تقارير وإضاءات

الأوقاف الأردنية وتقويض المرجعية الدينية في القدس

إعداد زياد بحيص

صورة غريبة ومستنكرة تلك التي طالعتنا بها وسائل الإعلام لوفد من الأوقاف الإسلامية في القدس للبطريرك اليوناني كيريوس ثيوفيلوس في 3-10-2017 بعد يومين فقط من قرار المؤتمر الوطني الأرثوذكسي بمقاطعته، وذلك لمسؤوليته عن تجديد عقود تأجير طويل الأمد في شهر 6-2017 لـ 500 دونمٍ غربي القدس في أراضي أحياء الطالبية والمصلبة تقيم عليها الدولة الصهيونية منشآتٍ حكومية وحيوية وأخرى سكنية، وبعد فشله في فعل أي شيء لاسترداد ساحة عمر في باب الخليل التي عُزل سلفه إيرينيوس بعد بيعه لها بعقود تأجير طويلة الأمد هي الأخرى عام 2005، والتي صدر بحقها حكم نهائي من المحاكم الصهيونية بملكية المستوطنين لها في شهر 8-2017، وهو ما يناقض الشروط التي نصب ثيوفيلوس بطريركاً على أساسها.

لقد جاءت زيارة وفد الأوقاف لثيوفيلوس لتشكل صفعةً مباشرةً لقرار الأرثوذكس العرب في فلسطين والأردن بفرض مقاطعة على البطريرك لإجباره على تصحيح ما فعل أو التنحي، ولتقول بأن الأردن يرفض هذا الموقف الأرثوذكسي ويستعين عليه لكسره بموقفٍ إسلامي يضرب به عرض الحائط، إذ تشكل الوفد من مدير أوقاف القدس عزام الخطيب، ومن الشيخ ناجح بكيرات رئيس أكاديمية الأقصى للتراث والمدير السابق للمسجد وأحد رموز الحركة الإسلامية في القدس، والشيخ عمر الكسواني مدير الأقصى الحالي الذي لمع اسمه في هبة باب الأسباط مؤخراً.

بعد الاحتجاج الشعبي على الزيارة التي تصدرت أخبارها وسائل الإعلام، صدر بيان من الأوقاف يوضح بأنها كانت زيارة استماعٍ لوجهة نظر ثيوفيلوس واستقصاء حقائق حول تلك الصفقات، وتأكيد في الوقت عينه بانحياز الأوقاف إلى ثيوفيلوس الثالث باعتبار أن سلطات الاحتلال هي من تريد عزله لتفريغ الموقع، أو للمجيء ببطرك ضعيف ليبرم صفقات بيعٍ جديدة، وكأن صفقات البيع والتأجير المتراكمة في عهد ثيوفيلوس لا تكفيها، أو كأن ثيوفيلوس هو رجل الكنيسة القوي الذي يدافع عن حقوق أصحابها، رغم أن أصحابها العرب قد أعلنوا موقفهم صراحةً قبل يومين فقط.

هذا اللغط دفع الشيخ عمر الكسواني مدير المسجد الأقصى إلى إصدار بيانٍ توضيحي في 9-10-2017 قال فيه إن الزيارة تمت بترتيب من مدير أوقاف القدس عزام الخطيب وتكليفٍ منه، وأنها كانت بقصد الاستقصاء وسماع ما لدى البطرك، وأنها لم تكن تكريمية، وأنه فوجئ بمجريات الزيارة وبتغطيتها في وسائل الإعلام.

انطلاقاً من هذه التطورات فلا بد من التوقف عند مجموعةٍ من النتائج:

أولاً: بعد مراجعة عددٍ من المهتمين للشيخين الكسواني وبكيرات، بدا واضحاً أنهما كلفا بالزيارة كموظفين للأوقاف، وبأنهما تفاجآ بمجريات الزيارة وتغطيتها الإعلامية، ما يعني أن هناك محاولةً متعمدة لجرهما إلى ما يشوه صورتيهما، ويبدو أن استنتاجاً مؤسفاً لا مفر منه هو أن من ينظم ذلك هو من رتب الزيارة، ومن كلفهما بتلك المهمة مدير أوقاف القدس عزام الخطيب بنفسه.

ثانياً: لم يكن هذا الموقفَ الأول الذي يتعمد فيه الخطيب الخروجَ على الإجماع المقدسي ومحاولة كسره عملياً، فقد خرج خلال هبة باب الأسباط بتصريحاتٍ مصوّرة لصفحة القدس في الجزيرة نت بأنه يخشى على المسجد بأن يبقى وحيداً، وبأن حراس المسجد وطواقم الأوقاف يجب أن يدخلوا المسجد، في محاولةٍ للتمهيد لكسر الإجماع المقدسي برفض الدخول من البوابات. كما أن محاولاته المستمرة لإجبار الحراس على كسر الإجماع والدخول على مدار أيام الهبة كانت حديث الناس والشارع في المدينة، وبهذه الزيارة هو يحاول تقويض الإجماع الوطني المسيحي بعملٍ مشابه.

ثالثاً: هل يقوم الخطيب بهذه التحركات السياسية من تلقاء نفسه؟ هل تعلم مرجعيته في وزارة الأوقاف الأردنية بتحركاته المضادة والهادمة للإجماع المقدسي الإسلامي والمسيحي في كل مرة؟ وما موقفها من ذلك؟ وأمام تكرار هذا التوجه يمسي من الصعب تغييب التساؤل إذا ما كانت هي من توجهه لتبني هذه السياسات؛ وفهل هي فعلاً من وجهته لذلك؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟ إن قضية حماية هوية المسجد الأقصى المبارك وحماية المقدسات الإسلامية والمسيحية فيه هي قضايا محل اتفاقٍ وإجماع، والعدو فيها واحدٌ لا ثاني له هو المحتل الصهيوني، وكل خسارةٍ فيها هي خسارة لكل الفلسطينيين والعرب والمسلمين سواء أدركوا ذلك أم كانوا غارقين في سكرتهم؛ فلماذا يجر الأردن نفسه بهذه السياسات ليكون هو من يخرج عن هذا الإجماع ويشقه؟ وإن لم تكن تلك سياسته فلماذا يسكت عن توجهات مديره الذي عينه هو لأوقاف القدس؟

رابعاً: لم يُصِب داءُ الطائفية مجتمع فلسطين أو الأردن في تاريخهما المعاصر، وكان المسيحي والمسلم يتعاملان على أنهما يشكلان معاً تنوعاً وثراءاً في إطار كلٍّ عربي مشرقي واحد، وكان مفتي القدس الحاج أمين الحسيني يتقدم في ثلاثينات القرن الماضي مظاهرات تعريب الكنيسة الأرثوذكسية المبتلاة بهيمنة أخوية القبر المقدس والبطاركة اليونان عليها، واصطف الشبان المسيحيون في صفوف الصلاة والرباط في باب الأسباط دفاعاً عن الأقصى قبل شهرين، فلمصلحة من يُستخدم الآن مشايخ المسلمين وإدارة الأوقاف لتقويض الإجماع الوطني الأرثوذكسي على فرض طوق العزلة على البطرك ثيوفيلوس؟ ومنذ متى يقبل المسلمون في فلسطين والأردن لأنفسهم دوراً كهذا بحق إخوانهم وأبناء شعبهم من المسيحيين؟

خامساً: لا بد من كلمة توجه للشيخين الكسواني وبكيرات، وقد كانا في هبة الأسباط الأخيرة جزءاً أساسياً من المرجعية الإسلامية التي قادتها؛ لقد بتّم الآن في مكانة الرموز التي تقتدى وينتظر الجمهور فعلها وموقفها، وهو كما وضعها في موضع القيادة يضعها كذلك في موضع النقد والتقييم، فكيف تسمحون لأنفسكم بالانجرار إلى منزلقٍ كهذا؟ لقد قلنا وقال كثيرون منذ اليوم الأول للنصر في 27-7-2017 بأن هدف الاحتلال التالي هو تفتيت المرجعية الإسلامية وضرب رموزها، وتقويض الاحتضان المجتمعي الذي صنعته من حولهم بجرهم إلى مزالق ومصالح فردية تؤدي لانفضاض المجتمع عنهم، ونحن وأنتم ينبغي أن نكون شركاء في منع ذلك، فكيف قبلتم بما جرى؟ وإن كان قد جرى فنرجوكم أن تتنبهوا مستقبلاً لكل ما يحمي مكانتكم ومكانة المرجعية الإسلامية التي تشكلت في هبة باب الأسباط، لأننا جميعاً بحاجةٍ لها، ولأن تقويضها ليس إلا خدمةً مجانيةً نقدّمها للمحتل.

(المصدر: شبكة قدس الإخبارية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى