تقارير وإضاءات

التصوف والتشيع في السنغال .. من يَحمِلُ من..؟

إعداد د. محمد خليفة صديق

مقدمة:

بدأ دخول الإسلامِ إلى السِّنغالِ منذ بواكير دخول الإسلام لقارة إفريقيا، وقد انتشر في تلك البقاع بسهولة ويسر، وتقبّله السكان بسلاسة، حتى بلغت نسبة المسلمين في هذا البلد 96% من إجمالي عدد السكان البالغ 13,7 مليون نسمة، وفقا لإحصاء عام 2013م، والنسبة الباقية من السكان تتوزع بين نصراني وملحد ووثني. وينشط في السنغال عدد كبير من الجماعات الإسلامية، وهي: الصوفية بطوائفهم المختلفة، وجماعة عباد الرحمن، والجماعة السلفية، ولكن أكثرية مسلمي السنغال من أتباع الصوفية من أصحاب الطرق كالقادرية، والتيجانية، والمريدية، والشاذلية وغيرها، واشتهر من مشايخهم الشيخ أحمد بمبا، والحاج عمر الفوتي تال، والحاج مالك سي، وغيرهم، كما أن للشيعة الاثنى عشرية وجودا في السنغال.

يلاحظ أن الخطاب الدَّعويّ الصوفي لا يهتم بتعليمِ إنسان السنغال تعاليم الإسلام من منبعه الصافي؛ ولكن قصارى همِّهِ أن يربطَهُ بفُلانٍ، أو علاَّنٍ من المشائخِ، ويربِّي فيهم التقديس للشيوخ، وهناك أنماطٌ دعوية للصوفية تتمثل في إقامةِ الموالد، وهذه لا حصرَ لها في السنغالِ، وتُطلق عليها باللغة الولوفية: (غَامُّو)، و(ماغَّالْ) بمعنى التعظيم؛ فهم يقولون نحنُ نعظِّمُ الشيخَ، أو الرسول من خلالِ إقامةِ الموالد المذكورة. ويتذاكرون فيها نُتَفاً من أحداثِ السيرة الشريفة، أو السيرة الذاتية لشيخِهم، علاوةً على رفعِ الأصواتِ بالقصائدِ السَّائدةِ عندَ الطَّريقةِ المُعينة. وقد سادَ مثل هذا الصنف؛ لدرجةِ أن جميع الطرائق الصوفية لديها مناسبات عديدة دورية، يتم الإعلانُ عنها في الراديو، والتلفزيون، والصحف، والمجلات، ووسائل الاتصال المتاحة، كما لا يغيبُ دورُ المُنادِي في الأسواقِ، والتجمعات العامة؛ يجهرُ بصوتِهِ، أو من خلالِ مكبرات الصوت مُشهِراً بالمناسباتِ، والأعيادِ المذكورة لدى الطرائق الصوفية المختلفة. وهناك إعلاميون متخصصون في إعلانِ هذه المناسباتِ، ولهم أسلوبُهم المعروف في استمالةِ القلوبِ.

كما ساهمت ثقافة خدمة شيوخ التصوف من قبل الأتباع في السنغال في توسيع إقطاع مشايخ الصوفية الزراعي، مما حولهم إلى مستثمرين كبار بفضل الأموال الطائلة التي يجنونها من خلال عمل الأتباع، وما زال بعض مشايخ الصوفية يطلبون من أتباعهم زراعة وحصاد حقولهم، فيهرول هؤلاء المساكين إلى المزارع طلبا للثواب، أو ثناء الشيخ عليهم، وقد ورد في كتاب: إرواء النديم من عذب حب الخديم سيرة الشيخ أحمدو بمب، لمؤلفه الشيخ: محمد الأمين جوب الدغاني أن الشيخ بمب كان يحث المريدين على العمل تسويغا لاستغلال طاقاتهم في العمل حتى يتفرغ الشيوخ للعلم.

 لكن ذلك تغير كثيرا في السنوات الأخيرة، ويلاحظ الآن في المؤسسة المريدية، أن بعض المشايخ يساعدون أتباعهم بالمال، ويساعدونهم على السفر إلى أوروبا أو أمريكا بعد توفير جوازات لهم من الحكومة، أو تأشيرات من السفارات الغربية لِما يتمتعون به من النفوذ لدى رجالات الدولة، ولدى بعض أعضاء السلك الدبلوماسي الغربي في العاصمة داكار.

الصوفية والدور السياسي في السنغال:

أما عن الدور السياسي للتصوف فيلاحظ أن السياسيين السنغاليين يبحثون عن دعم مشايخ وأتباع الصوفية لهم، حيث يشكل الصوفية أكثر من 90% من إجمالي سكان السنغال من المسلمين، مما يؤكد على الأثر السياسي للطرق الصوفية وذلك منذ استقلال السنغال في عام 1960م، وتجمع الطرق الصوفية في السنغال بين الولاء الروحي والانتماء السياسي، وهي ثنائية تجعلها قطبا وازنا وسندا لا غنـى عنه للأتباع وللدولة على حد سواء، وفي هذا السياق تمثل الطريقة التيجانية ما نسبته 51% من السكان فيما يبلغ عدد أتباع الطريقة المريدية، 3,5 ملايين نسمة ما يجعلهما قبلة لا يمكن للسياسيين تجاوزها إذا أرادوا الظفر بأصوات الأتباع.

وبالرغم من علمانية الدولـة وفقا للدستور، فإن دوائر القرار السياسي تعمل على عـدم إغضاب المؤسسة الدينية في السنغال ممثلة في الطرق الصوفية وزعمائها الروحيين لضمان أصوات الناخبين، والذين يحصلون في مقابل ذلك على الكثير من الامتيازات مثل الحماية الاجتماعية والصحية، والتكفل بحل كافة مشاكلهم، وتأمين الدعم لهم في مجال التوظيف الحكومي والمناصب الانتخابية بفضل ما يتمتع به قادة تلك الطرق من نفوذ وتأثير روحي عريق.

كما تعتبر طاعة الأتباع لمشايخهم واجباً دينياً في سياق “طاعة ولي الأمر” ما يجعل لهذا الأمر تأثيرا على الساحة السياسية، ولعل هذا ما دفع معظم السياسيين الطامحين لرئاسة الدولة إلى إعلان انتمائهم إلى الطائفة المريدية، ولكن حاليا يمكن القول إن تأثير المال السياسي والحضور الروحي في الحياة السياسية قد تراجع كثيرا خلال العقدين المنصرمين في السنغال بفضل تزايد الوعي وانتشار الحركات المدنية وظهور مجتمع مدني ناشط وحاضر بفعالية كبيرة في المشهد السياسي، لكن التأثير المعنوي للزوايا الصوفية ما زال متجذرا بقوة في هذا البلد، وأغلب أولئك المشايخ اليوم أقرب لمعسكر حزب الرئيس السابق عبد الله واد، منها للرئيس الحالي ماكي صال، وقد أعلن أغلب مشايخ الطرق الصوفية دعمهم لنجل واد، كريم واد، في الانتخابات الرئاسية المزمعة في 2019م.

ورغم عمق الوجود الصوفي في التربة السنغالية، يرى بعض الباحثين أن هناك تحديات تواجه الصوفية هناك، منها: المثقفين الغربيين الذين تركوا جميع ما عرفوه من المناهج ودخلوا بثقافتهم الغربية في الحياة الروحية، مما شكل تهديدا للفكر الصوفي، بجانب تحدي توارث المشيخة، حيث يتولى ابن الشيخ المشيخة بعد أبيه بغض النظر عن مؤهلات هذا الابن. ومن أبرز المشكلات كذلك مشكلة الجهل وضعف المستوى التعليمي لدى أتباع الطرق الصوفية.

التصوف السنغالي والتشيع.. أي علاقة؟

البداية الحقيقية لظهور الشيعة الإثني عشرية في السنغال  كانت في أواسط عام 1969م بدخول اللبناني عبد المنعم الزين، والذي جاء خصيصا لنشر مذهب الرافضة وسط الشباب السنغالي، وقد صرح بهدف مجيئه السنغال فقال: (ومما ادخرته ليوم الجزاء ما منّ به الله تعالى عليّ أوائل عملي من اقتناع بعض الشباب من أبناء السنغال بطريقة أهل البيت عليهم السلام, فأعلنوا ولاءهم للنبي وآله، وانخرطوا في مدارسنا في السنغال ولبنان وجامعة قم المقدسة ينهلون منها علوم أهل البيت حتى بلغ عددٌ منهم رتبة عالية في العلم، ثم رجعوا إلى أهليهم وقراهم يبثونهم ما عرفوه من عقائد وفقه والتفسير للقرآن الكريم والسنة الشريفة وغير ذلك من أنواع المعارف والعلوم)، وفعلا استطاع الزين تكوين دعاة من الشباب وأرسل وفودا لتكوينهم في إيران.

يستعمل الرافضة في محاولات تشييعهم للسنغاليين عددا من الوسائل والخطط منها: سعى زعيمهم الزين لبناء علاقات قوية ووطيدة مع الزعماء الصوفيين في السنغال باستعمال التقية والنفاق، ولكون عقيدة الشيعة قريبة من عقيدة التصوف سيما في قضايا كالتوسل، وادعاء علم الغيب، والعصمة بالمخلوقين، وغيرها، فقد اعترف جمع غفير من الصوفية بمذهبه الرافضي، واتفق معهم على إنشاء مرجعية لطائفة أهل البيت النبوي في السنغال، بتأسيس خلافة عامة لهم، تكون جارية على الأعراف المتبعة في هذا الشأن لدى سائر الطوائف.

وقد استغل الزين عقيدة التقية عنده أمام شيوخ الصوفية حتى نُصب رسميا “الخليفة العام لطائفة أهل البيت” في أوراق وقّع عليها وزير الداخلية السنغالي السابق عثمان غوم، ومن تقية ومكر وخداع ونفاق هذا الرجل أنه يزور شيوخ الصوفية متقمصا ومدعيا حب أهل البيت، وفي واقع حاله أنه من ألد أعداء الصحابة الكرام وعلى رأسهم أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعائشة رضي الله عنهم، فهو يتعبد الله بسبّهم.

وقد تواصلت إيران بشكل رسمي وغير رسمي مع العديد من الطرق الصوفية في السنغال، حيث دعمت بعض هذه الطرق بالمال وبإنشاء بعض المؤسسات التعليمية، كما أنشأت مؤسسة (والفجر) ومؤسسة (مزدهر) و(جامعة المصطفى العالمية) وهي جامعة لها 12 فرعاً تنتشر في أنحاء أفريقيا، وتمارس أدوراً اجتماعية لا تعليمية فقط، حيث تنفق إيران على الملتحقين بها والذين يزورن مدينة قم الإيرانية.

ويعدّ فرع جامعة المصطفى الإيرانية في داكار من أبرز المؤسسات الشيعية ذات الصلة بشيوخ الصوفية ومريديهم، والتي تتضمن مناهجها تدريس الثقافة والتاريخ الإيرانيين والعلوم الإسلامية بالإضافة للّغة الفارسية، ويحصل الطلاب على طعام مجاني ومساعدات مالية، والجامعة هي مركز شيعي في بلد مذهبه الشائع هو الصوفية، وينكر مدير فرع دكار من جامعة المصطفى الإيرانية أي صلة للجامعة بأجهزة المخابرات أو السياسة الإيرانية. وقال «نحن جامعة خاصة… مهمتنا الوحيدة هي التدريس ولا شيء آخر» مضيفا أن المرشد الأعلى خامنئي مجرد راعٍ للجامعة، كما يزعم أن اعتناق المذهب الشيعي ليس شرطا إلزاميا للدراسة. وقد كشفت مصادر أنه في موازنة إيران لعام 2016م حصلت الجامعة على 2390 مليار ريال (74 مليون دولار)، لكن مسؤولا ذكر أن الجامعة تحصل على مزيد من التمويل من مكتب المرشد الأعلى وشخصيات أخرى تحت قيادته.

ويصرح كثير من قادة الصوفية بالسنغال بأنه ليس لديهم مشكلات مع الشيعة، ومن ذلك قول محمد بشير أنغوم الداعية والمقدم في الطريقة التيجانية بالسنغال وعضو مركز زاوية الشيخ الحاج مالك سه للدراسات والبحوث بـ “تواون” في السنغال، وعضو هيئة التدريس في كلية الدعوة الإسلامية فرع السنغال:” ليست لدينا مشكلة مع الشيعة”.

ورد أنغوم على الحديث الذي يدور حول محاولات لنشر المذهب الشيعي في الدول السنية، وأن الصوفية في السنغال يمكن أن تلعب دور القنطرة للتشيع في البلاد، حيث قال:” لدينا عدد قليل من الشيعة والعديد منهم لبنانيون، ولكن لا توجد لدينا مشاكل معهم، فإذا كان الشيعة يدّعون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ستجد في مؤلفات الشيخ الصوفي الحاج عبد العزيز ما لا يصل إليه الشيعة من محبة رسول الله ومحبة أحبابه، والشيعة يحضرون المولد النبوي الذي تقيمه الطريقة في تواون، والذي يحضره كذلك (السلفيون) وسفراء الدول، ووجود قواسم مشتركة بيننا وبين الشيعة لا يعني بالضرورة أن الصوفية يمكن أن تكون مدخلا للتشيع في التراب السنغالي.

خاتمة:

في كثير من الأحيان ساهم النفوذ الإيراني الرافضي في زعزعة الاستقرار في السنغال؛ ففي عام 2010 تم اعتراض شحنة أسلحة إيرانية في ميناء لاجوس النيجيري اشتبهت السنغال في أنها كانت في طريقها لمتمردين في منطقة كاسامناس الجنوبية، وقطعت السنغال علاقاتها لفترة قصيرة مع طهران بسبب ذلك.

لكن –رغم ذلك- تحتفظ الصوفية السنغالية بعلاقاتها المتميزة مع الشيعة في البلاد، لكنهم في المقابل يقولون إن السلفية هي المذهب الأكثر إثارة للقلق؛ فعلى الرغم من كونها – أي السلفية- بمنأى إلى حد بعيد عن التدخل السياسي فإنها مرتبطة بفكر جهادي لم تشهده السنغال حتى الآن- حسب زعمهم. وقال أحمد خليفة نياس، وهو ابن إمام صوفي راحل واسع النفوذ وأحد أشد منتقدي ما يصفه الصوفية بـ “الهيمنة الدينية لدول الخليج العربية”، في قصره بدكار: “السلفيون في السنغال هم أبناء عمومة من يجاهدون في مالي.. يعتبرون أنفسهم جند الله”.

ويشير بعض الباحثين الذين كتبوا عن الإسلام ووجوده في السنغال أن الدعوة الاسلامية هناك ظلَّتْ تُعانِي مِن بعضِ الصعوباتِ في نشرِ الإسلامِ الصحيح وتوسع التصوف والتشيع في البلاد، وقد تضافرت مجموعة عوامل لترسيخ تلكَ الصورِ النمطية عن الإسلام، والتي أسهمت بقوة في إعاقةِ نشرِ الإسلامِ الصحيح في السنغال، وبالتالي انزلاق كثير من السنغاليين، خاصة الصوفية، في مزالق الرفض، ومن ذلك تصورُ المسلم السنغاليّ للإسلام بصورةٍ تقليدية معينة وهي الإسلام الصوفي الطرقي، ولا يتصور معظم هؤلاء إسلاما غير مرتبط بإحدى الطرق الصوفية الموجودة بالسنغال، وأيّ خروج عن ذلك يعد مُعاداة للأولياءِ، والشيوخِ؛ ويتعرّض صاحبه للازدراء، والمُعاداةِ؛ بدءًا من أقربِ الأقربينَ، وانتهاءً بالسوادِ الأعظم من المجتمعِ، وقد شكل هذا الجانب مدخلاً خصبا للرافضة لنشر مذهبهم تحت ستار التصوف ومحبة الشيوخ وآل البيت.

(المصدر: موقع الراصد)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى