كتب وبحوث

عرض كتاب (التجدّد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة)

تمتاز الأفكار التي يقدمها المستشار طارق البشري بتركيزها على الجانب العملي، وبأنها تضع نفسها دومًا في خدمة الحركة الإصلاحية، ويرى البشري أن غياب هذا الجانب العملي يضع الحركة الفكرية والثقافية العربية في معضلة عميقة إزاء الواقع. ويمكن القول أن المستشار البشري استقى هذه السمة المميزة لفكره من مصدرين؛ أولهما اشتغاله بالقانون كقاضٍ وهي مهنة وصل فيها إلى منصب نائب رئيس مجلس الدولة المصري، وثانيهما أن اشتغاله الفكري الرئيسي تحدد بالتاريخ، فهو قاض ومؤرخ قبل أن يكون مفكرًا.

في هذا الإطار يأتي كتابه المعنون بـ: “التجدد الحضاري: دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة” الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت 2015.

في هذا الكتاب جمع المستشار البشري عددًا من دراساته السابقة التي نشرها في مناسبات مختلفة خلال ما يقرب من ثلاثين عامًا، وهي دراسات يتضافر فيها الهمّين الفكري النظري المجرد، والهم الإصلاحي العملي. وليس أدل على تضافر هذين الهمين في دراسات البشري ضمن هذا الكتاب من المقدمة التي صدّر بها كتابه وخصصها لبيان تصوره عن أسباب فشل الثورة المصرية والتي يمكن تلخيصها في غياب الوعي لدى النخبة السياسية المصرية بجميع أطيافها عن الجوهر الديمقراطي والاجتماعي للثورة، وتحويل مسارها إلى صراع ممجوج على الهوية كان المساهم الأكبر في تفتيت قوى الثورة ومن ثم عودة النظام القديم بشكل أشد شراسة في يوليو 2013.

يحاول الكتاب إذن في دراساته الأحد عشر أن يعالج القضايا النظرية المثارة في الفكر العربي بعامة، والمصري منه بخاصة خلال العقود الثلاثة والتي كان عدم حلها سببًا في فشل الثورة وعدم تحقيق أهدافها في تصور المستشار البشري.

*التنوير نظريًا وتطبيقيًا

إزاء فشل المشاريع التنويرية العربية بجميع مشاربها في القرنين الأخيرين يتعين علينا البدء في دراسة أسباب هذا الفشل، والمشكلة التي تجلّيها الدراسة المعنونة بـ “نظرة تقويمية في حصيلة العقلانية والتنوير” هي أن التعرف على المفاهيم النظرية لا يكون بالتعبيرات الجهيرة عنها في عمومها وتجريدها، بل باستخلاصها من واقع الممارسة الفكرية الاجتماعية عند التعامل مع تفاصيل الواقع المعيشي ومع مشاكله ومع نوعية المعارف التي نتلقاها، طبيعية كانت أم اجتماعية. إن البشري لا يشير هنا فقط إلى ضعفٍ انتشر في غضون الحركة النهضوية العربية، بل يشير إلى ضعفٍ عمّ طريقة دراستها من خلال التركيز على مفاهيمها النظرية والتجريدية ومن ثم الصراع حولها دون النظر إلى سياقاتها السوسيو اجتماعية والاقتصادية. يلحظ البشري على سبيل المثال أننا حين نبحث عن حركة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث ننظر في كتابات الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، ولكننا لا نفطن إلى مناهج التدريس في الأزهر وغيره ونظم الدراسة في المعاهد الدينية ومدى تطورها أو بقائها على حالها. كما أننا لا نفطن إلى التغيرات التي جرت على التشريعات ، ولا إلى المبادئ التي استقرت أو بدأت تظهر في أحكام المحاكم وعلى أقلام المفتين وغيرهم. ونحصر مساحة حركة الفكر العلماني في أعلامٍ مفردين من أمثال لطفي السيد وشبلي شميل وطه حسين وغيرهم، ونغفل عن مؤسسات وهيئات حديثة كان لها من الآثر العملي في حياة الناس أضعاف ما كان لهؤلاء كالأحزاب والهيئات النيابية والنقابات المهنية والعمالية وغيرها. يرى البشري وعلى خلاف الاتجاه الثقافوي الذي ساد في الفكر العربي في أعقاب هزيمة يونيو 1967، أن المشكلة لم تكن في جمود الفكر بقدر ما كانت في جمود الواقع الاجتماعي السياسي على ما كان عليه في بدايات القرن الثامن عشر وأوائل القرن الذي يليه. لم يكن المشكل الذي واجهنا في القرن التاسع عشر – فيما يرى البشري- فكريًا أو ثقافيًا، بل كان سياسيُا يتعلق بالقوة الاستعمارية الغربية. ولم تكن معوقات الإصلاح ثقافية بل نخبًا اجتماعية وعسكرية تقليدية أضيرت من الإصلاح.

*الجماعة الوطنية والمواطنة مقاصديًا

الجماعة الوطنية هي الجماعة السياسية، ويقصد البشري بها هذه المجموعة من البشر التي تتحدّد وفقًا لتصنيف معين يقوم على وصف فعّال يصدق عليهم ويميزهم عن غيرهم من المجموعات البشرية، وذلك متى كانت الأوضاع التاريخية قد رشحت الجماعة المصنفة بهذا الوصف بأن تقوم بوظيفة محددة لحماية صالحها المشترك بعيد المدى.

يؤسس البشري لمفهوم الجماعة الوطنية مقاصديًا اعتمادًا على وثيقة المدينة، وهي الوثيقة السياسية التي أسست الاجتماع السياسي في المدينة عقب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها. يلحظ البشري أن الوثيقة أسست للمبادئ التالية:

أولًا: أن ثمة جماعة سياسية نشأت بجامع الإيمان والإسلام، وهي نشأت من عدة جماعات كانت قد قامت على الجامع القبلي، وأنها لم تنشأ بين المسلمين من هذه القبائل فحسب، ولكنها ضمت أيضًا مهاجري مكة وأهل يثرب.

ثانيًا: أن هذه الجماعة السياسية الناشئة لم تلغ الجماعات السابقة التي كانت قد قامت على الانتماء القبلي، ولكنها ضمتها إليها وألحقتها بها، فصارت القبيلة انتماءً فرعيًا داخل الجماعة الدينية السياسية.

ثالثًا: أن الجماعة السياسية التي قامت على أساس ديني ضمت إليها أقوامًا أخرين يدينون بأديان أخرى على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.

رابعًا: أن أساس قيام هذه الجماعة السياسية الجديدة، هو الحماية من المخاطر الخارجية عليهم مع تحقيق التساوي والتكافل بين بعضهم بعضًا جماعات وأفرادًا.

يرى البشري أن المواطنة ستتصل اتصالاً طبيعيًا بالفكر الإسلامي إذا فتحنا لها الباب عن طريق مقاصد الشريعة وهي المقاصد التي يحددها في تجنب الفتنة ورفع الحرج والأخذ بموجبات الاعتدال في التشريع. ويرى البشري أن فكرة المساواة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب في بلادنا متحققة في أغلب الفقه الإسلامي بالنسبة إلى الحقوق الخاصة والفردية. أما فيما يتعلق بالولايات العامة فالمشكلة مازالت قائمة وتحتاج – حسب البشري- إلى اجتهاد جديد.

*حول العروبة والإسلام

يرى البشري أن أخطر الانقسامات التي عاناها الفكر العربي المعاصر هو الانقسام بين التيار السياسي الوطني والتيار العروبي الوطني ، وأن من يروم لم شمل الأمة وترميم ما انصدع من أبنيتها عليه ألا يجد صيغة للتعايش فقط بين التيارين، بل عليه أن يجد صيغة لتلاقيهما، أو على الأقل صيغة للتشارك بينهما على المدى الطويل.

يُجمل البشري العلاقة التاريخية بين التيارين العروبي والإسلامي في المراحل التالية:

أولاً: لم يظهر الخلاف بين العروبة والإسلام قبل منتصف القرن العشرين، إلا في بلاد الشام عندما قامت العروبة كدعوة انسلاخ عن الجامعة الإسلامية، وحتى في بلاد الشام، في بداية القرن العشرين لم يكن كل العروبيين طالبي انسلاخ، بدأت أغلبيتهم طالبة مساواة في إطار الدولة الإسلامية وطالبي إصلاح لهذه الدولة التي كانت شاخت وتهدمت قوائهما. وباستثناءات نادرة فإن حركة القومية العربية بمعناها الحميد هذا لم تتحول إلى حركة انسلاخ إلا بعد انقلاب الاتحاد والترقي في تركيا واتباعه سياسة التتريك والطورنة.

ثانيًا: أحد موجبات العراك بين عروبة الشام وبين الحركة الإسلامية ان الفكر العروبي اختار العلمانية كوعاء سياسي لعلاج مشكلات الطائفية في الشام، لكن هذا وضعه في مقابل الدولة العثمانية والحركة الإسلامية.

ثالثًا: بالنسبة لمصر والمغرب العربي استمرت الصيغة الإسلامية للحركة الوطنية على يد الحزب الوطني، ولم تنبعث المصرية كقومية إلا بعد 1919 في سياق تحلل الجامعة الإسلامية بزوال الدولة العثمانية، كما أن الاتجاه العربي ما لبث أن عاد إلى الظهور داخل أحضان الحركة الإسلامية لمّا ظهرت في الثلاثينيات. وبالتالي فإننا حين نتحدث عن العروبة السياسية فإنه لا يصح أن نعمّم الظرف التاريخي الخاص ببلاد الشام على جميع الأقطار العربية.

رابعًا: يلحظ البشري أن الفكرة الإسلامية شهدت عددًا من الفروق من النوع الذي سبق بيانه مع الفكرة العربية، فعلى سبيل المثال قامت الفكرة الإسلامية بحركة انسلاخية في الهند تتشابه مع ما قامت به الفكرة العربية في الشام، وكان لهذا تأثيره في الفكر السياسي الإسلامي العربي المتأثر بكتابات أبي الأعلى المودودي الذي جعل القومية صنو العصبية والجاهلية.

إن الحركة الإسلامية أو الفكر السياسي الإسلامي العربي لم يستشعر خطرًا على نفسه من التوجه العروبي، وبالذات في الجانب الأفريقي من العروبة، بل إن التوجه العروبي ظهر أول ما ظهر في أحضان الإسلامية السياسية التي دافعن عنه ودعمته وليس أدل على ذلك من اختلاف المواقف بين حسن البنا وأبي الأعلى المودودي تجاه هذه القضية.

خامسًا: حدث تطور آخر في الخمسينات والستينات وهو أن حكومات الاستقلال الوطني أقصت تيار الإسلام السياسي إقصاءً تامًا، وتزامن مع هذا الإقصاء التقاء حدث بين العروبية والفلسفة المادية الماركسية . وقد كرّس هذين التغيرين العداء بين العروبيين والإسلاميين. ويرى البشري أن التيار العروبي الذي تأثر بالماركسية، ويسميه العروبية المادية، لا يُرجى له لقاء مع التيار الإسلامي.

ويخلص البشري من هذه النقاط إلى أن هناك مسائل اتفاق مشترك بين التيارين ومسائل خلاف يمكن حله ومسائل خلاف يحسُن أن تُترك للمستقبل.

أما مناطق الاشتراك فهي أن العروبة والإسلامية تياران مقاومان للاستعمار والهيمنة الخارجية، وأن العروبة جزء من المكون الإسلامي الأوسع، وأنه بشكل عام لا يمكن لا تاريخيًا ولا واقعيًا بين العروبة والإسلام.

وأما مسائل الخلاف الذي يمكن حله فتتعلق بمسألة المواطنة، أي إمكان إيجاد صيغة للمساواة بين المسلمين وغير المسلمين من أبناء الوطن الواحد، وإمكان إيجاد صيغة مماثلة بين العرب وغير العرب من مواطني البلدان العربية كالأكراد والبربر والأمازيغ وغيرهم.

وأما المسائل التي يحسُن تركها للمستقبل فتتعلق بإيجاد الصيغ التنظيمية لذلك كله، فذلك أمر مرن متروك لملاءمات الزمان والمكان، مقبول بشأنه التغير والتنوع والتعدد والخلاف.

يتميز هذا الكتاب بضمّه دراسات متعددة للبشري تشمل أكثر المواضيع اللي شغلته والتي كتب فيها على مدى رحلته الطويلة، بحيث يمكن إعتباره مدخلاً جيدًا لفكر طارق البشري يمكن البدء منه ثم التوسع في أعماله الكبيرة فيما بعد.

(المصدر: صفحة الشبكة العربية للأبحاث والنشر على الفيسبوك)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى