كتابات

النهي وصيغه في أصول الفقه

النهي وصيغه في أصول الفقه

مقالات شرعية – د.سامح عبد السلام محمد

في اللغة: (نِهايةُ كلِّ شيءٍ: غايته، ومنه نَهَيته عنه، وذلك لأمرٍ يفعله، فإذا نَهَيته فانتهى، فتلك غايةُ ما كان وآخِره)[1]، وقد سُمِّي العقل بالنُّهى؛ لأنه ينهى صاحبَه عما يخالف الصواب.

وأما في الاصطلاح، فهو: (طلب الكفِّ عن فعل، على جهة الاستعلاء) [2].

فكف الطلب عن الفعل بمعنى طلب الامتناع عنه، فهو بعكس الأمرِ، الذي هو طلب إتيان الفعل، وكون طلب الكف على جهة الاستعلاء معناه: أن يكون النهي صادرًا من الأعلى إلى الأدنى، كما تقدم، فيَخرُج الدعاء والالتماس.

صيغة النهي:

صيغة النهي المشهورة هي: (لا تفعل)، ويُعَد من صيغة النهي كذلك كلُّ ما له دلالة على طلب الكفِّ؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [النحل: 90]، وقوله تعالى: ﴿ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ﴾ [الأنعام: 120]، وقوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ [المائدة: 3]، ونحو ذلك.

ويثبُت التحريم صريحًا بلفظ: (حرم)؛ كقوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ﴾ [النساء: 23].

وقد يثبت ببيان أن الفعلَ من الكبائر؛ كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أنبِّئكم بأكبر الكبائر؟))، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين…))[3]، وقد يثبت بالفعل (نهى) أو (ينهى) صريحًا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ﴾ [النحل: 90]، ومن النهي أيضًا أن يذكر عقاب مرتكب الفعل في الآخرة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا ﴾ [النساء: 93]، وكقوله سبحانه نهيًا عن التكبُّر: ﴿ فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [النحل: 29]، أو يذكر عقابه في الدنيا؛ كقوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38].

ولصراحة هذه الصيغ على التحريم لا يتوقف الأصوليون عندها كثيراً، وإنما يبحثون في صيغة: (لا تفعل)؛ فهي ترِد في الاستعمال لعدة معانٍ، منها: التحريم؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [الأنعام: 152]، والكراهة؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 87]، والإرشاد؛ كقوله تعالى: ﴿ لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101]، وبيان العاقبة؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ [إبراهيم: 42]، وغير ذلك من استخداماتٍ عدَّدها الأصوليون؛ شغفًا منهم بالتكثير، وبعضها كالمتداخل [4].

وكما ورد الخلافُ فيما إذا وردت صيغةُ الأمر بلا قرينةٍ تؤكد الوجوبَ أو تصرِفُ عنه إلى الندبِ أو الإباحة، فقد ورد الخلافُ كذلك في صيغة النهي المجرَّدة عن القرينةِ.

والجمهور على أن دلالةَ النهي المطلَق هي التحريم؛ لورود الشرع على مقتضى لسان العرب في الإلزام؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [البقرة: 188 [[5].

فدلَّ على تحريم الاعتداء على أموال الآخرين، فإذا وُجِدت قرينة صارفةٌ له عن معناه، تتوجه الدلالة حينئذٍ على وَفْق القرينة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ﴾ [الجمعة: 9]، فحمَله بعضُ العلماء على الكراهة؛ بقرينةِ أن النهي ليس عن ذاتِ البيع وحقيقته، وإنما هو للخوفِ من الانشغال به عن أداء الواجبِ، من المبادرةِ إلى الجمعة [6].

أما الدلالة على الفور أو التكرار، فيختلف النهيُ عن الأمر في ذلك؛ فالنهي عن الفعل يقتضي الانتهاءَ عنه دائمًا، ولا يتحقَّقُ مدلولُه إلا بالكفِّ عنه في جميع الأوقات، وهو يستلزم الفوريةَ؛ وذلك لأن طبيعةَ الفعل غير طبيعة الامتناع، فلا يُعقَل تحقُّق الامتناع بمرة، ثم تكون الإباحة، ثم نحتاج بعد ذلك إلى قرينةٍ جديدة تدل على طلب التَّرك من جديد [7].

وقد تدلُّ القرائن على أن النهيَ مؤقَّت بوقت، كما في نهي الحائض عن الصلاةِ والصوم؛ فقرينة الحيض تجعل النهيَ مؤقتًا بمدته، لا على وجه الدوام [8].

كما قد تصرف القرائنُ النهيَ عن الفورية فيما إذا كان النهي مقيَّدًا بشرط، فإن الفورية لا تتحقق إلا عند تحقُّق الشرط؛ كقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10]، فإن تحقَّق الشرط وهو الامتحان والعِلم بإيمانهن فثَمَّ تحصل الفورية، أمَّا قبل ذلك، فلا حُكم للنهي في الفورية؛ لعدم تحقُّقِ شرطِه.

[1]  معجم مقاييس اللغة (5/359).

[2]  أصول الفقه؛ للخضري (ص 199).

[3]  أخرجه البخاري في الشهادات (3/225).

[4]  المستصفى؛ للغزالي (1/419).

[5]  وينظر: إحكام الآمدي (2/284).

[6]  تفسير القرطبي (18/108).

[7]  التحرير مع التقرير (1/329)، وتفسير النصوص (2/883).

[8]  الإحكام؛ للآمدي (2/284).

المصدر: موقع “الألوكة نت”

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى