كتب وبحوث

الأصول العامة للنظام السياسي الإسلامي

إعداد محمد بن شاكر الشريف

للنظام السياسي الإسلامي عدة أصول أو قواعد يقوم عليها نتحدث عنها بشيء من الإيجاز:

الأصل الأول: النظام السياسي الإسلامي نظام شرعي:

 وهذا يعني أن الكلمة العليا في الدولة والمجتمع – وفي كل شيء – إنما تكون لله تبارك وتعالى وحده. ومظهر الإقرار بذلك والالتزام به: هو القبول والإقرار والتقيد بالشرع المنزل كتاباً أو سنة، والاتباع له والدوران في فلكه وعدم الخروج عليه. وأدلة ذلك كثيرة جداً.

وفي الاصطلاح المعاصر يستخدم الكتاب المسلمون اصطلاح «الحاكمية» للدلالة على ذلك، وهو اصطلاح مناظر لاصطلاح «السيادة» الذي يستخدم في الدراسات القانونية الدستورية، ومضمون ذلك هو: تلك السلطة المطلقة التي لها وحدها الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة بحيث لا توجد في المجتمع سلطة أخرى تساويها فضلاً عن أن تعلو عليها[1].

وصاحب الكلمة العليا في أمر المجتمع والدولة – وكل شيء – هو الله تبارك وتعالى ويترتب على ذلك الأصل أن جميع التشريعات أو الأحكام الكلية أو التفصيلية المتعلقة بالنظام السياسي في الإسلام – أو غيره من الأمور – لا بد أن تكون مدلولاً عليها بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة.

ويترتب على ذلك الأصل انفراد الكتاب والسنة وما يستنبط منهما بوضع تلك التشريعات، وبطلان التشريعات أو الأحكام المستمدة من غير الكتاب والسنة.

ويترتب على ذلك أيضاً كفاية الكتاب والسنة واشتمالهما على جميع التشريعات والأحكام التفصيلية المحتاج إليها في النظام السياسي.

ويترتب عليه أيضاً أن تقرير الحقوق والالتزامات الأساسية في النظام السياسي الإسلامي إنما يتم بسلطة الشريعة، ولا تكون للدولة أي سلطة أو حق في تغييرها أو إلغائها.

ويترتب على هذا الأصل أيضاً أن أساس السلطة السياسية للإمام إنما هو راجع إلى الشريعة وليس لمجموع الأمة أو الشعب – كما حاول البعض أن يفصل بين السيادة والسلطان فيجعل السيادة لله بينما السلطان للأمة[2] -، وهذا في رأيي يعد محاولة توفيقية للتوفيق بين ما تدل عليه الشريعة، وبين ما تنادي به الديمقراطية، فحاول من حاول الفصل بين السيادة والسلطان، وأكبر الحجج التي احتج بها هؤلاء في القول بأن السلطان للأمة هو قولهم: إن الإمام لا يصبح إماماً إلا بتولية الأمة له، ولا يستمد سلطانه إلا من مبايعتها له، وأن الأمة هي التي تعزله. ونحن لا نقلل من مكانة الأمة في النظام السياسي الإسلامي كيف ذلك وهي لها دور عظيم في النظام السياسي الإسلامي، لكن ذلك لا يجرنا إلى القول بأن السلطان للأمة، ولا أن نجاري الأفكار الوافدة مع إجراء بعض التحويرات على الألفاظ المعبرة عنها.

وفي ردّ سريع ووجيز على هؤلاء نقول: إن ما تقولون منقوص بأمور كثيرة مثل:

أولاً: إجازة العلماء لإمامة المتغلب، فإنه لو غلب إنسان بقوته على الإمامة وسيطر على الأوضاع بحيث لا يتمكن أحدٌ أو طائفة من الناس من زعزعته عن منصبه، فإن العلماء يعترفون بإمامته والمتغلب لم تتم له البيعة من الأمة بل قامت ولايته على غلبة الأمة على أمرها.

لكن أهل العلم إذ يقرون بإمامة المتغلب، فإنما يقرون بها على أساس أنه قائم بحراسة الدين وسياسة الدنيا به، وإن شاب ولايته بعض الجور أو المعاصي.

وحينئذ نقول لهؤلاء: إن السلطان إنما هو للشريعة، وذلك لأن الإمام المتغلب في هذه الحال لم يستمد سلطانه أو شرعيته من الأمة وإنما استمدها من تحكيمه للشريعة وعدم الخروج عليها.

ولكن لو افترضنا حدوث العكس بمعنى أن والياً جاء إلى الولاية بناء على رضا الأمة به وبيعتهم له، لكن ذلك الوالي لم يحتكم إلى الشريعة بل خرج عليها، فإن ولايته والحالة هذه باطلة شرعاً برغم مجيئه عن طريق بيعة الأمة، وهذا يدل على أن السلطان للشريعة وليس للأمة.

ثانياً ثبوت الإمامة لشخص صالح لها بعهد الإمام السابق وهذا أمر متفق عليه والإمام ليس هو الأمة.

ثالثاً: ثبوت الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد، وهذا أيضاً أمر متفق عليه، وأهل الحل والعقد ليسوا هم الأمة.

ثم إنا نقول: إن الأمة وهي تقيم الإمام أو تخلعه ليس لها أن تفعل ذلك بمجرد الإرادة أو المشيئة؛ لأنه لا يجوز لها أن تعقد الإمامة إلا لمن تحققت فيه شروطها وامتنع عنه ما يمنعها، وكذلك العزل، فإنه لا يجوز لها أن تعزل من شاءت بمجرد الرغبة في التغيير، بل لا بد من وجود سبب العزل المقتضي له، ولما كانت تلك الشروط والموانع في حالة التعين أو العزل إنما مردها إلى الشريعة كان هذا دالاً على أن السلطان في ذلك للشريعة وليس للأمة، وإنما دور الأمة في هذه الحالة هو بيان من يستحق أن تمنح له هذه السلطات، حتى يكون اختيارها قاطعاً للنزاع والمشاحنات بين الناس، فالبيعة التي تعطيها الأمة للإمام ليست هي المنشئة للسلطان الحاكم – حتى يقال إن السلطان للأمة – وإنما هي لبيان استحقاقه لهذه السلطات وقطعاً للتنازع أو الشجار حولها. فدور الأمة إذن في بيان أو تحديد من تنطبق عليه الشروط، وهي في هذه الحالة في مقام تحقيق المناط، وليست في مقام منشئ المناط.

وكون الشريعة هي التي تحدد سلطات الحاكم وصلاحياته وحدوده يقيم التوازن بين شقي الأمة: الحكومة والشعب.

فذاك التحديد يجعل الحاكم مقيداً بإطار لا يستطيع الخروج عنه ولا الانفكاك منه، فلا يستطيع أن يدعي لنفسه سلطات غير سلطاته المحددة شرعاً، وبذلك يكون هذا كبحاً لجماح السلطة الاستبدادية عند كثير من الناس.

وكذلك فإن هذا التحديد يؤدي إلى كبح جماح الأغلبية أو الأقلية لو أنها أرادت أن تقلص من سلطات الحاكم أو أن تزيد فيها، فإن ذلك التحديد مانع من الزيادة أو النقصان.

الأصل الثاني: التكامل بين الحكومة والشعب:

«وذلك لأنهما متوازيان في الاتجاه نحو تحقيق المقاصد الشرعية، ولذلك فهما معتبران سوياً من الأمة، ولا تقوم بينهما علاقة الترصد والتعارض التي تقوم بين الشعب والحكومة في القانون الوضعي»[3]. فالجميع – حكومة وشعباً – يؤمنون بعقيدة واحدة ويسعون إلى تحقيق هدف واحد من خلال شريعة واحدة، وهذا من شأنه أن يوجد قدراً كبيراً من التوافق في الفكر والفهم وفي طريقة علاج الأمور وفي اختيار الوسائل المفضية إلى ذلك، ولا يوجد بينهم من الخلاف – والحالة هذه – إلا ما لا بد منه من الاختلاف أو التباين بين الناس في القدرة على الفهم، والدليل على ذلك التكامل بين الحكومة والشعب أن الجميع مطالبون بتنفيذ الأحكام الشرعية وتحقيق الأهداف التي دعت إليها الشريعة، وأوجبت عليهم التعاون من أجل الوصول إلى ذلك، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: ٢]، {وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].

 ويترتب على ذلك التكامل الحب والمودة والرحمة بين الحكومة والشعب والسعي المشترك والتعاون على تحقيق الأهداف.

وانطلاقاً من التكامل بين الحكومة والشعب يظهر لنا ثلاث دوائر كبرى يتم من خلالها تحقيق ذلك التكامل (وسائل تحقيق التكامل):

الدائرة الأولى: الشورى، حيث يتبادل الحاكم مع رعيته من أهل العلم والفقه والخبرة الرأي في بعض المسائل، وذلك للوصول إلى أفضل أو خير الحلول، فيستمع الحاكم إلى رعيته، وتبذل الرعية المستشارة غاية جهدها لتقديم أفضل ما تراه، والحاكم ينظر في هذه الآراء بقلب متفتح لقبول الصواب عما قدم من آراء لأنه يعلم أن الدافع لتلك الآراء هو إرادة الخير للحاكم والمحكوم ولولا التكامل بين الحكومة والشعب لما كان ذلك.

الدائرة الثانية: النصيحة، والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح إما عن طريق دلالته على ما ينبغي فعله وحضه على فعله وتيسير أسبابه والإعانة عليه وإما عن طريق دلالته على ما ينبغي تركه واجتنابه وحضه على ذلك والمعاونة فيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم»[4]. وقال صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَالنُّصْحُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ»[5].

 وقد ذكر الله في حق كثير من الأنبياء – وهم أئمة قومهم – أنهم ناصحون لأقوامهم، فقال في حق صالح: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 79]، وقال في حق شعيب: {وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} [الأعراف: 93]، وقال في حق نوح: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} [الأعراف: 62]، وقال في حق هود: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68].

وقال تعالى في حق المؤمنين غير القادرين على الجهاد في سبيل الله بأبدانهم أو أموالهم: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91]، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطْها بنصحه لم يجد رائحة الجنة»[6].

الدائرة الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو يهدف إلى نشر الخير وإذاعته وإشاعته، والتضييق على المنكر ومن ثم إزالته، وهو واجب يتكامل فيه الجميع بغرض تحقيق ذلك الهدف النبيل.

هذه الدوائر الثلاث يعمل من خلالها ذلك الأصل (التكامل)، ويؤلف بينها في نسيج واحد، ولكل واحدة من تلك الدوائر أحكام كثيرة تفصيلية ليس الآن مجال الحديث عنها.

الأصل الثالث: التوازن بين الحكومة والشعب:

كل من الشعب والحكومة قوة، وقد تكون بعض القوى أكبر من الأخرى، وقد يحدث تحت تأثير تلك القوى المتزايدة أن يطغى طرف على طرف، لذلك كان من أصول النظام السياسي في الإسلام التوازن بين القوى المكونة للأمة، وهي الحكومة والشعب.

ولهذا التوازن مظاهر ووسائل نذكر منها:

١- ثبات التشريع الإسلامي وعدم قابليته للتعديل أو التبديل أو التحوير أو الإلغاء من قبل أي فئة من الناس سواء كانوا حكاماً أو محكومين، وسواء كانوا قلة أو كثرة. كذلك عدم جواز تعطيل التشريع الإسلامي أو تعليق العمل به فترة من الزمن تحت أي ظرف من الظروف، مما يمنع أي قوة من قوى الأمة من استغلال نفوذها أو مركزها أو ثقلها في إحداث تشريعات أو تغييرات فيها تؤدي إلى تثبيت أوضاعها وإضعاف الآخرين.

٢- كفالة شرعية التشريعات (قوانين – نظم – لوائح):

حيث لا يقبل التشريع إلا إذا كان مشهوداً له بالشرعية وذلك عن طريق دلالة الكتاب والسنة على صحته (والشريعة لا تحابي أحداً مما يكفل التوازن بين الجميع)، ويترتب على كفالة شرعية التشريعات إبطال كل تشريع يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع، فكل حكم خالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو منقوصٌ، والقاضي له الحق بل يجب عليه نقض مثل ذلك الحكم، وإذا كان هذا في باب القضاء، وهو قضاء في مسألة معينة، أو واقعة عين، فكيف إذا كان الأمر في تشريع عام يُحكَم به فيما لا ينحصر من الوقائع.

ولا شك أن النقض في مثل تلك الحالة يجب من باب أولى، وهذا أيضاً مما يكفل التوازن بحيث لا يتمكن أحدٌ مهما كان موقفه من استغلال التشريع في إحداث خلخلة في توازن القوى في المجتمع المسلم.

٣- إمكان إنشاء محكمة مستقلة للفصل في النزاع الذي قد ينشب بين الأمة أو بعضٍ منها وبين الحكومة أو السلطة، والأصل الشرعي لهذه المحكمة يمكن أخذه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 59]، وهذا الرد إلى الله والرسول الذي أرشدت إليه الآية عند التنازع يمكن أن يستفاد منه ما تقدم ذكره من وجود محكمة مستقلة متخصصة في مثل تلك النزاعات، ولا شك أن هذا يمثل ضمانة مهمة لإحداث التوازن المطلوب بين السلطة والشعب.

والأصل التاريخي أو الفعلي من سيرة الصحابة رضوان الله عليهم لتلك المحكمة: حادثة التحكيم المشهورة في النزاع الذي نشب بين الحكومة ممثلة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين بعض الأمة ممثلة في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.

ولا يشترط أن تكون هذه المحكمة ذات تشكيل ثابت، بل من الجائز أن يتم تشكيلها فقط عند الحاجة، وذلك عن طريق اختيار قضاة من قبل الطرفين المتنازعين، ثم تنفض المحكمة بانتهاء السبب الداعي إلى تشكيلها. والدليل على ذلك هو ما استدل به الحبر عبد الله بن عباس ثم رده على الخوارج عندما استدل بقول الله تبارك وتعالى:{وَإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، وبرغم أن هذا النص في الخلاف بين الزوجين، لكن إذا كان الخلاف بين فردين يلقى مثل تلك الرعاية والعناية من الشريعة لمحاولة حله على أحسن الوجوه، فمن باب أولى إذا كان الخلاف بين طائفتين عظيمتين من المسلمين، أو بين السلطة وطائفة؛ فمن باب أولى أن يلقى الرعاية نفسها.

 ٤- كفالة حق الأفراد في تكوين قناعاتهم الشخصية في ما يعن لهم من أمور أو مشكلات، ما دام أن ذلك في إطار الشرع، وحقهم في تكوين أفكارهم الخاصة، ولا يجبر أحد على أن يرى ما تراه السلطة، ما دام أن رأيه مما يسوغ القول به في الشرع، بل له الحق في إعلان ذلك وشرحه للناس والعمل على نشره ما دام أنه لم يخرج بذلك على الجماعة.

وهذا أيضاً يمثل توازناً بين السلطة والشعب، وكابحاً لجماح السلطة مِن أن تفرض وجهة نظرها على الشعب، وتلتزم باعتناقها[7].

والأدلة على ذلك كثيرة، منها:

 ما رواه البخاري تعليقاً موقوفاً على أبي ذر أنه قال: «لو وضعتم الصمصامة على هذه – وأشار إلى قفاه – ثم ظننتُ أني أُنفذ كلمة سمعتها من النبي قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها»[8]، وذلك أنه كان جالساً عند الحميرة الوسطى وقد اجتمع عليه الناس يستفتونه، فأتاه رجل فوقف عليه، ثم قال: ألم تُنه عن الفتيا؟ فرفع رأسه إليه فقال: أرقيبٌ أنت علي؟ لو وضعْتم… إلى آخر قوله[9].

قال ابن حجر: «وفيه دليلٌ على أن أبا ذر كان لا يرى طاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا؛ لأنه كان يرى أن ذلك واجبٌ عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه»[10].

 وما رواه البخاري بسنده عن مروان بن الحكم قال: «شهدتُ عثمان وعلياً رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي، أهل بهما: لبيك بعمرة وبحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي لقول أحد»[11].

قال ابن حجر: «وفي قصة عثمان وعلي من الفوائد: إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره، ومناظرة ولاة الأمور وغيرهم في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد مناصحة المسلمين»، إلى أن قال: «وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهداً آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك»[12].

 ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم واللفظ له أن عمران بن الحصين قال: «نزلت آية المتعة في كتاب الله [يعني متعة الحج] وأمرنا بها رسول الله، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج، ولم ينْهَ عنها رسول الله حتى ماتَ، قال رجلٌ برأيه بعدُ ما شاء»[13]، والمراد بالرجل هنا – كما دلت عليه روايات أخر هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك أن عمر كان ينهى عن متعة الحج، وهو إذ ذاك أمير المؤمنين ولم يمنع هذا عمران بن الحصين من عدم قبول كلام أمير المؤمنين لما رآه يخالف الشرع عنده.

 ومن ذلك ما كان من أمر علي رضي الله عنه مع الخوارج – في أول أمرهم – حينما أنكروا عليه في تفاصيل الحكومة بينه وبين أهل الشام، ولم يوافقوه على رأيه، فقال لهم علي رضي الله عنه: «لكم علينا ثلاثة: أن لا نمنعكم من المساجد، ولا من رزقكم من الفيْء، ولا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فساداً»[14]. وذلك قبل أن يخرجوا ويتحيزوا إلى مكان وقبل أن يشهدوا على مخالفيهم بالكفر ومنهم علي رضي الله عنه.

فأمير المؤمنين علي رضي الله عنه لم يجعل اختلاف الخوارج معه مبرراً للحجر عليهم، بل قال لهم مقالته السابقة، ولم يقاتلهم حتى سفكوا الدم الحرام، وخرجوا على جماعة المسلمين. بل إن الآية التي تأمر بطاعة أولي الأمر فيها دلالة على كفالة ذلك الحق بما يشير إليه قوله تعالى بعد الأمر بطاعة أولي الأمر: {فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].

والوقائع في كفالة حقوق الأفراد في الاختلاف مع حكوماتهم بالشروط التي بيناها كثيرة ونكتفي بما ذكرناه.

٥- المساواة: الأصل أن الجميع – حكاماً ومحكومين – أمام الشريعة يقفون على قدم المساواة، لا يتميز أحدٌ عن أحد بشيء إلا بما ميزته به أحكام الشريعة نفسها، مما يكفل التوازن على أوسع صوره وأرحب مجالاته.

الأصل الرابع: وجوب طاعة الإمام في غير معصية:

وقد دلت على ذلك الأصل أدلة كثيرة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»[15].

ويترتب على ذلك الأصل: وجوب طاعة الإمام في طاعة الله ورسوله، وكذلك طاعة الأمراء الذين يعينون من قبلهم. وطاعة الأئمة فيما لم يعلم أنه معصية بالنص وطاعتهم في مسائل الاجتهاد، كما يترتب على ذلك عدم الكلام أو إذاعة ما من شأنه أن يذهب بهيبة الإمام أو يعمل على نقض العمل بطاعته، كما يترتب على ذلك حرمة منازعة الإمام أو الخروج عليه.

لكن طاعة الإمام في النظام الإسلامي ليست مرتبطة بشخص الحاكم، وإنما ترتبط الطاعة بالأحكام الشرعية التي جعلت الطاعة – حقاً – لمن يلتزم بالكتاب والسنة، ولذلك فإن الشريعة تقر بحق الأمة – بل بوجوب – نصح الحكام وإرشادهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر، والإنكار عليهم متى كان ذلك لازماً، بل وتقر بحق الأمة في عزل ولاتها متى استوجب الوالي ذلك، بل وتقر بحقها في مقاومتهم والخروج عليهم إذا تحققت موجبات ذلك وانتفت موانعه وهذه القيود على الطاعة تمثل أيضاً نوعاً من التوازن.

الأصل الخامس: واحدية الأمة والقيادة العليا:

 فالأمة مهما تعددت أجناسها واختلفت لغاتها، وتنوعت ألوانها، وتناءت ديارها هي أمة واحدة، يربط بين جميع أفرادها رباط العبودية الحقة لله الواحد القهار، وقد دل على ذلك الأصل قوله تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، قال ابن كثير رحمه الله: «أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف»[16]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «هذا كتاب من محمد النبي رسول الله من المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس»[17].

ويترتب على ذلك مناصرة الأقليات المسلمة في البلاد غير الإسلامية: {وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، ويترتب على هذا الأصل عدم جواز تفريق الأمة أو تفتيتها تحت أي من المسميات، ومنع كل الصور والأشكال التي تؤدي إلى ذلك، ووجوب اتخاذ كل الوسائل والسبل اللازمة لجعل الأمة الإسلامية أمة واحدة، وإن توحد القيادة العليا للأمة الإسلامية كلها لهو من أهم هذه السبل والوسائل، وقد دل على ذلك أيضاً عدد من النصوص الشرعية، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»[18]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ستكون خلفاء فتكثر، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا بيعة الأول فالأول»[19]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الأعظم الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤول عن رعيته…»[20]، إلى غير ذلك من النصوص الشرعية. ويترتب على ذلك ما يسمى بالقيادة الجماعية، وتحديد مكانة جميع الهيئات المعاونة للإمام ومنزلتها في النظام السياسي، وتحديد المسؤوليات.

الأصل السادس: أن غاية النظام السياسي في الإسلام هي صلاح الدنيا وفلاح الآخرة:

ليست الغاية هي مجرد صلاح الدنيا وتحقيق رفاهية المجتمع الإسلامي فحسب، وإنما لا بد من أن يجعل النظام فلاح الآخرة نصب عينيه، بل هو المقصود الأسمى من هذا النظام، ويدل على ذلك الأصل قوله تعالى: {الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، ويترتب على ذلك أن يكون من أهم واجبات النظام السياسي الحفاظ على عقيدة الأمة سالمة من كل تغيير أو تحريف، ووجوب اتحاذ الوسائل التي تكفل المحافظة على ذلك، ويترتب على ذلك أيضاً العمل بالشريعة في كل المجالات، ووجوب السعي نحو تيسير سبل الخير والوسائل اللازمة لتحقيق صلاح دنيا المسلمين وتحسين أوضاعهم وجعلهم في المكانة العليا بإزاء مخالفيهم من الكفار. ويترتب على ذلك الأصل أيضاً أنه إذا حدث تعارض بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، قُدِمَ أمرُ الآخرة على أمر الدنيا مع عدم إهمال أمر الدنيا التي بها قوام حياة المسلمين.


[1] انظر في تعريف السيادة:

– نظرية السيادة، د. صلاح الصاوي، ص14، دار طيبة، ط1، الرياض 1412هـ.

– قواعد نظام الحكم في الإسلام، د. محمود الخالدي، ص24، مكتبة المحتسب، ط3، 1983م.

– مبادئ نظام الحكم في الإسلام، د. عبد الحميد متولي.

[2] انظر في ذلك: قواعد نظام الحكم في الإسلام. د. محمود الخالدي، ص97، حيث جعل القاعدة الثانية من قواعد نظام الحكم تقوم على أساس أن السلطان للأمة، وانظر: جماعة المسلمين مفهومها وكيفية لزومها في واقعنا المعاصر، د. صلاح الصاوي، ص55، دار الصفوة بالقاهرة بالاشتراك مع الدار السنية بمكة المكرمة، ص1، 1413هـ.

[3] مجلة المسلم المعاصر: العدد الخامس عشر، ص172، د. مصطفى كمال وصفي.

[4] رواه مسلم، كتاب الإيمان.

[5] سنن ابن ماجه.

[6] صحيح البخاري: كتاب الأحكام باب من استرعي رعية فلم ينصح، فتح الباري (13/135).

[7] لكن ينبغي التفريق بين هذه المسألة، وبين إذا ما أخذت السلطة برأي أو قول من الأقوال التي يسوغ القول أو العمل بها في مسألة تنفيذية، فهنا يجب على الشعب الطاعة في تنفيذ العمل المنوط به المترتب على تلك المسألة، وإن كان لا يجب عليه الاعتقاد بصواب ذلك القول أو الاعتقاد بصواب رأي السلطة.

[8] صحيح البخاري، كتاب العلم باب العلم قبل القول والعمل – فتح الباري (1/192)، والصمصامة: السيف الصارم الذي لا ينثني.

[9] انظر: فتح الباري (1/194).

[10] فتح الباري (1/194).

[11] صحيح البخاري كتاب الحج باب التمتع والقران والإفراد بالحج – فتح الباري (3/493).

[12] فتح الباري ( 2/497).

[13] صحيح البخاري، التفسير: باب «فمن تمتع بالعمرة إلى الحج» – فتح الباري (8/34)، ومسلم – شرح النووي (8/205).

[14] فتح الباري ( 12/297).

[15] كتاب الأحكام باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية – فتح الباري  (13/130).

[16] انظر: تفسير ابن كثير (2/852)، وقد أورد ابن كثير في هذا الموضوع طائفة من تلك الأحاديث.

[17] انظر: مجموعة الوثائق السياسية، د. محمد حميد الله، ص10، وانظر تحريمه لذلك.

[18] أخرجه مسلم – شرح النووي (12/337 ).

[19] أخرجه مسلم – شرح النووي (12/320).

[20] أخرجه البخاري – فتح الباري  (13/119).

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى