علماء من عصرنا

العالم البنغلاديشي البارز المفتي عبد الرحمن – رحمه الله–

العالم البنغلاديشي البارز المفتي عبد الرحمن – رحمه الله–

بقلم أ. جعفر عالم أنوار القاسمي (*)

قبيل صلاة العشاء من الليلة المتخللة بين الثلاثاء والأربعاء: 27-28/محرم الحرام 1437هـ، الموافق 10/نوفمبر 2015م رَنَّ جَوَّالي من تلميذي المفتي محمود حسن – خريج مركز الفكر الإسلامي «بشوندرا»، «داكا» – بنعي وفاة شيخ الإسلام عبد الرحمن – رئيس مؤسس مركز الفكر الإسلامي بشوندرا، داكا. فكان النعي كالبرق الخاطف على كاتب هذه السطور، وعلى محبيه ومعتقديه وتلامذته والمستفيدين من منهله الفياض، والجماهير من الشعب البنجلاديشي على حد سواء. رحمه الله رحمة واسعة. فإنا لله وإناإليه راجعون.

     كما تلقت الأوساط العلمية في «الهند» و«باكستان» والبلاد العربية نعي وفاته – رحمه الله – بحزن عميق وأسف بالغ نظرًا إلى خدماته الجليلة التي قدمها للإسلام والمسلمين والعلماء والطلاب والمدارس على جميع الأصعدة.

     توفي – رحمه الله – بعد معاناة أمراض مضنية طويلة في مستشفى «أبولو» العالمي بداكا، في السادس والتسعين من عمره، وقد صُلِّيَ عليه في رحاب «بشوندرا»، «داكا»، المكتظة بالمصلين الذين تهافتوا عليه لأداء صلاة جنازته. ووُرِّيَ جثمانه في مقبرة «بشوندرا»، بـ«داكا».

     كان الفقيد – رحمه الله – قد أسس أكثر من عشرين جامعة جديدة، إلى جانب تطوير وإشراف نحو ألف من المدارس الدينية والمعاهد التعليمية في أنحاء «بنجلاديش»، وكان معلمًا مجربًا مُحَنَّكًا، ومحدثًا نبيهًا، ومفسرًا بليغًا، صاحب أسلوب رائع في التعليم والتدريس، كما كان فقيهًا عديم المثال بصيرًا بكتب الفقه والفتاوى، صاحب آراء سديدة في كثير من القضايا والمسائل الفقهية. وله مقالات فقهية قيمة قدمها في ندوات فقهية عُقِدَت في كل من «الهند» و«باكستان».

     وكان – رحمه الله – محدثًا نابغًا، يوجز الكلام على الأحاديث في دروسه بشكل تام. وله أسانيد عالية في الحديث، قلما يوجد مثله في شبه القارة الهندية، وقد استجاز منه العلماء والمحدثون في كل ناهية من «بنجلاديش»، و«الهند» و«باكستان»، إضافة إلى علماء «المملكة العربية السعودية» و«الإمارات العربية المتحدة» و«قطر» و«البحرين» وما إلى ذلك. إلا أن خبرته الفقهية الاجتهادية كانت أبرز وألمع من إلمامه بالحديث النبوي الشريف. وكان يمنح الطالبين إجازته الحديثية كل عام في ليلة البراءة بالمصافحة والضيافة بالأسودين: التمر والماء، بعد تدريس الأحاديث المسلسلة والأحاديث المخصوصة. وقد نال منه كاتب هذه السطور إجازة الحديث الشريف في أول تحديثه بالمسلسلات.

     كان – رحمه الله – مربيًا يربي العلماء والطلاب والعامة، ويزكيهم من الأمراض الباطنة من الحسد والبغض والحقد والحرص والعجب ويغرس في قلوبهم حب الأخلاق الحميدة السامية من الشكر والصبر والأمانة والقناعة والإخلاص. فكان مصلحًا دينيًا تربويًا، بايع على يده عدد ضخم من العلماء والعامة في «بنجلا ديش»، و«الهند» و«باكستان» و«سري لانكا» و«البلاد العربية» و«أوروبا». ولأجل هذه التزكية الروحية أنشأ في جامعة «بشوندرا»، زاويةً باسم «خانقاه إمدادية أشرفية أبرارية» يقصدهامرضى الروح، ويقضون فيها شهرًا وشهرين وسنة لأجل تربيتهم الروحية. ويتجه إليه جم غفير من العلماء والطلاب والعامة لأجل إصلاح نفوسهم في كل شهر رمضان، فيلقنهم دروس الإيمان والخصال الإسلامية السنية إلى نصف رمضان فإذا انتصف رمضان سافر إلى «مكة المكرمة» و«المدينة المنورة» للاعتكاف بجوار بيت الله أو المسجد النبوي الشريف – زادهما الله شرفًا وعظمةً –.

     ولنعم ما قاله الذين رأوه وأبصروه عن كثب: «إن شيخنا يتميز بلونين، ويتسم بسمتين: المَدَنِيَّةِ والتَّهَانْوِيَّة. ففي التعليم والتحديث مدني، وفي التربية والتزكية تهانوي». فهو مجمع البحرين، وملتقى النهرين. ينتهل من المدنية إذا حدَّث، ويستقى من التهانوية إذا أصلح فكان قد نال الخلافة والإجازة من شيخه ومربيه محي السنة الشاه مولانا أبرارالحق الهردوئي – رحمه الله – .

     كان – رحمه الله – كثير الحب للعلماء والطلاب، كثير الضيافة، واسع الصدر لهم. ومن المُشَاهَدِ أنه ليس هناك عالم زاره إلا وقد حَظِيَ بضيافته.

     وكان صمودًا مستقيمًا على آرائه السديدة، مستغنيًا عن المال والأثرياء، وكان لايبالي ولا يكترث بالمال أصلًا، عاملًا بقول الرسول المصطفى – صلى الله عليه وسلم- لبلال: «أنفق يابلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالًا».

     كما كان مولعًا بالحج والزيارة والعمرة. كلما جاء رمضان سافر لأداء العمرة، وكلما بدأت أشهر الحج سافر إلى «مكة» لأداء مناسك الحج، كأنه لا يقر له قرار، ولا يطمئن لـه بال إلا بـالحج والزيارة وأداء العمرة. ولقد قال مرة: أتمنى وأدعو الله أن يوفقني لأداء ستين حجًا. وهو العدد الْـمُوَفَّق له الإمام أبو حنيفة – رحمه الله – وأضاف قائلا: لقد وفقني الله – جل وعلا- لأداء نحو أربعين حجة، فلو ضممت إليها العمرات بلغ العدد ستين بل يربو على ستين.

     لقد أسس مؤسسة باسم «فقيه الملة فاؤنديشن» لإصدار الكتب الدينية في كل من اللغات: البنغالية والأردية، والعربية. و أصدرت المؤسسة لحد الآن زهاء ثلاثين كتابًا أرديًا وعربيًا وبنغاليًا.

     وأسس دارالإفتاء المركزية: التي تصدر الفتاوى في القضايا المهمة للأمة، وتعقد ندوات فقهية للبحث في قضايا فقهية معاصرة. وتُعَدُّ هذه المؤسسة أكبر دار إفتاء في البلاد.

     وقد عُنِيَ – رحمه الله- بالدعوة والإرشاد للعامة، فقام بإنشاء منظمة مؤتمرات إسلامية. تعقد هذه المنظمة مؤتمرات إسلامية في أكثر مديريات دولة «بنجلاديش». يلقي فيها كبار الخطباء من البلد وخارجه أمثال: العلامة مولانا عبد المجيد نديم الموقر، وفضيلة الشيخ مولانا أبوالقاسم النعماني – مدير دارالعلوم/ديوبند – حفظهما الله ورعاهما – ومن إليهما كلمات نافعة قيمة.

     كما كان يرأس إلى آخر لمحة من حياته منظمة «تنظيم المدارس الدينية القومية» ومكتبها الرئيسي الجامعة الإسلامية قاسم العلوم، بغورا، وكان يشرف على مدارس المنطقة الشمالية لدولة «بنجلاديش»، وأوضاعها التعليمية والتربوية. وقد لقيت هذه المدارس تحت إشرافه – رحمه الله – رقيًا وازدهارًا منقطع النظير في التعليم والتربية والامتحانات التي تجريها هذه المنظمة في نهاية كل سنة دراسية.

     ونبتهل إلى الله تعالى أن يلهم ذويه الصبر والسلوان. ونعتقد أن وفاة الفقيه – رحمه الله – خلّف فراغًا كبيرًا في الأوساط الدينية العالمية، لا يُمْلَأُ إلا بعد أمد بعيد. والله على كل شيء قدير.

     خلف – رحمه الله – نجلين ذكرين، وأنثى، وآلافا من المدارس الدينية والمعاهد التعليمية، والمساجد الجميلة الواسعة. عسى أن تكون صدقة جارية له إلى يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.

     رحمه الله، وجعل جنة الفردوس مثواه، وألهم أهله وذويه، ومحبيه، ومعتقديه وأعضاء أسرته، وأعضاء مركز الفكر الإسلامي، «بشوندرا»، «داكا»، الصبر والسلوان. اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها.

* * *

(*)          جامعة الباقيات الصالحات، بنغلاديش.

(المصدر: مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى