ الفروق عند وجود موانع معتبرة تمنع اعتبار المساواة.

فالمساواة في التشريع أصلٌ لا يتخلّف إلَّا عند وجود مانع. فلا يحتاج إثباتُ التساوي في التشريع بين الأفراد أو الأصناف إلى البحث عن موجب المساواة؛ بل يكتفي بعدم وجود مانع من اعتبار التساوي.

ولذلك صرّح علماء الأمة بأن خطابَ القرآن بصيغةِ التذكير يشمل النساء. ولا تحتاج العباراتُ من الكتاب والسنة في إجراء أحكام الشريعة على النساء إلى تغيير الخطاب من تذكير إلى تأنيث ولا عكسَ ذلك.

وفي «صحيح البخاري» عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال:“أتبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا ولا تزنوا … “[10]. وقرأ آية النساء، وإن الأصل في الأفعال الصادرة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنها مشروعة للأمة حتى يدلَّ دليل على الخصوصية.

وموانع المساواة: هي العوارض التي إذا تحقّقت تقتضي إلغاءَ حكم المساواة لظهور مصلحة راجحة في ذلك الإلغاء، أو لظهور مفسدة عند إجراء المساواة.

وأعني بالعوارض اعتباراتٍ تلوح في أحوال معروضات المساواة، فيصير إجراءُ المساواة في أحوال تلك المعروضات غيرَ عائد بالصلاح في بابه، ويكون الصلاح في ضدّ ذلك، أو يكون إجراء المساواة عندها – أي عند تلك العوارض – فسادًا راجحًا أو خالصًا.

والمرجِع المقاصدي في معرفة تقدير ما تمنع هذه الموانعُ التساويَ فيه:

– هو إما لمعنى اقتضى المنع.

– وإما قواعد التقنين.

فمعرفة مساواة العالِم بعلم مّا لمن ليس بعالِم به في آثار ذلك العلم ترجع إلى المعنى. وكذلك معرفةُ عدم مساواة غير المسلمين من أهل ذمّة الإسلام للمسلمين في بعض الحقوق، مثل ولاية المناصب الدينية، ترجع إلى المعنى؛ لأن صلاح الاعتقاد من أصول الإسلام. فيكون اختلالُ اعتقاد غير المسلم موجبًا عدم ملاءمته في نظر الشريعة عن الكفاءة لولاية أمور المسلمين.

وأما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات؛ مثل منع مساواة غير المسلم لقريبه المسلم في إرث قريبهما المسلم باتفاق العلماء، ومثل منع مساواة غير المسلم للمسلم في القصاص له من المسلم، فترجع إلى قواعد التقنين من فروع الشريعة. وهي من نظر الفقيه في الدين.[11]

رابعًا: وبناء على ما سبق، ولأهمية ضبط مفهوم المساواة، فإن معناه المعتبر الذي لابد من تطبيق مفهوم المساواة وفق مراده؛ تحقيقًا للعدل وإثباتًا للحقوق؛ يرجع للأمور الأربعة التالية:

1- المساواة في أصل الإنسان من حيث الخلق والنشأة، فلا فرق بين إنسان وآخر بسبب لونه أو شكله أو مكان نشأته، كما في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وأيضًا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في حجة الوداع: “يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى”. [12]

2- المساواة أمام القانون:

يقصد بها أن جميع أفراد المجتمع مهما كانت تنوعاتهم، فإنهم أمام القانون العام مجموعة واحدة بغير تمييزٍ لأحد منهم على الآخر؛ لأن القانون في أساس تشريعه لابد فيه من صفة الشمول والعموم على الجميع، وإلا فقد أهميته وتأثيره، وقد جاء تأكيد ذلك في نصوص كثيرة، منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178]، وقال أيضًا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وقال كذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء أسامة بن زيد رضي الله عنهما؛ يشفع في الحد الذي ثبت على المرأة المخزومية من قريش عندما سرقت، وهي من أشرف البيوت منزلةً، فأهمّ أهلها أن تُقطع يدها، فلجأوا إلى أسامة ليسقط الحد عنها، فلما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الطلب، غضب على أسامة وقام يخطب في الناس قائلًا: “إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها”[13].

3- المساواة أمام القضاء: ويقصد بها عدم اختلاف جهة الفصل في النزاع باختلاف الوضع الاجتماعي للمتقاضين، ولا يمنع ذلك تنوع جهات القضاء تبعًا لتخصصاتها، ولكن يجب على القاضي المساواة بين الخصوم في كلامه ومجلسه وحكمه، ودليل ذلك؛ الخطاب العظيم الذي جرى مجرى الوثيقة القضائية، وهي رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري، إذ يقول يوصيه: “ساو بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”[14].

4- المساواة في الحقوق المدنية العامة: ويقصد بها تلك الحقوق التي يشترك الأفراد بمقتضاها- بطريق مباشر أو غير مباشر- في شئون الحكم والإدارة كحق العمل والتعليم والحصول على العلاج والتأمين التقاعدي، والتوظيف، ويتحقق ذلك بوحدة المعاملة لجميع المواطنين الذين تتوافر فيهم الشروط المطلوبة لممارسة كل حق من هذه الحقوق، فيتساوى جميع المواطنين في تولي الوظائف العامة، وأن يعاملوا نفس المعاملة من حيث المؤهلات والشروط المطلوبة لكل وظيفة، ومن حيث المزايا والحقوق والواجبات، والمكافآت المحددة لها.

كل هذه الحالات السابقة يجب فيها تحقيق المساواة بين أصحاب تلك الحقوق؛ لأنها مقتضى العدل بينهم، ولكن عندما يصبح هناك عارض في أحد الأشخاص كمرض أو عجز أو مصيبة تمنعه من التساوي بغيره، فإن العدل هنا هو الأولى بالعمل من المساواة التي قد يتضرر منها صاحب المرض أو العجز وغيرها من أسباب، وعلى هذا لأساس كان اختلاف أحكام المرأة عن الرجل وأحكام غير المسلم عن المسلم، والمرجع في هذا الاختلاف أنه تحقيقٌ للعدل، لما في المساواة بينهم من مشقة على المرأة أو ظلم لغير المسلم.

الهوامش:ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، ص253.

[2] مداواة النفوس، ص82.

[3]ا لتعريفات، للجرجاني، ص153.

[4] انظر: تفسير ابن جرير الطبري، تحقيق أحمد شاكر، مؤسسة الرسالة، طبعة 2000م، 22/200.

[5] المرجع السابق، 9/302.

[6] بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزية، طبعة دار الكتاب العربي، 3/153.

[7] مجموع الفتاوى، 28/146.

[8] انظر: كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم، تأليف: عدد من المختصين بإشراف الشيخ د. صالح بن عبد الله بن حميد، نشر: دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الرابعة، 7/2796.

[9] انظر: كتاب حقوق الإنسان، د. وردة العياشي، ص 42-44، كتاب حقوق الإنسان في الإسلام، د. الظهار، ص132-149.

[10] رواه البخاري في صحيحه، رقم 6787.

[11] انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر ابن عاشور، ص 95-100.

[12] رواه أحمد في مسنده، رقمه: 22391 (47/478)، وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية.

[13] رواه مسلم في صحيحه، رقم: 1688.

[14] قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الوثيقة العمرية: “ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبنوا عليها، واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه”. منهاج السنة 6/37. انظر للاستزادة: درر الحكام في شرح مجلة الأحكام، تأليف: علي حيدر خواجة أمين أفندي، تعريب: فهمي الحسيني، نشر: دار الجيل، الطبعة الأولى، 1991م، 4/595.

(المصدر: مركز نهوض للدراسات والنشر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى