كتب وبحوث

الانتخاب في الفقه الإسلامي

إعداد أديب فايز الضمور

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد(*).
فإن الانتخابات من أهم الموضوعات المعاصرة تداولا، أقيمت المؤتمرات والندوات ودرست في الجامعات بشقها القانوني، وأنشئت لها الهيئات والمؤسسات والمرجعيات التي تقوم عليها وتديرها، بل أخذت الدول في إقرارها وسن القوانين التي تنظمها، وأصبحت وسيلة من أهم وسائل الوصول إلى الحكم وإدارة الدول، مع ما يرافق هذه الانتخابات من مفاسد وإعلام ومال يشوه الحقيقة، هذه الدراسة تتناول في المطلب الأول مفهوم الانتخاب والاختيار لغة واصطلاحا، ثم عرجت على مشروعيته وأدلة ذلك من الكتاب والسنة… وعمل الأمة، ثم بينت في المطلب الثاني التكييف الفقهي للانتخابات وأنه حق من وجه باعتبار تعلقه بالناخب، وأنه واجب باعتبار تعلق مصلحة الأمة به، ثم في المطلب الثالث تناولت الدراسة ضوابط الانتخابات مقسمة على ضوابط تتعلق بالناخب، وضوابط تتعلق بالعملية الانتخابية، وهذه الضوابط هدفها تحقيق إرادة الناخبين المشروعة ورضاهم عن النتيجة المتحققة من العملية الانتخابية…….

المبحث الأول: مفهوم الانتخاب
المطلب الأول: تعريف الانتخاب والاختيار في اللغة
أولاً: الانتخاب في اللغة
قال ابن فارس: (نَخَبَ) النون والخاء والباء كلمة تدل على تعظُّم يُقال أحدهما على خيار شيء، والآخر على ثّقْبٍ وهَزْمٍ في شيء. فالأول النُّخْبة: خيار الشيء ونُخْبَتُه. وانتخَبْتُه، وهو مُنتخَب أي مُختار(1).

وقال ابن سيده: “انتخبت الشيء: اخترته”(2)، وقال الرازي، وكذا الزمخشري(3): “الانتخاب: الاختيار”(4)، وقال ابن منظور: “وهم الجماعة تُختار من الرجال”(5)، وقال ابن الأثير: “المنتخَبون من الناس المنتقَوْن. والانتخاب: الاختيار والانتقاء”(6).

وقد أظهرت لنا اللغة أن الانتخاب عرف بالاختيار، ولمزيد بيان كان لا بد من الوقوف على تعريف الاختيار ومعانيه ودلالته في فهم عملية الاختيار والانتخاب قبل تعريف الانتخاب اصطلاحاً.

ثانياً: الاختيار لغةً:
جاء في تاج العروس: “الخيار: (الاسم من [الاختيار] وهو طَلَبُ) خَيْر الأمْرَيْن”(7)، وجاء في دستور العلماء: الاختيار: ترجيح أحد الأمرين أو الأمور على الآخر”(8)، وقال العسكري: ولو اضطر الإنسان إلى إرادة شيء لم يسم مختاراً له لأن الاختيار خلاف الاضطرار(9).

يلحظ هنا أمر مهم للغاية في تكييف طبيعة الاختيار عندما ذكر أن مع الاضطرار ينعدم الاختيار، وذلك لأن الاختيار معبر عن حرية الإرادة، وهي بدورها معبرة عن الرضا، لذا يمكن القول إن الاختيار هو المعبر عن حرية الإرادة المعبرة عن الرضا، وهذا معنى غاية في الأهمية عند الحديث عن الانتخاب وتكييفه.

المطلب الثاني: تعريف الانتخاب والاختيار اصطلاحاً
أولاً: الاختيار في الاصطلاح.
عرّفه الحنفية بأنه: القصد إلى أمر متردد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر(10)، وقال ابن عابدين: والاختيار: هو القصد إلى الشيء وإرادتُه(11).

وعرّفه الجمهور: بأنه القصد إلى الفعل وتفضيله على غيره، وعرّفه بعضهم: بأنه الميل إلى ما يراد ويرتضى أو طلب ما فعله خير(12). فالميل والإرادة والرضا أعمال قلبية، لا بد لها من فعل يظهر إرادتها، وهذا الفعل لا بد أن يكون معبراً تعبيراً حقيقياً عن هذه الإرادة، حتى يكون الفعل اختياراً لا اضطراراً.

ثانياً: الانتخاب في الاصطلاح.
لقد وقف الباحث على تعريفين مما ذكره المعاصرون في الانتخابات هما:
تعريف الدكتور فهد العجلان عرف الانتخابات بأنها: “طريقة يختار فيها المواطنون أو بعضهم من يرضون ويتوصل من خلالها لتحديد المستحق للولاية أو المهمة المنتخب فيها”(13).
ويلحظ على هذا التعريف بأنه عرف الانتخابات بمعناها السياسي المعاصر فقط، وفيه تطويل بعض الشيء.

وقال الدكتور مصطفى السباعي: “فالانتخاب هو اختيار الأمة لوكلاء ينوبون عنها…(14) وكان يقصد به انتخاب ممثلين عن الأمة في مجالس الشورى أو النيابة، وهذا أيضاً تحديد لمعنى الانتخابات السياسية المعاصرة.

ومما سبق يمكن تعريف الانتخاب بأنه: اختيار يظهر إرادة أهل الاختيار.

ويقصد بـ(الاختيار): النتيجة أو الطريقة والوسيلة المستخدمة في الانتخاب، فهو نتيجة يتم التوصل إليها من استعمال طريقة أو وسيلة ما، كما نقول إن عثمان بن عفان رضي الله عنه هو اختيار الأمة، وقد يكون طريقة ووسيلة يلجأ إليها الناخبون في الانتخابات.

والقول بـ(يظهر إرادة): حتى يؤول الفعل (الطريقة أو الوسيلة) إلى النتيجة المعبرة عن إرادة ورضى الناخب أو المختار.

و(أهل الاختيار): وهم المستحقون دون غيرهم للمشاركة في عملية الانتخاب والاختيار، كي لا يفسد اختيارهم (أي غير المعنيين بالاختيار) اختيار أهل الاختيار.

وقد يوظف الانتخاب بعد ذلك سياسياً في انتخاب الإمام أو النائب في البرلمان… أو مهنياً كما في انتخاب نقيب المهندسين أو الأطباء…

ويلحظ أن الانتخاب أكثر ما يستخدم في باب السياسة الشرعية، والتي هي باب من أبواب فقه المعاملات في الفقه الإسلامي العام.

المبحث الثاني: مشروعية الانتخاب وأدلته
أولاً: السياسة الشرعية من العادات التي يلتفت فيها إلى المعاني:
يقول الشاطبي: علمنا من مقصد الشارع التفرقة بين العبادات والعادات وأنه غلب في باب العبادات جهة التعبد وفي باب العادات جهة الالتفات إلى المعاني(15)، وعليه لا بد من التوقف في العبادات على الدليل كمسائل الصوم والصلاة… أما العادات وبما أن مبناها على المعاني أي المصالح التي قصدها الشارع، والأحكام المفصلة فيها قليلة فدل كل ذلك على أن الأصل فيها يقوم على الإباحة والمانع يطالب بالدليل يقول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}(16)، وما عدا المحرم يبقى حلالاً، والسياسة الشرعية من هذا الباب، وعليه برع أصحاب الفقه الدقيق ونبهوا للتفريق بين باب العبادات وباب المعاملات، وإليه أشار ابن عقيل في مناظرته مع بعض الفقهاء فقال: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي؛ فإن أردت بقولك “لا سياسة إلا ما وافق الشرع” أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة(17). ومعظم التشريع السياسي من هذا القبيل(18). ويقول الإمام الجويني: “معظم مسائل الإمامة عرية عن مسالك القطع خلية عن مدارك اليقين”(19)، فلا يقال في هذا الباب أنه بدعة ما لم يخالف ما نطق به الشرع الصحيح كما قال ابن عقيل، ولم أجد في الانتخاب كوسيلة ما يخالف ذلك، بل وجدت أن فيه تحقيقاً لمصالح الدين والخلق، يقول ابن تيمية: “الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعاً ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعاً”(20).

والإمام مالك نسب إليه القول بأن الاستحسان وهو مبني على المصلح تسعة أعشار العلم(21)، وهذا يؤكد أن الشريعة مبنية على مصالح العباد(22)، والأحكام وسائل لا تراد لذاتها وإنما المراد غاياتها ومقاصدها المتمثلة بمصالح العباد(23). والقاعدة تقول: تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة(24)، ويقول الإمام الشاطبي: “وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور [معه] حيثما دار، فترى الشيء الواحد يُمنَع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمتنع في المبايعة، ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس، يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماً كما فهمناه في العادات(25).

ثانياً: من كتاب الله قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}.
قال ابن تيمية: “فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم”. رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة.. فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقُربة يُتقَرَّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات”(26).
وعليه فولاية أمر الناس من أهم الأمور التي يجب أن تجري فيه الشورى، والتطبيق العملي للأمة جعل الفقهاء يطلقون على من ينتخب ويختار الإمام بـ(أهل الاختيار) كما سيأتي بيانه في الدليل الرابع.

ثالثاً: السنة الشريفة
1 – لقد جاء في بيعة العقبة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الأنصار: “أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيباً، يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من (الخزرج)، وثلاثة من (الأوس)”(27).
يقول الدكتور محمد الصلابي: “ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين النقباء، إنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره، وهذا أمر شوري، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيارهم نقباءهم”(28).
وفي هذا التطبيق في العصر النبوي يلحظ ظهور الإرادة الحرة والرضا بالاختيار للنقباء.

2 – ومن السنة أيضاً:
عندما جاء وفد هوازن إلى النبي عليه السلام مسلماً مبايعاً، وطلبوا من النبي عليه السلام أن يعتق السبي، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم الناس في ذلك فاختلف الناس، فقال عليه السلام للناس: “إني لا أدري مَن أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عُرَفاؤكم أمرَكم”، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه أن الناس قد طيَّبوا وأذنوا”(29).

والشاهد هنا اختيار العرفاء للناس، والنص لم يظهر لنا كيف تم هذا الاختيار في هذا الموضع، فربما عينوا، وربما اختيروا من قبل الناس فيكون انتخاباً، وخاصة أن البخاري سمى الباب ب(باب العرفاء للناس) التي فيها معنى النيابة والتولية من الناس أظهر، ولم يقل (على الناس) والتي هي للتعيين أقرب والله أعلم.

ويلحظ أن في الاختيار هنا (للعرافة للناس) ولاية وتولية، قال ابن حجر العسقلاني: “فأنا عارف وعريف أي وُلِّيت أمرَ سياستهم وحِفْظ أمورهم وسُمِّي بذلك لكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج…: وفيه أن الحاكم يرفع حكمه إلى حاكم آخر مشافهة فينفذه إذا كان كل منهما في محل ولايته”(30)، وقال القسطلاني: “العرفاء ليسوا وكلاء، وإنما هم كالأمراء عليهم”(31)، وقال الإمام النووي: “وفي سنن أبي داود (العِرافة حق) لما فيه من مصلحة الناس وليتيسر ضبط الجيوش ونحوها على الإمام باختاذ العرفاء”(32).

رابعاً: البيعة من آليات الانتخاب وقد أمر وعمل بها سلف الأمة من غير نكير:
والذي يدل على ذلك أن أهل العلم سموا من يمارس حق اختيار الإمام ومبايعته بالإمامة بأهل الاختيار، فقد سمى الإمام الماوردي أهل البيعة أهل الاختيار فقد قال: “ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهلَ الاختيار عقدُ الإمامة له، فإنْ اتفقوا أتموا؛ لأن الإمامة عَقْد لا يتم إلا بعاقد…(33)، فسماهم أهل الاختيار، واشترط الرضا وحرية الإرادة حتى يكون الاختيار حقيقياً.

وكذلك ذكر أبو يعلى الفراء: “وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه”(34). وعقد إمام الحرمين الجويني فصلاً وسماه: (الفصل الأول في صفة أهل الاختيار)(35)، وقال ابن جماعة: “لو كانت شروط الخلافة في جماعة صالحة لها، قدم أهل الحل والعقد أصلحهم للمسلمين”(36). وأهل الحل والعقد عند ابن جماعة هم أهل الاختيار عند الماوردي.

وفي بيان الطرق التي تنعقد بها الخلافة قال القلقشندي: “الطريق الأول البيعة وهي أن يجتمع أهل الحل والعقد الآتي ذكرهم ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها”(37)، وقال صاحب كتاب الخلافة محمد رشيد رضا في إجابته على سؤال من ينصب الخليفة ويعزله؟: “اتفق أهل السنة على أن نَصْبَ الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل الحل والعقد في الأمة، ووافقهم المعتزلة والخوارج على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد(38).

وجاء في بيان كيفيتها: “وكيفيتها أن يقول كلٌّ مِن أهل الحل والعقد المبايعين لمن يبايعونه بالخلافة أن يقول له كلٌّ مِن أهل الحل والعقد: “قد بايعناك على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة، ولا يحتاج إلى ذلك إلى صفقة اليد”(39)، فالانتخاب هنا بالقول وقد رافق ذلك زمن النبي عليه السلام المصافحة، ووسيلة الانتخاب (البيعة في هذه الحالة) قد تكون بالقول كما قد تكون كتابة(40).

وسنقف على دور الأمة في اختيار الخلفاء الراشدين على النحو الآتي:
1 – اختيار الأمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه:
فقد ثبتت له الخلافة بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، ثم أجمع عليها الصحابة وبايعوه جميعاً، وارتضوا خلافته.
ففي السقيفة قال عمر لأبي بكر: “ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعتُه، وبايعه المهاجرون ثم بايعَتْه الأنصار”(41).
وفي اليوم التالي يوم البيعة العامة قال الطبري: “…حدثنا أنس بن مالك قال لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله… فقوموا فبايعوا فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة”(42).

وذهب أبو يعلى من الحنابلة إلى انعقاد الإمامة باختيار (انتخاب) جمهور أهل الحل والعقد فقال: “فأما انعقادها باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد”(43).
إذا كان الانتخاب عمل الأمة في تولية خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2 – أما اختيار عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
فقد جاء في كنز العمال: “لما ثقل أبو بكر واستبان له في نفسه جمع الناس إليه فقال لهم: إنه قد نزل بي ما قد ترون، ولا أظنني إلا لمماتي وقد أطلق الله تعالى أيمانكم من بيعتي، وحل عنكم عقدي، ورد عليكم أمركم؛ فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي، فقاموا في ذلك وخلوه تخلية، فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا لنا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فلعلكم تختلفون؟ قالوا: لا، فقال: فعليكم عهد الله على الرضا، قالوا: نعم، قال: فأمهلوني أنظر لله ولدينه ولعباده فأرسل أبو بكر إلى عثمان فقال: أشر علي برجل، فوالله إنك عندي لها لأهل وموضع، فقال عمر اكتب فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه فأفاق فقال: اكتب عمر”(44). فهنا وكل الناس أمرهم إلى أبي بكر.

وقال الطبري: “قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنيفه، وأسماء ابنة عميس ممسكته موشومة اليدين، وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم، فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، فقالوا سمعنا وأطعنا”(45).

ومع ذلك لم تنعقد خلافة عمر رضي الله عنه إلا بعد مبايعة الناس له، والذي دل على ذلك وجود البيعة له من قبل الناس وإعلانهم السمع والطاعة له، كيف لا وهو القائل رضي الله عنه: “من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايَع هو ولا الذي بايَعَه، تَغِرَّةً أن يُقتلا”(46).

3 – وأما خلافة عثمان رضي الله عنه:
فقد أخذ عبد الرحمن بن عوف يشاور المهاجرين والأنصار، ولما رأى ميل الناس كلهم إلى عثمان قال عبد الرحمن بن عوف: “أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان”(47).
فقد عرض ابن عوف أمر عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين على الناس، فوجد أن اختيارهم ورضاهم كان لعثمان.

4 – وأما خلافة علي رضي الله عنه:
قال الطبري: “عن محمد بن الحنفية قال: كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه، فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أكون أميراً، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس”(48).
فكان انتخاباً أولياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، ولكنه أبى إلا أن يكون اختياراً وانتخاباً ورضا من المسلمين الذين لهم الحق.

5 – ومن الوقائع التاريخية:
أ – أنه جاء معاوية وفد من البصرة مع واليه عليهم عبيد الله بن زياد، فأثنى الوفد على عبيد الله بن زياد خيراً، إلا الأحنف بن قيس، فعزله معاوية لأجل ذلك، وقال: اطلبوا والياً ترضونه”(49).

ب – وهذا عمر بن هبيرة قال لمسلم بن سعيد حين ولاه خراسان: ليكن حاجبك من صالح مواليك فإنه لسانك والمعبر عنك، وحث صاحب شرطتك على الأمانة، وعليك بعمال العذر، قال: وما عمال العذر؟ قال: مر أهل كل بلد أن يختاروا لأنفسهم، فإذا اختاروا رجلاً فولّه، فإن كان خيراً كان لك، وإن كان شراً كان لهم دونك، وكنت معذوراً(50).

خامساً: قياس الأولى:
قياس الانتخاب على القرعة، فالانتخاب أولى من القرعة(51)، وخاصة في اختيار الإمام عند تساوي المرشحين للإمامة، والقرعة معتبرة في كثير من الأمور، فاعتبار الانتخاب والاختيار أولى في هذا الباب:
والقرعة ذكرها الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية عن بعض الفقهاء عند تساوي المرشحين بشروط الإمامة فقال: “واختلف الفقهاء فيما يُقطع به تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما، فقالت طائفة: يُقرع بينهما ويقدَّم مَن قرع منهما.
وقال آخرون: بل يكون أهل الاختيار بالخيار في بيعة أيهما شاؤوا من غير قرعة”(52).

وقد رجح الماوردي عدم جواز القرعة وأجاز الاختيار فقال: “وإذا دام الاشتباه بينهما بعد الكشف ولم تقم بيِّنة لأحدهما بالتقدم لم يُقرع بينهما لأمرين:
أحدهما: إن الإمامة عقد، والقرعة لا مدخل لها في العقود.

والثاني: إن الإمامة لا يجوز الاشتراك فيها، والقرعة لا مدخل لها فيما لا يصح الاشتراك فيه كالمناكح، وتدخل فيما يصح فيه الاشتراك كالأموال، ويكون دوام هذا الاشتباه مبطلاً لعقدي الإمامة فيهما، ويستأنف أهل الاختيار عقدها لأحدهما”(53). فإذا كانت القرعة الجائزة ممنوعة في اختيار الإمام عند الماوردي، والانتخاب (الاختيار) جائز، فهو أولى في الاعتبار في استظهار الأحق بالأمر.

وذهب أبو يعلى الفراء الحنبلي إلى جواز اعتبار القرعة هنا فقال: “وبماذا نقطع تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما؟ فقياس قول أحمد رحمه الله: أنه يقرع بينهما فيبابع من قرع منهما؛ لأنه قال في رواية عبد الله – في مسجد فيه رجلان تداعيا الأذان فيه “يقرع بينهما” واحتج بقول سعد. ولفظ الحديث ما رواه العكبري بإسناده عن ابن شبرمة “أن الناس تشاحوا في الأذان يوم القادسية، فأقر بينهم سعد” وبإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه استهموا”(54).

وقال القلقشندي: “ولو تنازع اثنان مستجمعان للأهلية في الإمامة… هل يقرع بينهما عند التساوي أو يقدم أهل الحل والعقد من شاؤوا منهما فيه خلاف”(55).

والذي يظهر للباحث أن الانتخاب أقوى في استظهار الأحق منهما بالأمر، وما لا خلاف فيه (الاختيار والانتخاب) يقدم على ما فيه خلاف، فيكون أولى بالاعتبار والله أعلم.

المبحث الثالث: التكييف الفقهي للانتخاب
هل هو حق أم واجب؟
لقد عرف الحق بأنه: اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة(56).

وعرف الواجب بأنه: ما طلب الشارع فعله طلباً جازماً(57).

وفي هذا الصدد ظهرت عدة آراء فقهية وقانونية لتحديد الطبيعة القانونية للانتخاب، فذهب البعض إلى أن الانتخاب حق شخصي وذهب آخرون إلى أنه وظيفة، وذهب رأي ثالث إلى أنه سلطة قانونية(58).

أما فقهياً فإذا اعتبرنا الانتخاب حقاً فإن صاحب الحق يجوز له التنازل عن حقه وعدم ممارسته، وإذا اعتبرناه واجباً فإنه لا يجوز للمكلف ترك الواجب.

فهل الانتخاب حق أم واجب؟
لقد ظهر للباحث أن التكيف الفقهي باعتبار الانتخاب حق أم واجب يتعلق بموضوعه (أي موضوع الانتخاب) فإن كان الانتخاب لإقامة واجب شرعي كان الانتخاب واجباً شرعياً، وإلا فلا، وعليه قد يدور حكم الانتخاب على أقسام الحكم الشرعي جميعها، فقد يكون واجباً، وذلك لإقامة واجب، ومثاله ما روي عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم” قال نافع: فقلنا لأبي سلمة: فأنت أميرنا”(59). فهنا انتخاب الثلاثة للأمير حق لهم وواجب عليهم لإقامة الواجب الشرعي الذي نص عليه الحديث الشريف. قال ابن تيمية معلقاً: “فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم”. رواه أبو داود، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة.

وروى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم”. فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيهاً بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا رُوي: “أن السلطان ظِل الله في الأرض”… فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقُربة يُتقرَّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القُرُبات(60).

وقد تكون واجباً عينياً كما على الثلاثة، وقد تكون واجباً كفائياً كما هو اختيار الأمة للخليفة، فقد ذكر ذلك الفقهاء ومنهم الإمام الماوردي الذي قال: “ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن إمامته لا تنعقد إلا بالرضا والاختيار، لكن يلزم أهل الاختيار عقد الإمامة له، فإن اتفقوا أتموا…(61)، فأهل الاختيار قد يكفون الأمة بهذا الانتخاب.

وقال أبو يعلى الفراء: “وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه”(62).

وقال صاحب كتاب الخلافة محمد رشيد رضا في إجابته على سؤال من ينصب الخليفة ويعزله؟: “اتفق أهل السنة على أن نَصْب الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل الحل والعقد في الأمة”(63). فهو واجب كفائي على الأمة وعيني على من تعين من أهل الاختيار، ثم تأتي بعد ذلك البيعة للإمام الخاصة أو العامة.

وقد يكون ممنوعاً محرماً وخاصة إذا كان مآله لمفسدة، أو كان انتخاباً لا يظهر إرادة الناخب الحقيقية المعبرة عن الرضا، كما ذكر بعض الفقهاء في جوابهم على بعض مسائل الانتخاب المعاصرة فقد جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (23/404 – 405) ما نصه:
س: هل يجوز للمسلم أن ينتخب للمجالس البلدية أو غيرها من الدوائر شخصاً يعتنق الشيوعية، أو يسخر بالدين ويعتنق القومية ويعتبرها ديناً؟
ج: لا يجوز للمسلم أن ينتخب للمجالس البلدية أو الدوائر الأخرى من علم أنه شيوعي، أو يسخر بالدين الإسلامي، أو اعتنق القومية ويعتبرها ديناً؛ لأنه بانتخابه إياه رضيه ممثلاً له، وأعانه على تولي مركز يتمكن من الإفساد فيه، ويعين فيه من يشايعه في مبدئه وعقيدته، وقد يستغل ذلك المركز في إيذاء من يخالفه وحرمانه من حقوقه أو بعضها في تلك الدوائر الأخرى، ولما فيه من تشجيعه، من استمراره على المبدأ الباطل، وتنفيذه ما يريد”(64). وسأتناول بعضاً من المسائل في الموازنة بين المشاركة والمقاطعة في الانتخابات لاحقاً في موضوع ضوابط الانتخاب.

المبحث الرابع: ضوابط الانتخاب
أولاً: بعض الضوابط المتعلقة بالناخب
الضابط الأول: الإخلاص والموافقة: ولأن الانتخاب عمل ولكل عمل حتى يقبل شرطان(65)، هما:
الشرط الأول: الإخلاص لقوله عليه السلام: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”(66).

الشرط الثاني: الموافقة لقوله عليه السلام: “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد”(67).
لذا سنتكلم عن الشرطين ونقف على أهميتهما في موضوع الانتخاب، وسنبدأ بالإخلاص، ثم الموافقة والفقه في الدين في مسألة الانتخاب؛ لأن العلم قبل العمل(68).

الشرط الأول: الإخلاص:
تعريف الإخلاص: قال أبو محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: نَظَرَ الأكياسُ في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: “أن تكون حركاته وسكونه في سرِّه وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء لا نَفْس ولا هوى ولا دنيا”(69)، وفي نضرة النعيم: “والخالص هو الذي لا باعث له إلا طلب الحق، والإخلاص لا يكون إلا بعد الدخول في العمل”(70).

وحقيقة الإخلاص: “صدق في النية والقول والعمل، فيما يتعلق بحقوق الله تعالى، وفيما يتعلق بحقوق المخلوقين(71).

والانتخاب عمل يراد من خلاله تحقيق نتيجة تعود على الناخب أو مجموع الناخبين بالخير والصلاح في اختياره أو انتخابه، فلا بد لذلك العمل من الإخلاص؛ لأن فيه الثمار التالية للناخب أو الأمة اكتفي بذكر ثمرتين مباشرتين هما:

1 – التوفيق والسداد والهداية والنفع في الأقوال والأعمال:
قال سفيان بن عيينة: “ما أخلص عبدٌ لله أربعين يوماً إلا أنبت الله الحكمة في قلبه نباتاً، وأنطق لسانه بها، وبصَّره عيوب الدنيا: داءها ودواءها”(72).

وعن علي، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قل اللهم اهدني وسددني، واذكر، بالهُدى هدايتك الطريق، والسداد، سداد السهم”(73)، وقال النووي: “ومعنى سدِّدني وفقني واجعلني منتصباً في جميع أمور مستقيماً وأصل السداد الاستقامة والقصد في الأمور وأما الهُدى هنا فهو الرشاد ويُذكِّر ويؤنِّث ومعنى اذكر بالهدى هدايتك الطريق”(74).

وما أحوج الناخب للهداية والسداد وخاصة في انتخابه واختيار مرشحه المناسب، وقد بين العلماء أن أكثر الناس هداية أكثر الناس إخلاصاً وهم المجاهدون، انظر لربط ابن تيمية بين الهداية والإخلاص في الجهاد فقد قال رحمه الله: “ولهذا كان الجهاد موجباً للهداية التي هي محيطة بأبواب العلم. كما دل عليه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سُبُله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}. وفي الجهاد أيضاً: حقيقة الزهد في الحياة الدنيا وفي الدار الدنيا. وفيه أيضاً: حقيقة الإخلاص… وأعظم مراتب الإخلاص: تسليم النفس والمال للمعبود”(75)، وقال ابن القيم: “ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة”(76)، وقال عبد الله بن مبارك: “قال: قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا، قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق”(77).

2 – النصر والتمكين:
روى البخاري فقال: “رأى سعد رضي الله عنه، أن له فضلاً عن مَن دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم”(78).

وقد بين شراح الحديث أن من أهم أسباب النصر بالضعفاء هو إخلاصهم، قال ابن حجر: “إنما نصرَ اللهُ هذه الأمةَ بضَعَفَتهم بدَعَوَاتهم وصلاتهم وإخلاصهم… قال ابن بطال تأويل الحديث أن الضعفاء أشدُّ إخلاصاً في الدعاء وأكثر خشوعاً في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا… فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه(79)، وقال ابن تيمية: “النصر والرزق يحصل بأسباب من آكدها دعاء المؤمنين وصِلاتهم وإخلاصهم”(80).
وكم يحتاج أهل الإسلام ودعاته للنصر والتمكين في المعارك الانتخابية لنصرة الشريعة وتحكيمها في دول بعدت عن تحكيم شرع الله.

الضابط الثاني: الموافقة والمتابعة والفقه في المسألة.
الموافقة حتى تتحقق لا بد لها من فقه في الدين، ومما يتعلق بالفقه في الدين في باب الانتخاب (وكما ذكرنا سابقاً أنه من مسائل السياسة الشرعية التي تدور على تحقيق مصلحة المسلمين) فقه الموازنات وخاصة في مسألة المشاركة أو المقاطعة، وفي مسألة اختيار الأصلح، وقبل ذلك لا بد من تعريف المقصود بفقه الموازنات ومشروعيته على النحو الآتي:

1 – فقه الموازنات:
يحتاج لفقه الموازنات لبيان الموقف من مسائل عدة في الانتخاب كمسألة المشاركة أو المقاطعة،ومسألة من الأولى بالانتخاب من المرشحين، لذا لا بد أن نبين المقصود بفقه الموازنات وبيان مشروعيته ولو بشيء من الإيجاز.

والموازنة هي نوع من أنواع المقارنة، حيث يضع الناظر المصالح والمفاسد أو الأدلة أمام النظر، فيدقق ويسبر هذه المصالح والمفاسد والأدلة المتقاربة من خلال المقابلة بينها ليتعرف على المصلحة أو المفسدة أو الدليل الذي فيه زيادة قوة على ما ماثله أو قاربه، لذا وجدنا الفقهاء والعلماء يستخدمون هذا المعنى كثيراً، يقول الشوكاني: ووجوه الترجيح كثيرة يعرفها من يعرف الموازنة بين الأدلة، والمعادلة بين وجوه الترجيح”(81).

ويمكن تعريف فقه الموازنات بأنه: الترجيح بالمقابلة بين الضر والنفع.

ومما يدل على مشروعيته في كتاب الله قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}(82). وهذه موازنة بين خيرين.

وهناك موازنة بين شرين لا بد من أهدهما كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}(83).

وذكر القرآن لهذه الطريقة أو المنهج في النظر للأمور هو تزكية لها وتوجيه للعلماء لاعتمادها في النظر والاستدلال(84).
ومن تطبيقات فقه الموازنات الفقهية في الانتخاب والاختيار هذه المسائل:

1 – الموازنة بين المشاركة بالانتخابات أو مقاطعتها(85).
إن من أهم أركان الانتخاب الاختيار، ولا اختيار مع إجبار، ولا اختيار مع مصادرة إرادة الاختيار، فقد كانت تجري في بعض الدول انتخابات توصف بحرة ونزيهة ونسبة مشاركة عالية ويصوت للحاكم ما نسبته 90 – 99% ولا تعتبر هذه النتيجة تعبيراً حقيقياً عن رضا وإرادة الناخبين، فكانت تزور فيه إرادة الناخبين، ولا أدل على ذلك من ثورة الشعوب عليهم بعد ذلك بوقت قليل.

وهذا يتنافى مع الحكمة من مشروعية الاختيار كما جاء في الموسوعة الفقهية: “حِكمة مشروعية الاختيار: شُرع الاختيار لتحقيق مصالح العباد التي هي غاية من غايات الشريعة، وهذه المصلحة قد تكون مصلحة فردية للمُختار نفسه أو غيره عندما يكون محل الاختيار قاصراً عليه لا يتعداه إلا غيره. وقد تكون المصلحة التي يجب توخيها في الاختيار مصلحة جماعية”(86).

فانعدام الرضى هو في الحقيقة انعدام لمصلحة الناخبين وإفساد لها، وقد أشار الفقهاء للفرق بين الاختيار الصحيح والفاسد كما في كشف الأسرار حيث قال: “والصحيح منه أن يكون الفاعل في قصده مستبداً، والفاسد منه أن يكون اختياره مبنياً على اختيار الآخر فإذا اضطُر إلى مباشرة أمر الإكراه كان قصده في المباشرة دفع الإكراه حقيقة فيصير الاختيار فاسداً لابتنائه على اختيار المُكرَه وإن لم ينعدم أصلاً”(87).

ومن آثار الاختيار الفاسد التي نلاحظها وسيد الأمر إلى غير أهله فعن أبي هريرة قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدِّث القومَ جاءه أعرابي فقال متى الساعة فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث فقال بعض القوم سمع ما قال فكَره ما قال وقال بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال أين أُراه السائل عن الساعة قال ها أنا يا رسول الله قال فإذا ضُيِّعَتْ الأمانة فانتظر الساعة قال كيف إضاعتها قال إذا وُسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”(88).

وكفى بها من آثار تهدم الأمم وتزيل الدول وتضيع الحقوق والأمانات… ففي أحد أهم مذكرات جاسوس ألماني في روسيا وهو على فراش الموت اعترف بأنه كان جاسوساً للصليب المعقوف على الأراضي الروسية، استغرب المحيطون به واندهشوا فهذا لا يكذب الآن هو على فراش الموت، وهم لا يصدقونه؛ لأنه صديقهم العزيز… سألوه وماذا كنت تفعل للتجسس على روسيا؟ وأنت لم تسافر ولم تتصل بأي أحد في ألمانيا؟ رد عليهم بقوله؟ كنت أضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب، كنت أدمر البنية التحتية للنسيج المؤسساتي عندكم…

هذا وإن المشاركة في الانتخابات من مسائل السياسة الشرعية التي مبناها على فقه المصالح والمفاسد، فمتى غلب خيرها على شرها رجح دخولها، ومتى غلب شرُّها خيرَها رجح تركها، ومرد هذا الأمر إلى أهل العلم في كل بلد، فإنهم أدرى بظروف وأحوال بلادهم.

من فتاوى الفقهاء:
سئلت اللجنة الدائمة عن حكم  الانتخاب والترشيح في بلد تحكم بغير شريعة الله:
س: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟
فأجابت اللجنة بـ: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة لا تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شرعية الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة”. فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: 23/406 – 407″(89).

ويقول الدكتور سعد العتيبي: “ولكن إذا عدم النظام الشرعي للانتخاب بشروطه الشرعية، وطلب من الناس أن ينتخبوا أهلاً لولاية ما – فإن للانتخاب بشروطه الشرعية، وطلب من الناس أن ينتخبوا أهلاً لولاية ما – فإن الانتخابات حينئذ تكون الخيار الممكن لتولية الأصلح، ومن ثم لا ينبغي التأخر عنها، ما لم يفت أهل العلم بمقاطعتها لكونها صورية مثلاً! أو لكون جميع المرشحين فيها على درجة واحدة من الشر، أو لعدم قبول إشراف قضائي عليها، أو لغير ذلك من الأسباب التي تقتضي الحكم بمقاطعتها”(90)، كما هو حال الانتخابات في كثير من البلاد الإسلامية التي لا تطبق فيها أحكام الشريعة.

2 – الموازنة في اختيار الأصلح والأرضى لله، والموازنة بين الأمانة والورع، أو الكفاءة في الانتخاب والاختيار:
أ – اختيار الأصلح:
الاختيار أمانة وخاصة إذا تعلق بولاية وفي ذلك قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(91).
وقد بين الإمام القرطبي أن الأمانة تعم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور… وهي الفرائض التي ائتمن الله عليها العباد قال القرطبي: “والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال وردّ الظلامات والعدل في الحكومات… وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ ابن كعب قالوا: الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع… قلت: وهذا إجماع… فالآية شاملة بنَظْمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا”(92).

ومن هذه الأمانات اختيار وانتخاب الأصلح والأرضى لله، وخاصة إذا تعلق الانتخاب بتولية ولاية، كانتخاب حاكم، أو نائب في البرلمان، أو تولي شأن من شؤون المسلمين، قال ابن تيمية: “فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس… ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: “أن السلطان ظلُّ الله في الأرض… فالواجب اتخاذ الغمارة ديناً وقربة يُتقرَّب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات”(93).

وإذا كان الانتخاب تولية فالتولية أمانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”(94)، فالانتخاب في هذه الحالة تولية واستعمال لرجل على عصابة.

يقول ابن تيمية: “إذا عرف هذا، فليس عليه أن يستعمل إلا أصلح الموجود، وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية، فيختار الأمثل فالأمثل في كل منصب بحسبه، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام، وأخذه للولاية بحقها، فقد أدى الأمانة، وقام بالواجب في هذا،… لكن إن كان منه عجز بلا حاجة إليه، أو خيانة عوقب على ذلك. وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة. كما قال تعالى(95): {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(96).

وقال مؤكداً المعنى في موضع آخر: “فإن الرجل لحبه لولده، أو لعتيقه، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته؛ وكذلك قد يؤثره زيادة في ماله أو حفظه؛ يأخذ ما لا يستحقه، أو محاباة من يداهنه في بعض الولايات، فيكون قد خان الله ورسوله، وخان أمانته، ثم إن المؤدي للأمانة مع مخالفة هواه، يثبِّته الله فيحفظه في أهله وماله بعده، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله، ويذهب ماله”(97).

ومما يدعم ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه: “باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا”(98)، وأقل حالات الانتخاب إبداء الرأي في المرشح وهذا أيضاً أمانة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المستشار مؤتَمَن”(99). وقال عليه السلام: “ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه” وهذا لفظ سليمان(100)، فقد دلت هذه النصوص بعمومها على وجوب تزكية أو انتخاب واختيار الأصلح للمسلمين؛ لأن ذلك أمانة، وإلا كان خائناً للأمانة وغاشاً للمسلمين.

ولتحقيق ذلك لا بد للناخب من التحري، والاجتهاد في معرفة متطلبات الترشيح، وكفاءة المرشحين حال المرشحين، لا تعصباً للعشيرة أو القرابة، ولا تقديماً للمصالح الخاصة على المصالح العامة، فعن يزيد بن أبي سفيان، قال: قال لي أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين بعثني إلى الشام: يا يزيد، إن لك قرابة عسيت أن تؤثرهم بالإمارة ذلك أكثر ما أخاف عليك، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم”(101).

ب – الموازنة بين الأمانة والورع، أو الكفاءة في الانتخاب والاختيار.
اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، وقد يعرض للناخب عدة مرشحين تتفاوت مرتبة كفاءتهم، كما تتفاوت مرتبة عدالتهم، فما الموقف الذي ينبغي له اتخاذه منهم؟

بناء على ما سبق في مسألة اختيار الأصلح يقدم من توافرت فيه الأمانة والكفاءة، كما جاء في قوله تعالى على لسان ابنة شعيب عليه السلام: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(102). فإن اختل ميزان أحدهما فوجد الكفاءة أو الأمانة اختير ما يوجبه العمل المرشح له المنتخب، وقد ذكر الفقهاء لذلك عدداص من الأمثلة منها:
ما ذكره الماوردي في قوله: “ولو كان أحدهما أعلم والآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور وظهور البغاة كان الأشجع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع كان الأعلم أحق، فإن وقف الاختيار على واحد من اثنين فتنازعاها، فقد قال بعض الفقهاء: إن التنازع فيها لا يكون قدحاً مانعاً”(103).

ومن ذلك أيضاً عندما سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزي؟ فقال: “أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزَى مع القوي الفاجر”(104).

وقد أيد ذلك بن تيمية فقال: “وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر”(105)، وروي “بأقوام لا خلاق لهم”. وإن لم يكن فاجراً كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين إذا لم يسد مسدَّه…”(106).

فالأصل اختيار التقي القوي الأمين، فإن اختل ميزان أحدهما، نظر للمهمة المناطة به، وما تحتاجه هذه المهمة، وخاصة إذا كانت إمارته تبعية كأمير جند في جيش قائده أمين كفء، أي توجد قيادة أعلى تسد النقص وتصحح ما قد يقع من أخطاء.

ثانياً: بعض الضوابط التي تتعلق بالعملية الانتخابية:
من خلال تعريف الانتخاب بأنه: اختيار يظهر إرادة أهل الاختيار، نلحظ أن الغاية المقصودة من هذا العمل تحقيق إرادة الناخب أو مجموع الناخبين ورضاهم، من خلال النتيجة المتحققة من عملية الانتخاب، وعليه فإن أي أمر يؤثر سلباً على هذا الانتخاب والاختيار ممنوع، فلا بد من أن تكون العملية الانتخابية مضبوطة بضوابط تحقق إرادة الناخبين ورضاهم، ومن هذه الضوابط:

1 – أن تكون عملية الانتخاب ممثلة تمثيلاً حقيقياً (أي معبرة تعبيراً حقيقياً عن إرادة الناخبين): وحتى يتحقق معنى الاختيار، فلا تأثير سلبي يؤثر على إرادة الناخب، كالتزوير، وشراء الأصوات… فلا بد من النزاهة والشفافية، وفي عالم اليوم فإن أكثر ما يؤثر على إرادة الناخب في العملية الانتخابية أمران:

أ – الإعلام: فنحن في عصر الإعلام وطغيان تأثيره، وخاصة السيطرة اليهودية على الإعلام العالمي، ومن خلال الفضائيات التي لا تمنعها حدود تمكن الإعلام من الوصول لكل بيت تقريباً، فيكبر الصغير ويصغر الكبير، ويلبس الباطل ثوب الحقيقة، ويشوه الحقيقة في نفوس المشاهد والمستمع والقارئ.

ب – المال: وخاصة الفاسد منه، حيث تشترى الذمم الرخيصة بثمن بخس، وترهن أصوات بعض الناخبين تحت ضغط الفقر والعوز، وبالمال تقام الحملات وتدعم الدعاية… والمرشح الصالح الذي لا يملك المال الوفير لا يتساوى مع من يملك المال في حظوظه من التواصل مع القاعدة الانتخابية، فلا بد من ضبط الإنفاق المالي في هذا كله حتى لا يكون التأثير سلبياً على إرادة الناخب في معرفته للأصلح من المرشحين.

وإذا تدخل الإعلام والمال في توجيه الناخبين توجيهاً سلبياً سيترك الناخب الأكفأ والأصلح، مما يترتب عليه ضياع حق الأكفأ والأصلح في التولي، وهدر لطاقاتهم التي تعود على الأمة بالنفع وتمنع عنها الضرر، والفساد الإداري من أخطر أنواع فساد الدول، فهو أصل الفساد المالي والاجتماعي والأخلاقي، كما مر سابقاً من آثار توسيد الأمر لغير أهله وما فيه من هدم الدول بهدم مؤسساتها بتولية من لا يصلح لإدارتها.

2 – بيان أهلية الناخبين: من حيث اختصاصهم بالانتخاب من عدمه، فلا ينتخب من ليس أهلاً ومستحقاً للانتخاب، ولذلك وصف العلماء من يستحق الانتخاب بـ(أهل الاختيار) فلا بد من هذه الأهلية، وتحدد عادة من خلال شروط تتناسب مع الوظيفة المراد الترشح لها، وصفات من يصلح للانتخاب فيها.

الخاتمة:
بعد توفيق الله تعالى وعونه في كتابة هذه الدراسة، خلص الباحث ببعض النتائج جاءت كالآتي:
1-    أن الانتخاب طريقة مشروعة في الفقه الإسلامي، وأكثر ما تدخل في باب السياسة الشرعية من أبواب الفقه.

2-    التكييف الفقهي للانتخاب يكون بحسب ما تعلق به، فإن تعلق الانتخاب بحق للمنتخب دون تعديه لحقوق المجموع حينها يكون حقاً شخصياً، وإن تعلق بواجب، أو بحق لمجموع الناخبين عندها يكون الانتخاب واجباً على الناخب.

3-    في الفقه الإسلامي ضوابط عدة ترشد عملية الانتخاب، وتحقق الغاية المرادة منه فهو وسيلة، والوسائل حكمها حكم نتائجها، فإن حققت المقصود وأظهرت إرادة الناخب ورضاه فهي صحيحة، وإلا تكون فاسدة.

4-    هذه المسألة من المسائل المعاصرة التي عقدت لها الندوات والمؤتمرات وكتبت فيها المؤلفات في جانبها القانوني، فكان لا بد من تقديم الجانب الفقهي مع ما سبق إليه من سبق في إثراء المسألة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

__________________________________

(*) البحث منشور في مجلة العلوم الشرعية الصادرة من جامعة القصيم، ونشرنا هنا من البحث ما يناسب المقام وللمزيد يراجع البحث في أصل المجلة. والشكر موصول للباحث الكريم..
(1)    ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ – 1979م، ج5 ص408.
(2)    ابن سيده، المخصص، المحقق: خليل إبراهيم جفال، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ – 1996م، ج4 ص46.
(3)    الرازي، مختار الصحاح، المحقق: يوسف الشيخ محمد، الناشر: المكتبة العصرية – الدار النموذجية، بيروت، صيدا، الطبعة الخامسة، 1420هـ – 1999م، ص306.
(4)    الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1419هـ – 1998م، ج2 ص257.
(5)    ابن منظور، لسان العرب، المحقق: عبد الله علي الكبير + محمد أحمد حسب الله + هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، القاهرة، ج6 ص753.
(6)    ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر، المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ – 1979م، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي – محمود محمد الطناحي، ج5 ص31.
(7)    الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، المحقق: مجموعة من المحققين، الناشر: دار الهداية، ج11 ص243.
(8)    القاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمد نكري، دستور العلماء أو جامع العلوم في اصطلاحات الفنون، عرب عباراته الفارسية: حسن هاني فحص، الناشر: دار الكتب العلمية – لبنان، بيروت، الطبعة: الأولى، 1421هـ – 2000م، ج1 ص44.
(9)    العسكري، الفروق اللغوية، حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سويلم، الناشر: دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ص124.
(10)    البخاري، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، المحقق: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ – 1997م، ج4 ص538.
(11)    ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار في شرح تنوير الأبصار المعروف بـ(حاشية ابن عابدين)، دار الفكر – بيروت، الطبعة الثانية، 1412هـ – 1992م، ج4 ص507.
(12)    عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، دار الفضيلة، ج1 ص100. وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، الطبعة الثانية، (من 1404 – 1427هـ)، دار السلاسل – الكويت، ج22 ص229.
(13)    العجلان، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، 2009م، الانتخابات وأحكامها في الفقه الإسلام، ص15.
(14)    السباعي، المرأة بين الفقه والقانون، دار الوراق للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة السابعة، 1420هـ – 1999م، ص124.
(15)    الشاطبي، الموافقات، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، 1417هـ – 1997م، ج2 ص397.
(16)    الأنعام، آية 119.
(17)    ابن القيم، إعلام الموقعين، دار الجيل – بيروت، 1973م، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، ج4 ص372.
(18)    انظر الدريني، خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت ط8، 2000م، ص15.
(19)    أبو المعالي الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، المحقق: عبد العظيم الديب، الناشر: مكتبة إمام الحرمين، الطبعة الثانية 1401هـ، ص59.
(20)    ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، عام النشر: 1416هـ/1995م، ج23 ص343,
(21)    انظر الشاطبي، الموافقات، ج2 ص305.
(22)    انظر ابن القيم، إعلام الموقعين، حيث أشار بأن الشريعة مبنية على مصالح العباد، ج3 ص11.
(23)    انظر ابن القيم، إعلام الموقعين، ج4 ص373.
(24)    الزركشي، المنثور في القواعد، تحقيق تيسير فائق أحمد محمود، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، الطبعة الثانية 1405هـ، ج1 ص309.
(25)    الشاطبي، الموافقات، ج2 ص305.
(26)    ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 1418هـ ص129 – 130.
(27)    محمد الغزالي، فقه السسيرة، دار القلم – دمشق، خرج أحاديثها محمد ناصر الألباني، الطبعة الأولى، 1427هـ، ص161.
(28)    الصلابي، الشورى فريضة إسلامية، الناشر: دار ابن كثير – سوريا، ص171.
(29)    البخاري، صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة (مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي)، الطبعة الأولى، 1422هـ، حديث رقم (7205)، ج9 ص71.
(30)    ابن حجر العسقلاني، فتح الباري لابن حجر، دار المعرفة – بيروت، 1379هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ج13 ص169.
(31)    القسطلاني، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (شرح القسطلاني)، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، الطبعة السابعة، 1323هـ، ج4 ص161.
(32)    النووي، شرح النووي على مسلم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية 1392هـ، ج14 ص20.
(33)    الماوردي، الأحكام السلطانية، دار الحديث – القاهرة، تحقيق أحمد جاد، ص28.
(34)    أبو يعلى، الأحكام السلطانية، صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية – بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1421هـ – 2000م، ص23.
(35)    الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ص62.
(36)    ابن جماعة، المحقق: قدم له: الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، تحقيق ودراسة وتعليق: د. فؤاد عبد المنعم أحمد، الناشر: دار الثقافة بتفويض من رئاسة المحاكم الشرعية بقطر – قطر/الدوحة، الطبعة الثالثة، 1408هـ-1988م، ص56.
(37)    القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، المحقق: عبد الستار أحمد فراج، الناشر مطبعة حكومة الكويت – الكويت، الطبعة الثانية، 1985م، ج1 ص39.
(38)    محمد رشيد رضا، الخلافة، الناشر: الزهراء للإعلام العربي – مصر/القاهرة، ص18.
(39)    الرحيباني، مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى، المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1415هـ-1994م، ج6 ص266. وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء، ص25.
(40)    فقد روى البخاري في صحيحه باباً سماه: (باب: كيف يبايع الإمام الناسَ) روى عن عبد الله بن دينار، قال: لما بايع الناس عبد الملك كتب إليه عبد الله بن عمر: إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين “إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله، فيما استطعتُ، وإن بنيَّ قد أقروا بذلك”. البخاري، صحيح البخاري، ج9 ص68.
(41)    البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم (7207)، ج8 ص170.
(42)    الطبري، تاريخ الطبري، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1407هـ، ج4 ص117. وانظر ابن كثير، البداية والنهاية، ط إحياء التراث، ج5 ص269.
(43)    أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص23.
(44)    المتقى الهندي، كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، تحقيق بكري حياني – صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1401هـ/1981م، ج5 ص680.
(45)    الطبري، تاريخ الأمم والملوك – تاريخ الطبري، ج2 ص352-353.
(46)    البخاري، صحيح البخاري ج8 ص169.
(47)    البخاري، صحيح البخاري، حديث رقم (7207)، ج9 ص78.
(48)    الطبري، تاريخ الأمم والملوك – تاريخ الطبري، ج2 ص696.
(49)    والحادثة كما ذكرها الطبري قال: “حدثني عمر قال حدثن علي قال وفد عبيد الله بن زياد في أهل العراق إلى معاوية فقال له ائذن لوفدك على منازلهم وشرفهم فأذن لهم ودخل الأحنف في آخرهم وكان سيئ المنزلة من عبيد الله فلما نظر إليه معاوية رحب به وأجلسه معه على سريره ثم تكلم القوم فأحسنوا الثناء على عبيد الله والأحنف ساكت فقال مالك يا أبا بحر لا تتكلم قال إن تكلمت خالفت القوم فقال انهضوا فقد عزلته عنكم واطلبوا والياً ترضونه فلم يبق في القوم أحد إلا أتى رجلاً من بني أمية أو من أشراف أهل الشام كلهم يطل وقعد الأحنف في منزله فلم يأت أحد فلبثوا أياماً ثم بعث إليهم معاوية فجمعهم فلما دخلوا عليه قال من اخترتم فاختلفت كلمتهم وسمى كل فريق منهم رجلاً والأحنف ساكت فقال له معاوية مالك يا أبا بحر لا تتكلم قال إن وليت علينا أحداً من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحداً وإن وليت من غيرهم فانظر في ذلك”. الطبري، تاريخ الأمم والملوك – تاريخ الطبري، ج3 ص257. وانظر ابن الأثير، الكامل في التاريخ، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1417هـ/1997م، ج3 ص114. وانظر ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص102.
(50)    الطبري، تاريخ الأمم والملوك – تاريخ الطبري، ج4 ص117.
(51)    جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: “قال البركتي: القرعة السهم والنصيب، وإلقاء القرعة: حيلة يتعين بها سهم الإنسان أي نصيبه. الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، الطبعة الثانية، (من 1404 – 1427هـ)، دار السلاسل – الكويت، 332 ص136.
(52)    الماوردي، الأحكام السلطانية، ص26-27.
(53)    الماوردي، الأحكام السلطانية، ص30.
(54)    أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص25.
(55)    القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، ج1 ص42.
(56)    وقد عرفه العبادي بقوله: “اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة أو تكليفاً لله على عباده أو لشخص على غيره”. العبادي، الحقوق في الإسلام، الجزء الأول، ص188. والملكية في الشريعة الإسلامي، مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة الأولى 2000م، ج1 ص121. وإضافة التكليف للتعريف يخرج الحق عن جواز تنازل صاحب الحق عن حقه، وإن قلنا إن التكليف لله هو حق الله على العبد، فهذا مندرج في قوله اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة، وهذه زيادة لا مبرر لها هنا، فالاكتفاء بالقول بأنه: اختصاص ثابت في الشرع يقتضي سلطة، أحسن، والله أعلم، وعرفه الشيخ علي الخفيف مما استخلصه من أقوال الفقهاء بأنه: كل ما هو ثابت ثبوتاً شرعياً أي بحكم الشارع وإقراره، وكان له بسبب ذلك حمايته. الخفيف، الملكية في الشريعة الإسلامية مع مقارنتها بالقوانين العربية، معهد البحوث والدراسات العربية، ج1 ص6، وعرفه الشيخ مصطفى الزرقا بأنه: اختصاص يقر به الشرع سلطة أو تكليفاً. الزرقا، نظرة عامة في فكرة الحق والالتزام وهي باب تمهيدي لنظرية الالتزام العامة في الشريعة الإسلامية، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الثانية، 1368هـ-1949م، ص11.
(57)    إبراهيم، علم أصول الفقه، مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1433هـ/2012م، ص29. وقد ذكر تعاريف عدة منها: ما يذم شرعاً تاركه قصداً مطلقاً، ومنها ما توعد بالعقاب على تركه، ص29.
(58)    التكييف القانوني الوضعي دار حول ثلاث وجوه هي:
أولاً: الانتخاب حق شخصي
وفقاً لهذا الرأي فإن الانتخاب يثبت كحق شخصي لكل من يملك صفة المواطن ويقوم هذا الرأي على أساس أن المساواة بين الأفراد تشمل المجالين المدني والسياسي أي المساواة في الحقوق المدنية والسياسية على أساس أن كل فرد من أفراد الشعب يملك جزء من السيادة الشعبية وبالتالي فإن الانتخاب حق لكل فرد لممارسة الجزء الذي يملكه من السيادة وعلى هذا الأساس فإن الانتخاب حق طبيعي لكل مواطن لا يمكن أن ينزع منه وبالتالي فإن التسليم بهذا الرأي يؤدي إلى عدم جواز تقيد الانتخاب بأية شروط أي باعتماد مبدأ الاقتراع العام كما أن الأخذ بكون الانتخاب حق يؤدي إلى أن المواطن له الخيار في استعمال هذا الحق أو عدم استعماله أي أنه لا يمكن القبول بفكرة التصويت الإجباري.
ثانياً: الانتخاب وظيفة
… برزت نظرية أخرى تذهب إلى أن الانتخاب وظيفة يؤديها المواطن نتيجة لانتمائه إلى الأمة صاحبة السيادة باعتبار أن السيادة هي ملك الأمة جميعاً بوصفها شخصية قانونية أي أن هذه السيادة لا تتجزأ ولا تتوزع بين الأفراد كما هو الحال في نظرية السيادة الشعبية…
ثالثاً: الانتخاب سلطة قانونية
يذهب أغلب الفقه الدستوري المعاصر إلى أن التكيف القانوني السليم للانتخاب يقضي باعتبار سلطة قانونية منحت بموجب القانون للناخبين لتحقيق المصلحة العامة لا لتحقيق مصالحهم الشخصية فالدستور وقانون الانتخاب هما اللذان يحددان مضمون هذه السلطة وشروط استعمالها واستناداً لهذا التكيف فإن للمشروع أن يعدل في شرط ممارسة الانتخاب وفقاً لمتطلبات المصلحة العامة…
يكون التصويت (الانتخاب)، (واجباً) طبقاً لنظرية سيادة الأمة حيث إن الأفراد لا يملكون على سبيل الاستئثار جزء من السادة، فإنهم عندما ينتخبون لا يستعملون حقاً خالصاً لهم بل يؤدون وظيفة ويكون طبقاً لهذه النظرية من حق الأمة التي هي صاحبة السيادة أن تضع شروطاً لممارسة هذه الوظيفة وبالتي تقيد عملية الانتخاب..
أما في نظرية سيادة الشعب يكون التصويت (الانتخاب)، (حقاً) حيث ترى هذه النظرية أن السيادة من حق الشعب وهو حاصل جمع كل أفراد شعب الدولة (المتمتعين بالحقوق السياسية)، وحينها لا يمكن لدولة أن تضع شروطاً لتقيد عملية الانتخاب. مفهوم الانتخاب وتكيفه القانوني، منشور على موقع الصالون السياسي الليبي: الصالون العام: المتندى السياسي بتاريخ الخميس 20 أكتوبر 2011، رابط الموقع http://123bader.ba7r.org/t20-topic.
(59)    أبو داود، سنن أبي داود، محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، صيدا – بيروت، ج3 ص36. قال الألباني: إسناده حسن صحيح. الألباني، مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى 1423هـ – 2002م، صحيح أبي داود – الأم، ج7 ص364.
(60)    ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص129-130.
(61)    الماوردي، الأحكام السلطانية، ص28.
(62)    أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص23.
(63)    محمد رشيد رضا، الخلافة، ص18.
(64)    وقد وقع على هذه الفتوى كل من: الشيخ عبد العزيز بن باز رئيساً، والشيخ عبد الرزاق عفيفي نائباً للرئيس، والشيخ عبد الله بن قعود عضواً، والشيخ عبد الله بن غيدان عضواً. وفي سؤال آخر:
وقد سئلت أيضاً اللجنة الدائمة عن حكم الانتخاب والترشيح في بلد تحكم بغير شريعة الله:
س: هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله؟
فأجابت اللجنة بـ: “لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة لا تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة”. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، جمع وترتيب: أحمد بن عبد الرزاق الدويش، رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء – الإدارة العامة للطبع – الرياض 23/406-407.
(65)    يقول عبد الله الرحيلي: بالإخلاص والفقه في الدين تُحَلُّ مشكلات المسلمين. هذه حقيقة ينبغي لنا، نحن المسلمين، اليوم الإيمان بها، ومحاسبة أنفسنا عليها.
وذلك لأن الإخلاص يَدْفع المرء إلى ما يلي:
إلى العمل. وإلى اختيار العمل النافع. وإلى تمحيص النية الصالحة من وراء العمل. وإلى إتقان العمل، وإعطائه ما يستحقه من عناية.
والفقه في الدين يدفع المرء إلى ما يلي:
إلى وجه الصواب في العمل. وإلى التفريق بين الخطأ والصواب في الأعمال. وإلى التفريق بين المنكر والمعروف. وإلى التمييز بين الأفضل والمفضول. وإلى المقبول والمردود من الأعمال، في ضوء أدلة الشرع على مراد الشارع. الرحيلي، طريقك إلى الإخلاص والفقه في الدين، دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى، 1421هـ/2001م، ص11.
(66)    البخاري، صحيح البخاري، باب بدء الوحي، حديث رقم (1)، ج1 ص6.
(67)    البخاري، صحيح البخاري، باب إذا اصطلحوا على صُلح جَوْر فالصلح مردود، حديث رقم (2697)، ج3 ص184.
(68)    وقد بوب البخاري بهذا في صحيحه فقال: “باب: العلم قبل القول والعمل: لقول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فبدأ بالعلم “وأن العلماء هم ورثة الأنبياء، ورَّثوا العلم، مَن أخذه أخذ بحظ وافر، ومن سلك طريقاً يطلب به علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنة” وقال جل ذِكْره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43]، {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين”، “وإنما العلم بالتعلم”، وقال أبو ذر: “لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه – ثم ظننت أني أنْفِذُ كلمةً سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتُها” وقال ابن عباس: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] “حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره”. البخاري، صحيح البخاري، ج1 ص160.
(69)    النووي،المجموع شرح المهذب، دار الفكر، ج1 ص17.
(70)    عدد من المختصين بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد، إمام وخطيب الحرم المكي، نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الرابعة، ج2 ص140.
(71)    الرحيلي، طريقك إلى الإخلاص والفقه في الدين، دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى، 1421هـ/2001م، ص13.
(72)    الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الناشر: السعادة – بجوار محافظة مصر، 1394هـ/1974م، ج7 ص287.
(73)    مسلم بن الحجاج، المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (صحيح مسلم)، حقق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج4 ص2090.
(74)    النووي، شرح النووي على مسلم، ج17 ص43.
(75)    ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج28 ص442.
(76)    ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق: محمد المعتصم بالله البغدادي، الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الثالثة، 1416هـ – 1996م، ج1 ص506.
(77)    ابن الجوزي، صفة الصفوة، تحقيق: أحمد بن علي، الناشر: دار الحديث، القاهرة، مصر، الطبعة 1421هـ/2000م، ج2 ص313.
(78)    البخاري، صحيح البخاري، باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، ج4 ص37.
(79)    ابن حجر، فتح الباري لابن حجر، ج6 ص89.
(80)    ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج11 ص442.
(81)    الشوكاني، السيل الجرار، تحقيق محمد إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ، ج4 ص153.
(82)    سورة التوبة، آية19. وجه الدلالة: القرآن قابل بين عملين الأول: سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وهي أعمال مطلوبة وفيها مصالح عظيمة، والثاني: الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله تعالى، وهي أعمال مطلوبة وفيها مصالح عظيمة، ولكن بعد المقابلة بين العملين تبين أنهما لا يستويان، بل في الثاني من المصالح والمنافع ما ليس في الأول، وهذه المقابلة هي موازنة بين الفعلين.
(83)    سورة البقرة، آية217.
(84)    وجه الدلالة: في المثال السابق كانت المقابلة والموازنة بين مطلوبين أما في هذه الآية فالموازنة والمقابلة بين أمرين نهى الله عنهما:
الأول: عاب المشركون على المسلمين القتال في الشهر الحرام، وقد وقع ذلك خطأ فلم يدر الصحابة أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فعاب المشركون على المسلمين ذلك وقالوا: قتلتم في الشهر الحرام.
والثاني: الكفر بالله تعالى والصد عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وعند المقابلة بين الأمرين يتبين أنهما لا يتساويان، فالأول محرم فكيف إذا وقع خطأ، أما الثاني: أكبر حرمة عند الله والفتنة أكبر من القتل. وهذه الموازنة بين الأمرين كانت السند في ترجيح حكم على حكم، وكفى بذلك دليلاً.
(85)    جاء في موسوعة الويكيبديا على الشبكة العنكبوتية: “مقاطعة الانتخابات هي نوع من المقاطعة، وإحدى الوسائل المستخدمة من قبل مجموعة من الناخبين كاحتجاج سياسي، عندما يرى الناخب أن احتمالات تزوير الانتخابات قوية، أو أن النظام المشرف على العملية الانتخابية متحيز لمرشح بعينه، أو أن النظام السياسي المنظم للانتخابات يفتقد إلى الشرعية. في بعض الدول حيث التصويت إجباري، قد تعتبر المقاطعة نوع من أنواع العصيان المدني، ويكون الحل البديل لمؤيدي المقاطعة هو إبطال الأصوات عن طريق “الأصوات البيضاء” (ترك ورقة التصويت فارغة) أو اختيار خانة “أرفض كل الاختيارات” (إن تواجدت هذه الخانة).
(86)    الموسوعة الفقهية الكويتية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت، (من 1404-1427هـ)، ج2 ص317.
(87)    البخاري، كشف الأسرار شرح أصول البزدوي، ج4 ص383.
(88)    البخاري، صحيح البخاري، ج1 ص21.
(89)    وقد وقع على هذه الفتوى كل من: الشيخ عبد العزيز بن باز رئيساً، والشيخ عبد الرزاق عفيفي نائباً للرئيس، والشيخ عبد الله بن قعود عضواً، والشيخ عبد الله بن غيدان عضواً.
(90)    العتيبي، الانتخابات المعاصرة في ضوء الأدلة الجزئية والقواعد الكلية، موقع الدكتور سعد العتيبي.
(91)    النساء، آية58.
(92)    القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، تحقيق: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ-1964م، ج5 ص256.
(93)    ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص129-130.
(94)    قال الصنعاني: “وفي إسناده واةٍ إلا أن ابن نمير وثَّقه وحسَّن له الترمذي أحاديث”. الصنعاني، سبل السلام، دار الحديث، بدون طبعة وبدون تاريخ، ج2 ص666.
(95)    سورة القصص، آية26.
(96)    ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص12.
(97)    ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص12.
(98)    مسلم، صحيح مسلم، ج1 ص99.
(99)    أبو داود، سنن أبي داود، ج4 ص333. حكم الألباني: صحيح.
(100)    أبو داود، سنن أبي داود، ج3 ص321. حكم الألباني: إسناده حسن.
(101)    قال الحاكم: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”. الحاكم، المستدرك على الصحيحين للحاكم، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى، 1411هـ – 1990م، ج4 ص104.
(102)    سورة القصص، آية26.
(103)    الماوردي، الأحكام السلطانية، ص26. وابن جماعة، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، ص56.
(104)    ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ج28 ص255.
(105)    البخاري، صحيح البخاري، باب إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، حديث رقم (3062)، ج4 ص72.
(106)    ابن تيمية، السياسة الشرعية،

(المصدر: موقع المسلم)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى