كتب وبحوث

قراءة في كتاب | الدولة والكنيسة: قصة عزل الأقباط عن الجماعة الوطنية

قراءة في كتاب | الدولة والكنيسة: قصة عزل الأقباط عن الجماعة الوطنية

قراءة معتز ممدوح

بعد شد وجذب دام لعقود بين الدولة والكنيسة المصرية حول العديد من المسائل الشائكة، شهدت العلاقة بين الطرفين في المقابل ازدهارًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، ولاسيما منذ منتصف عام 2013 بعد إبعاد جماعة الإخوان المسلمين عن الحياة السياسية في مصر.

خلال فترة التوتر السابقة برز تياران رئيسان في الكنيسة المصرية، هما تيار البابا الراحل شنودة الثالث، وتيار الأب متى المسكين، الذي اختلف مع الأول في قضية تسييس الكنيسة المصرية على النحو الذي جرى خلال فترة بابويته، وانعكس عموديًا في علاقة اتجهت من البعد عن الدولة إلى القرب السياسي منها في الوقت الراهن.

للمستشار طارق البشري نائب رئيس مجلس الدولة الأسبق والأب متى المسكين، أطروحتان هامتان في هذا السياق في كتابيهما «الدولة والكنيسة» و«الكنيسة والدولة»، تمدنا قراءتهما بتصور تفصيلي عن تلك القضية وبعض خلفياتها التاريخية.


الإدارة الكنسية بين الجماعة الوطنية ونظام الملة

في الفصل الأول من كتابه «الدولة والكنيسة»، يستهل المستشار طارق البشري تناوله للعلاقة الراهنة بين الدولة والكنيسة المصرية بطرحه إشكالية خضوع الكنيسة المصرية في عهد البابا الراحل شنودة الثالث للقوانين وأحكام القضاء المصري.

يقدم البشري في هذا الإطار عددًا من النماذج الأمثلة، ومنها مسألة تعامل الكنيسة مع أحكام التطليق التي أصدرتها محاكم الأحوال الشخصية المصرية قبل عام 2008 وفقًا لأحكام لائحة الأقباط الأرثوذكس التي اعتمدها المجلس الملي للأقباط المصريين بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول عام 1938، التي جاهر البابا شنودة برفضه بعض أحكامها.

بحسب البشري كانت المسألة المتعلقة بأحكام الطلاق ليست بذات شأن في حجمها، إنما الشأن كله في أنها عبرت عن موقف استقلت فيه الكنيسة وهيئاتها في تلك الفترة عن الشرعية التي تقوم عليها أجهزة الدولة المصرية، بصورة اعتبرها البشري «أشد غلوًا» بحسب تعبيره، مما كان يصدر عمن وصفهم بغلاة المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر.

تناول البشري أيضًا أحد المواقف التي ذكرتها الصحافة المصرية، وهي عن أسقف شبرا الخيمة الأنبا مرقس الذي نقل عنه قوله «إنه في الأبرشية في شبرا لا يستطيع الشاب أن يرتبط أو يتزوج دون أن يستخرج بطاقة انتخابية»، ونقل كذلك قول الأنبا بسنتي أسقف حلوان والمعصرة قوله «إنه في أبراشيته يطالب من يريد الزواج بالحصول على بطاقة انتخابية ويأخذ عليه تعهدًا باستخراجها سريعًا» (مجلة آخر ساعة عدد 28\1\2005 ص 12). وهي مواقف رأى البشري أن أهدافها السياسية تبدو واضحة للغاية.

كما تناول البشري كذلك ما حدث لوفاء قسطنطين بعد أن أشهرت إسلامها في أواخر عام 2004، وما جرى أيضًا بحسب ما نشرته صحيفة المصري اليوم في 20\3\2008، ص6، في حادث مصرع المواطنة القبطية أغابي يوحنا، التي قدم أهلها شكوى بأنها ماتت مقتولة داخل إحدى الأديرة، وهو الحادث الذي تدخل فيه البابا شنودة وأغلق فيه التحقيق نهائيًا، وهو ما اعتبره البشري انتقالًا للسلطة داخل الأديرة من النيابة العامة إلى سلطة بطريرك الكنيسة.

على خلفية تلك المواقف وغيرها اعتبر البشري أن هذا الوضع يعود بنا إلى نظام الملة الذي عرفه المجتمع الإسلامي قديمًا بحسبان أن الطائفة هي من يدير شئون رعاياها بنفسها بوساطة من تراهم من رجالها حسب التنظيم الداخلي الذي تفرضه عليهم التقاليد والأعراف الخاصة بهم، وهو الأمر الذي يخالف المفهوم الحديث للمواطنة الذي يتبناه وينادي به الكثير من الأقباط أنفسهم.


الطائفية وعقدة الاضطهاد

في كتابه «الكنيسة والدولة»، يقول الأب متى المسكين:

إن في شعور الإنسان بالاضطهاد كحالة واقعة مستديمة خطرًا على بناء النفس البشرية وعلى مستقبل كفاءتها وإنتاجها، هذا بالنسبة للإنسان كمواطن، وأما بالنسبة للإنسان كمسيحي فإن الإحساس بالاضطهاد مع عدم القدرة على فهمه وقبوله، خطر على كيان الإيمان كله.

ثم يستشهد متى المسكين بالعديد من الاقتباسات من الكتاب المقدس عن طبيعة تعامل الإيمان المسيحي مع الاضطهاد الديني إن وجد، والتي تختلف جذريًا عن النهج السياسي والطائفي الذي تبنته الإدارة الكنسية في عهد الراحل البابا شنودة الثالث.

كما يعرج الأب متى مسكين على التاريخ الحديث، ويعزو إرساء سياسات التفرقة الطائفية وروح الفرقة والعداوة الدينية للاحتلال الأجنبي للبلاد، وهو ما يتقاطع مع التناول التاريخي الذي يقدمه طارق البشري في كتابه «الدولة والكنيسة» الذي يفصل فيه الأخير ما جرى في مطلع القرن الماضي، من صعود للخطاب الطائفي الحاد اللهجة في الصحافة القبطية كصحيفتي «مصر» و«الوطن».

وفي إطار ديني وإيماني بحت يحاول الأب متى المسكين في مختلف ثنايا كتابه الإجابة على أسئلة: الاضطهاد والطائفية والتعصب، في نهج شديد التسامح يتسق مع طبيعة أخلاق الإيمان المسيحي، بعيد كل البعد عن النهج الذي تبنته شخصيات وجهات عدة في أوساط الأقباط في المهجر ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية.


الكنيسة والانعزال القبطي

في فصل آخر من كتابه «الدولة والكنيسة» يتناول المستشار طارق البشري عددًا من النماذج والمواقف التي تجلى فيها تبني الكنيسة المصرية خطًا من العزلة عن باقي المجتمع المصري. وأشار في هذا الإطار إلى كتاب نشر في عام 1995 بعنوان «وطنية الكنيسة القبطية وتاريخها»، أعده الراهب القمص أنطونيوس الأنطوني وعرض فيه لتاريخ القبط منذ الفتح الإسلامي العربي لمصر.

حيث يذكر أنطونيوس في مقدمة الكتاب أنه «يوضح للأقباط سلالة المصريين القدماء كيف أصبحوا أقلية في بلدهم، ولماذا تدهورت قوميتهم وانقرضت لغتهم»، وأن «الأهواء الدينية في الشرق لم تفقد من حدتها بين المسلمين والأقباط، وإن كانت فاترة في الظاهر فإن القلق المكبوت ما زال جاثمًا».

في كتابه، يصف أنطونيوس صلاح الدين الأيوبي الذي دافع عن المشرق العربي ضد العدوان الأوروبي الفرنجي، بأنه اضطهد النصارى وشجعت أفعاله «رعاع المسلمين» بحسب تعبيره على الاعتداء على عدة كنائس، بينما يقول عن نابليون بونابرت وحملته العسكرية على مصر بأنه: «أول مرة منذ الفتح العربي تحكم مصر دولة مسيحية».

يعلّق البشري هنا على ما جاء في هذا الكتاب، بأنه ليس مهمًا أن كتابًا يصدر عن رأي يعتقد فيه صاحبه، ولكن وجه الدلالة أنه صادر من راهب بمرتبة قمصى، وأن صاحبه يهديه إلى «غبطة الأنبا شنودة الثالث».

تعرض البشري في كتابه أيضًا لمسرحية «كنت أعمى والآن أبصر» التي تم عرضها في عام 2003 في كنيسة محرم بك بالإسكندرية، والتي أثار عرضها المسجل جدلًا كبيرًا بسبب احتوائها على ما اعتبره الكثيرون إساءات مباشرة إلى الدين الإسلامي، والكثير مما يوغر الصدور بين الأقباط والمسلمين.

يقول البشري إن تسجيل المسرحية تتصدره عبارة «نال هذا العمل بركة صوت الأنبا شنودة الثالث» ثم عبارة «تم هذا العمل تحت رعاية كل من أبينا أوغسطينوس فؤاد وأبينا أنطونيوس فهمي» ولذلك اعتبره البشري عملًا صادرًا مباشرًة عن الإدارة الكنسية أو على الأقل بموافقتها وتحت إشرافها.

هذه الممارسات وغيرها اعتبرها البشري مظاهر لشرخ عميق في بنية المجتمع المصري، كان سببه تلك السياسات الانعزالية التي تبنتها الإدارة الكنيسة في عهد البابا الأسبق.


المسألة القبطية في المشروع الوطني المصري في عام 1911

في الفصل الأخير من كتابه، يعبر المستشار البشري عن إعجابه وانبهاره الشديد من الذكاء الشديد وسعة الحيلة التي كتبت بها عدد من الوثائق السياسية في التاريخ المصري الحديث، وإن لم يكن متفقًا تمامًا مع جميع ما تضمنته من وجهات نظر.

من هذه الوثائق على سبيل المثال، ما عرف باسم «برنامج الحزب الوطني القديم» الذي تلقاه ألفريد بلنت من عدد من الزعماء المصريين، منهم محمد عبده، ومحمود سامي البارودي وأحمد عرابي.

ما لفت نظر البشري في هذا البرنامج هو «الصيغة السياسية بالغة الدقة والتوازن» التي صيغ بها على حد تعبيره، و«الإدراك الدقيق» متعدد الجوانب لمجمل القوى السياسية الخارجية والداخلية التي تحيط  وقتها بما عرف يمكن تسميته وقتها بـ«المسألة المصرية» والأهداف الواقعية المتوازنة التي رسمها البرنامج بمراعاة التوازنات القائمة.

التوازنات التي يشير إليها البشري يتمثل أولها في إقرار معدي تلك الوثيقة بصلة مصر بالدولة العثمانية، مع المحافظة على امتيازات مصر الوطنية ومقاومة أي محاولة لجعل مصر ولاية خاضعة للأستانة، والتوازن بين السلطات الممنوحة للخديو مع العزم على عدم العودة للاستبداد والإلحاح في تنفيذ حكم الشورى وإطلاق الحريات.

الوثيقة الثانية، التي يتناولها البشري، والتي تتصل مباشرة بموضوعنا هنا، هي «مجموعة أعمال المؤتمر المصري الأول»، المنعقد بهليوبوليس من يوم السبت 30 ربيع الثاني عام 1329 هـ / 29 أبريل 1911 م إلى يوم الأربعاء 4 جمادي الأولى سنة 1329 هـ / 4 مايو 1911 م.

والذي جاء انعقاده ردًا على المؤتمر القبطي الذي انعقد في أسيوط في الأيام من 6 إلى 8 مارس 1911، والذي تم خلاله إعلان عدد من المطالب وهي عن:

1. المساواة في الوظائف

2. تمثيل الأقلية في الهيئات النيابية

3. ضريبة الخمسة في المائة، وهي ضريبة كانت تحصل عليها هيئات الحكم المحلي  بنسبة 5% من مجموع الضرائب، كانت تصرف على المدارس العامة بما فيها الكتاتيب التي لا يدخلها الأقباط

4. أجازة يوم الأحد

5. محاكم الأحوال الشخصية القبطية

6. التعليم الديني والأولي بين الأقباط

وقد سلط البشري الضوء بوجه خاص على التقرير الذي أعدته اللجنة التحضيرية للمؤتمر، والذي يقول البشري إنه يمكننا من خلال قراءته أن نلاحظ لغة أحمد لطفي السيد باشا وأسلوبه، وقد جاء في هذا الرد ما يلي:

1. انتقاد مسعى بعض الأقباط في إرسال شكواهم ومطالبهم للإدارة الإنجليزية في مصر، وأن المصريين أولى بإنصاف المصريين.

2. فيما يتعلق بالوظائف العامة ذكر التقرير أن الأقباط منهم المستشارون ووكلاء الوزارات ووزراء ورؤساء وزارات، وذكر التقرير أن نسبة الأقباط من سكان مصر هي 6.43% ونسبة ثروتهم الاقتصادية هي 10% من ثروة البلاد، وهم في الوظائف نسبتهم في التعليم 6% وفي وزارة الداخلية 59% بنسبة مرتبات تصل 40.28%، ونسبتهم في وزارة الحقانية 15% ونسبتهم في وظائف وزارة المالية 46 % غير الصيارفة، حيث عدد هؤلاء 187 منهم خمسون مسلمًا فقط، كما ذكر التقرير بيانات مفصلة حول ضريبة الـ5% والقيمة الإجمالية التي يساهم بها الأقباط فيها مقارنة بنسبة مساهمة المسلمين فيها، وأعداد تفصيلية لعدد الطلاب المسلمين والأقباط في المراحل الدراسية المختلفة.

(المصدر: موقع إضاءات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى