تقارير وإضاءات

د. أنس التكريتي: أصبحنا قادرين على التعايش السلمي والتواصل الحضاري مع الغرب

إعداد هاني صلاح

المجتمع المسلم هنا بات قادراً على تشكيل جسر بين دوائر صناعة القرار في بريطانيا والعالم الإسلامي

أبرز 3 تحديات رئيسة يواجهها مسلمو بريطانيا: الفكر والخطاب والمواطنة

الأولوية الكبرى للمؤسسات الإسلامية هي إيصال الإسلام الناصع إلى المجتمع البريطاني

مسلمو بريطانيا مهتمون بتأسيس المؤسسات لرفع مستوى كفاءتهم في إبلاغ رسالتهم

«المجتمع المسلم البريطاني بات قادراً على أن يشكل جسراً بين دوائر صناعة القرار والتأثير في بريطانيا وبين العالم الإسلامي؛ للوصول لحالة التعايش السلمي والتواصل الحضاري ولتجنب التصارع والتحارب».. بهذا التوصيف، أكد د. أنس التكريتي، الرئيس الجديد للرابطة الإسلامية في بريطانيا، في حوار مع «المجتمع»، على تطور دور وأداء مسلمي بريطانيا لمستوى يمكنه من ممارسة دور إيجابي فعَّال في التواصل بين بريطانيا والعالم الإسلامي؛ يدفع للسلام، ويجنب الطرفين عوامل التحارب والصدام.

دعا د. أنس التكريتي مسلمي بريطانيا إلى بناء المؤسسات الفكرية والبحثية ومراكز الدراسات والإحصاءات واستطلاعات الرأي، والتفكير في كيفية استثمار القطاع الخيري وموارده لتأسيس قدرات وطاقات مسلمة بريطانية في مختلف المجالات، كما دعا إلى ضرورة تأسيس شبكة للمؤسسات الإسلامية الغربية للبحث في التحديات المشتركة وتبادل الخبرات والمعارف والاستفادة مما عندها في أماكن أخرى.

نود نبذة تعريفية عنكم.

– أنس أسامة التكريتي، من مواليد العراق عام 1968م، أقيم في بريطانيا منذ الطفولة، فقد ترعرعت في المجتمع البريطاني وتخرجت في مدارسه ومعاهده وأتقنت لغته ربما أكثر من إتقاني للغة العربية.

حصلت على شهادة البكالوريوس وكذلك الماجستير في تخصص اللغويات والترجمة الفورية، أما الدكتوراه فكانت في مجال العلوم السياسية من جامعة وستمنستر بلندن.

متى بدأتم نشاطكم المجتمعي؟ وكيف تطور لاحقاً حتى اليوم؟

– كنت ناشطاً منذ أن كنت في مرحلة الكلية، واعتنيت بقضية المسلمين في بريطانيا والغرب بالعموم، ومشاركتهم الفاعلة في مجتمعاتهم وحيازتهم على عوامل التأثير في الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري، وقدرتهم على إيصال رسالتهم وقيمهم ومفاهيمهم الدينية والفكرية ومنظومة القيم التي يؤمنون بها إلى مجتمعهم الكبير الذي يعيشون فيه ويتفاعلون معه.

كنت أحد مؤسسي الرابطة الإسلامية في بريطانيا عام 1997م، وبعيد أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة كنت أحد قادة حركة مناهضة الحرب في بريطانيا وعبر العالم، التي شهدت عشرات المظاهرات المنددة بالحربين على أفغانستان والعراق عام 2003م، وفي 15 فبراير 2003م كنت أحد قادة المظاهرة التاريخية في لندن التي شارك فيها مليونا شخص للتنديد بالاستعدادات للحرب في العراق، فكانت ولا تزال المظاهرة الأكبر والأشهر في تاريخ بريطانيا.

في يناير عام 2005م أسست مؤسسة قرطبة لحوار الثقافات، وهي مؤسسة بارزة في الساحة البريطانية تهتم بشأن البحوث والدراسات في قضية العلاقة بين الغرب والعالم المسلم، التي تخدم غرض العلاقات العامة والتأثير السياسي والإعلامي والفكري لأجل خدمة السلم العالمي والتعايش والتفاهم بين مختلف الأطراف المتخاصمة والمتنازعة.

بدأت في عام 2006م التخصص في عمل التفاوض لأجل إطلاق سراح رهائن ومأسورين في مناطق الصراعات، وقد وفقت بفضل الله تعالى حتى هذا اليوم في التفاوض لإطلاق 19 شخصاً من مناطق صراعات مختلفة، وأحتل حالياً منصب رئيس الرابطة الإسلامية في بريطانيا.

من خلال تواجدكم الطويل في بريطانيا، كيف تصفونها للقارئ العربي؟

– تعتبر بريطانيا عاصمة السياسة الدولية ومقر صناعة الأزمات والصراعات والقضايا الدولية، وهي في الوقت ذاته تعتبر مقر تناول تلك القضايا والعمل على حلها بشكل من الأشكال، كما أن لندن تعتبر العاصمة المالية للعالم، ومن بريطانيا انطلقت السفن والبعثات الدينية والتجارية والتعليمية التي أرست دعائم الإمبراطورية البريطانية التي باتت في يوم من الأيام إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس.

وكان للاستعمار البريطاني للدول العربية والإسلامية المختلفة الدور الأكبر في نقل الثقافة والمعرفة واللغة وربما العادات والطباع البريطانية إلى تلك البلاد، وأثر في مكوناتها الفكرية ونظمها التعليمية ومنظوماتها السياسية، واستقبلت من بؤر الصراع والقضايا الجاهزة للتفجير ما استقبلت، وتعاني منها اليوم وستبقى تعاني منها ما شاء الله.

ثم أفَلَت تلك الحقبة وعانت بريطانيا من انحسار على مختلف الأصعدة، غير أنها بقيت مركز تأثير في الأحداث حول العالم.

كيف تتعامل بريطانيا مع الوافدين إليها من أبناء الشعوب الأخرى خاصة المسلمة منها؟

– تتميز بريطانيا بأنها على مدار قرون عدة كانت قبلة للمهاجرين والباحثين عن الحرية والعمل والكسب والمواطنة والترحال، فكان أن أعلن عمدة مدينة لندن السابق «كن ليفتغستن» أن لندن ذات الـ11 مليون نسمة (خلال أيام العمل)، فيها كل الأعراق والإثنيات والعناصر الموجودة على وجه الأرض، ويُنطق فيها بكل لغة ولهجة يعرفها الإنسان على مدار كوكب الأرض.

تتميز بريطانيا أيضاً بأنها كانت وجهة رئيسة لهجرات متعددة من العالم الإسلامي وعلى مدار القرن العشرين، منها هجرات اقتصادية وسياسية وتعليمية أكاديمية، فانتهى الأمر إلى أن وصل عدد المسلمين في بريطانيا، وفق إحصاءات غير رسمية، إلى 3.5 مليون من بين 70 مليون نسمة هم تعداد سكان بريطانيا (5 – 6%) أتوا من كل أنحاء العالم.

كما تتميز بريطانيا بمجتمعها المسلم الذي قام على تأسيس مؤسساته الرئيسة، فأصبحت الآن بمثابة الدعائم الركيزة للمجتمع البريطاني عموماً، وليس المسلم حصراً، ومنها ما يربو على 1600 مسجد وجامع، وأكثر من 3 آلاف مصلى ومئات من المدارس بمختلف أنواعها ومئات من الجمعيات الخيرية بكل أشكالها، وبات اللحم الحلال في كل مكان حتى في المطاعم غير المسلمة وفي المدارس العامة وفي خطوط الطيران والمباني الحكومية، وباتت صورة المرأة المسلمة المرتدية للحجاب الإسلامي منتشرة للغاية وجزءاً من شكل المجتمع البريطاني النمطي السائد.

ونجح المسلمون في احتلال مواقع في كافة مناحي الحياة؛ فأصبحوا أطباء ومهندسين وعمال نظافة وصيانة وخبراء تقنيات حديثة وسياسيين ومعلمين وفلاسفة وإعلاميين ورياضيين وفنانين بمختلف صورهم، وأصبح البرلمان البريطاني (بما فيه البرلمان الإسكتلندي) يضم حوالي 20 مسلماً، والحكومة فيها وزيران مسلمان، وسبق لمسلمة أن احتلت منصب رئيسة الحزب الحاكم (المحافظين)، وعمدة لندن الحالي مسلم، ويمكن أن نسرد المواقع العليا التي يحتلها المسلمون في كل المجالات الحيوية عبر صفحات كثيرة.

وقد ساهم في ذلك أن المجتمع البريطاني ومنظومته الاجتماعية والفكرية يتقبل فكرة “الآخر”، ويرى بعمومه مصلحة في كسب الخبرات والمهارات والقدرات من مختلف أنحاء العالم، بالطبع مع وجود ظواهر العنصرية والانعزال والتقوقع وكراهية الآخر، كظواهر بشرية طبيعية تتواجد في كل مجتمع وتمتد وتنحسر وفق الأحداث والمعطيات المختلفة عير فترات زمنية مختلفة.

ماذا عن الخريطة العرقية والاجتماعية والجغرافية لمسلمي بريطانيا؟

– المجتمع المسلم تعداده الرسمي وفق إحصائية عام 2011م بلغ 2.6 مليون نسمة، غير أن التعداد غير الرسمي وفق مؤشرات مختلفة تشير إلى أن عدد المسلمين يبلغ حالياً حوالي 3.5 مليون نسمة.

والمسلمون من أصل آسيوي (باكستاني أو هندي أو بنجالي أو سيريلانكي) يبلغون حوالي 1.5 مليون نسمة، والذين من أصول عربية حوالي 750 ألفاً، والذين أصولهم أفريقية حوالي 300 ألف، ثم الذين أصولهم بلقانية أو تركية أو أوروبية شرقية حوالي 150 ألفاً، والبريطانيون الأصليون بمثل ذلك ثم مختلف الأعراق الآسيوية الدنيا والشرقية واللاتينية والأوروبية الشمالية وغيرها.

وهؤلاء يمثلون كافة المذاهب والمشارب والأفكار والملل والجماعات المعروفة في العالم الإسلامي على اتساعه، ولديهم مؤسساتهم ومراكزهم التي تمثل ذلك الطيف الواسع والتنوع العريض.

وبينما هنالك أماكن تواجد مكثف للمسلمين مثل مناطق شرق لندن ومدن برمنجهام وبرادفورد ومانشستر وشفيلد وكاردف وغلاسكو وغيرها العديد، إلا أن الذي يميز المجتمع المسلم بالعموم هو قدرته على الاندماج في أي بيئة يسكنها، والتفاعل مع مختلف المكونات المجتمعية وتأسيس المحضن الذي يوفر له احتياجاته الدينية والمعيشية، ولا يضطر للتقوقع في مناطق للمسلمين حصراً، مما يعني أن المسلمين البريطانيين متواجدون في كل المدن والقرى والأنحاء على اتساع الجزر البريطانية.

ما أهم أولوياتكم في العمل الدعوي والمجتمعي؟

– الأولوية الأولى والأهم التي تشغل بال المؤسسات الإسلامية الكبرى هي إيصال الإسلام الناصع والخالي من الشوائب إلى المجتمع البريطاني من خلال أفضل الطرق والوسائل، ومن ذلك الإجابة عن الأسئلة الكبرى لا سيما نظرة الإسلام للآخر، وإسباغ المولى جل شأنه صفة التكريم على البشر جميعاً، ونظرة الشرع للتعايش مع الآخر والتفاعل معه والتعاون وإياه على البر والتقوى والإصلاح وإعمار الأرض، وتحسين الأوضاع المعيشية للجميع، وإعانة الضعيف، وتحقيق الأمن والسلم الأهلي، وبناء مقدرات المجتمع بكل أطيافه، وذلك من خلال ترسيخ مفاهيم الإنسانية الكبرى، ونشر قيم الفضيلة والأخلاق.

بعد ذلك، فالمسلمون مهتمون بتأسيس المؤسسات والمراكز والمنشآت التي ترفع من مستوى كفاءتهم في إبلاغ رسالتهم وتواصلهم مع المجتمع البريطاني العام، ويرفعون من مستوى كفاءتهم وقدرتهم على تطوير قابلياتهم وقدراتهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم كي يعبروا من خلالها عن حقيقتهم وحقيقة رسالتهم، ويقدمون الحلول للمعضلات التي يعاني منها المجتمع بشكل واضح وصريح، ويعززون من مكانتهم ودورهم في وسط الحوار الدائر بين الأطياف الدينية والفكرية والعلمية والثقافية المكونة للوعي الجمعي العام.

ضمن ذلك، فالمسلمون في بريطانيون مهتمون بواقع العالم الإسلامي الذي يشعرون بأنهم متأثرون به بشكل مباشر، لا سيما القضية الفلسطينية والثورات الشعبية والحروب الطاحنة والظلم والاستبداد والفساد والمجازر التي تقع بحق مختلف المجتمعات والأمم المسلمة عبر العالم، وهذه كلها تعبر عنها خطابات المسلمين البريطانيين الموجهة إلى حكومتهم في لندن وإلى شعبهم وبشكل واضح.

ما أبرز التحديات التي تواجهكم؟

– من التحديات الكبرى التي يواجهها المسلمون البريطانيون التحدي الفكري في مواجهة الإلحاد من جهة، والتطرف والإرهاب من جهة أخرى، وقضايا الهوية الإسلامية ضمن الواقع الغربي المعاصر.

ويبقى تحدي الفكر هو التحدي الأكبر، حيث صياغة منظومة الفكر الإسلامي لمجتمع أقلية ضمن الغرب المعاصر، والضوابط الشرعية والمفاهيم الفقهية ضمن الأطر المجتمعية الحاكمة ومنها السياسية والفكرية والثقافية.

ثم يأتي تحدي الخطاب وصياغة الأجدى والأفضل والأنفع مما يعبر عن واقع المسلمين وينقله بشكل رصين إلى المجتمع الواسع.

ثم يأتي تحدي المواطنة (ولا أقول الاندماج)، وتبعات ذلك ومترتباته على الفرد والأسرة والمجتمع المسلم، وما يلحقه من تحديات خاصة وعامة يشترك معه المجتمع البريطاني بعمومه، مثل الموقف من القضايا العالمية (السياسات الخارجية) والأفكار السائدة والفشل الحكومي في معالجة تحديات التعليم والخدمات الصحية والخدمات العامة والاقتصاد وغيرها.

ما أبرز الإنجازات التي تحققت حتى اليوم؟

– دور المسلمين في تشكيل المجتمع البريطاني المعاصر لا ينكره أحد، لا سيما أن الفرد المسلم بات مؤثراً وناجحاً ومعلماً من معالم المجتمع البريطاني العام، وإذا ما أخذنا مثلاً عدد المسلمين الرياضيين، الذين باتوا أبطالاً عالميين معروفين حول العالم، ثم قطاع العمل الخيري المسلم الذي وصفته الحكومة البريطانية نفسها عام 2016م بأنه القطاع الأكثر سخاء بين كافة القطاعات الخيرية البريطانية الأخرى، ثم قطاع المؤسسات التعليمية، ثم المؤسسات الدينية من مساجد ومراكز إسلامية ومؤسسات توعوية ودعوية وتنموية.

كل ذلك إذا ما أضفنا عليه دور المسلمين في حركة مناهضة الحرب وفي المشاركة السياسية وتقديم نواب وممثلين في البلديات المختلفة ورؤساء لجان ومفوضيات وغيرها، فإن الإنجازات التي حققها مسلمو بريطانيا تعد إنجازات رائعة بحق ولله الحمد والفضل والمنّة.

وأخيراً، فإن المجتمع المسلم البريطاني بات قادراً على أن يشكل جسراً بين دوائر صناعة القرار والتأثير في بريطانيا وبين العالم الإسلامي والمجتمعات المسلمة هناك، لنقل الأفكار والرؤى والمواقف وللوصول إلى حالة من التفاهم والتعارف والانسجام بين الطرفين، وصولاً إلى حالة من التعايش السلمي والتبادل والتواصل الحضاري.

لترسيخ التواجد الإسلامي بشكل إيجابي في بريطانيا، ما أبرز توصياتكم المستقبلية؟

– ينبغي لمسلمي بريطانيا وربما في عموم الغرب التركيز مستقبلاً على بناء المؤسسات الفكرية والبحثية ومراكز الدراسات والإحصاءات واستطلاعات الرأي، بالإضافة إلى المعاهد العلمية الشرعية الرصينة التي تخرج العلماء والدعاة والأئمة الناطقين بالإنجليزية التي تضاهي أفضل مثيلاتها في بريطانيا.

كما على المجتمع المسلم أن ينظر في كيفية استثمار القطاع الخيري وموارده الهائلة لأجل تأسيس قدرات وطاقات مسلمة بريطانية في مختلف المجالات، وكذلك إنشاء أوقاف تسهم في قدرة المجتمع المسلم على الاكتفاء بذاته دون الاعتماد على موارد تمويل خارجية.

كما أرى ضرورة تأسيس شبكة للمؤسسات الإسلامية الغربية (خارج العالم الإسلامية) تستطيع من خلالها التواصل لأجل البحث في التحديات المشتركة وتبادل الخبرات والمعارف والاستفادة مما عندها في أماكن أخرى بحاجة لتلك الخبرات.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى