كتابات

الرنتيسي: صفحات مجهولة من سيرة بطل

بقلم أحمد بن راشد بن سعيد – مدونات الجزيرة
الأمل والرجاء هما اللذان يعزّزان صمود شعبنا رغم ما يصيبه من الألم، فإذا ذهبا، حلّ الوهن، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: “ولا تهنوا في ابتغاء القوم، إن تكونوا تألمون، فإنّهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون”.

بهذا المعنى تحدّث الشهيد عبد العزيز الرنتيسي في آخر مقال له في صحيفة “البيان” الإماراتية، الأربعاء 14 نيسان (إبريل) 2004، وكان استشهاده السبت 17 من الشهر نفسه. ليلتها، شعر العرب والمسلمون (أو الحقيقيون منهم) بالثّكل، فقد كان البطل يصدر عنهم وهو يقاوم الظلم، ويربّي الأجيال على الصمود، مزمجراً أمام الحشود، في الميادين والمساجد والمخيمات، عن حتمية الجهاد وشرف والرباط.

وُلد الرنتيسي في قرية يبنا، الواقعة بين عسقلان ويافا، في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1947، ولجأت عائلته بعد النكبة إلى غزة، وهو ابن 6 أشهر. كان يحنّ إلى قريته، وقد شاهدته في لقاء تلفزيوني بالإنكليزية يقول بصرامته المحبّبة وملامحه السّمحة: “أريد العودة إلى يبنا”، يقصد أنّ من حقّه العودة إلى الأرض التي وُلد فيها، ومن ثمّ فلا مجال للتفاوض حتى على فلسطين 1948.

قال ذات مرّة في مقابلة صحافيّة عن معشوقته يبنا: “حبّها ترعرع في قلبي…زرتها عدّة مرات بُعيد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة….وفي كل مرة أزورها أذهب إلى بيتي الذي وُلدت فيه، وهو …من طابقين يقع وسط أشجار البرتقال، تغتصبه أسرةٌ يهودية قدمتْ من اليمن، كان بيتاً جميلاً يسكنني ولا أسكنه…وقد فوجئتُ عندما زرتُه أنّ بعض أشجار البرتقال التي غرسها والدي بيده (رحمه الله) لا تزال موجودة…كما لا تزال في القرية آثار البيوت المدمّرة، وكذلك المسجد الذي أصابه الدّمار ولم يبق إلا (جزءٌ) من مئذنته…وما زلتُ أرقب (واثقاً) اليوم الذي أعود فيه إلى قريتي…ولكن لا أدري إن كنتُ سأكحّل عينيّ برؤيتها، وقد علا في مئذنتها هتافُ الله أكبر، أم أنّها ستنهض عزيزةً وقد احتوى الثرى جسدي”.

نشأ عبد العزيز بين 9 إخوان و أختين، واضطرّته ظروف أسرته إلى العمل وهو في السادسة. أنهى دراسته الثانوية بتفوّق عام 1965، ودرس الطب بجامعة الإسكندرية التي تخرج فيها بتفوّق عام 1971، وعاد إلى غزة ليعمل في مستشفى ناصر. خاض إضراباً مع زملائه احتجاجاً على منعهم من إكمال دراستهم، واستطاع العودة إلى الإسكندرية والحصول على الماجستير في طب الأطفال، ثم عاد إلى عمله في “ناصر”.

كانت حياة البطل ملأى بالمعاناة. اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1982 بسبب رفضه دفع الضرائب. وفي أواخر 1987، وُلدت حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس)، ومعها تفجّرت الانتفاضة الأولى، وكان الرنتيسي أحد مؤسسي الحركة. اعتقله جنود العدو في 9 كانون الأول (ديسمبر) 1987 بعد عراك بالأيدي، أرادوا خلاله اقتحام غرفة نومه، فصدّهم ببسالة، ولم يتمكّنوا من دخول الغرفة. بعد 3 أسابيع أُطلقوا سراحه، ليعتقلوه في 4 آذار (مارس) 1988، ويمكث في السّجن 30 شهراً. قال الرنتيسي عن اعتقاله: “مُنعتُ من النوم 6 أيام، كما وُضعتُ في ثلّاجة 24 ساعة، لكنّي لم أعترف بأيّ تهمة وُجّهت إليّ بفضل الله”. أتمّ الرنتيسي حفظ القرآن في السجن الذي وصفه بأنه “مصنع الرجال” و “مدرسة الصبر”، و “فرصة جيّدة للتواصل مع الشباب”. ووصف حفظ القرآن بأنّه من أعظم نعم الله على العبد، “فحفظة كتاب الله يرون فيه جديداً في كل تلاوة يتلونها، فهو يتجدّد في قلوبهم بحلاوته ومعانيه وأسراره…كما أنّ حفظ القرآن يُقرّب المسلم من ربّه، ويجعله يعيش الآخرة وكأنّه يراها رأي العين، وهو سياج يحفظ صاحبه من الزّلل إلى درجة عالية، كما أنّه يبعث الهمّة في صاحبه، فلا عجب أن ترى الحفظة أشدّاء على الكفّار، رحماء بينهم”.

في عام 1991 كان الرنتيسي أسيراً في سجن النّقب، وكان الأسرى محرومين من زيارات أهاليهم، وبعد احتجاجاتهم المتكرّرة، طلب مدير المعتقل، صاحب رتبة عسكريّة كبيرة واسمه شلتئيل، الالتقاء بممثّليهم. يروي الرنتيسي في مذكّراته أنّ الأسرى طلبوا منه مرافقتهم، فاستجاب لطلبهم، لكن أزعجه أنّ بعضهم كان يضخّم من شأن شلتئيل ويخشى غضبه. يقول: أخذتُ، وأنا في الحافلة التي أقّلتنا إلى ديوان شلتئيل، “أفكّر في استعلاء هذا الرجل، وهيبته في نفوس الشباب، وكيفيّة انتزاع هذه الهيبة من نفوسهم”. اجتمع الأسرى في الديوان، ثمّ دخل عليهم شلتئيل، فأشار بيده يدعوهم إلى القيام له، فقاموا. يقول الرنتيسي: وبقيت جالساً، فاقترب منّي وقال: لماذا لا تقف؟ فقلت له: أنا لا أقف إلا لله، وأنت لست إلهاً، بل مجرّد إنسان، فقال: يجب عليك أن تقف، فأقسمت بالله ألا أقف. وهنا تدخّل العقيد، سامي أبو سمهدانة، أحد قادة فتح في المعتقل، وأخبر شلتئيل أنّني إذا قرّرتُ أمراً لا أتراجع عنه، فأصرّ شلتئيل على موقفه. يضيف الرنتيسي: “قال لي نائب شلتئيل: يا دكتور، هنا بروتوكول يجب أن يُحترم، فقلت له: ديني أولى بالاحترام، ولا يُجيز لي الإسلام أن أقف تعظيماً لمخلوق، فقال: ما الحلّ إذن؟ قلت: إمّا أن أبقى جالساً، أو أعود إلى خيمتي، فقال شلتئيل: بل تعود إلى خيمتك، فخرجت من الديوان، ولم يخرج معي إلا الأخ المهندس إبراهيم رضوان، والأخ عبد العزيز الخالدي، وكلاهما من حماس”.

بعد بضعة أيّام، عُوقب الرنتيسي بحبسه وصاحبيه اللذين من “حماس” 3 أشهر في زنزانات انفراديّة. يقول: “وبدأنا رحلتنا مع القرآن، أمّا أنا فأراجعه بعد أن منّ الله عليّ بإكمال حفظه قبل عام 1990 حيث كنت والشيخ أحمد ياسين في زنزانة واحدة في معتقل كفاريونه، وأمّا المهندس إبراهيم، فبدأ بحفظ القرآن في الزنزانة، وكان رجلاً ذكياً جداً ويُجيد العبريّة بطلاقة، وقد تمكّن من حفظ القرآن قبل انقضاء الثلاثة أشهر والحمد لله”.

في أواخر 1992 أبعدت إسرائيل الرنتيسي مع 415 من من قادة “حماس” إلى لبنان. وعندما اضطُرّت إلى السماح بعودتهم، اعتقلت الرنتيسي 3 سنوات ونصف. ثمّ اعتقلته سلطة عرفات 4 مرات ماكثاً في سجونها 27 شهراً، تُوفّيت خلالها والدته. في 10 حزيران (يونيو) 2003 حاولت إسرائيل اغتياله، وفشلت. أصبح عبد العزيز الرنتيسي نجماً عالمياً، وأثار الإعجاب بقدرته على التعبير بالإنكليزية عن عدالة قضية فلسطين، وعدّته مجلة تايم في عام 2002 واحداً من أهم 5 شخصيات في “الشرق الأوسط”.

في 22 آذار (مارس) 2004، اغتالت عصابات شارون الشيخ أحمد ياسين، مؤسّس حركة “حماس”، بثلاثة صواريخ من طائرات الأباتشي وهو خارج على كرسيّه المتحرّك من مسجد المجمّع الإسلامي في حيّ الصّبرة بقطاع غزّة. خطب الرنتيسي (الذي اختارته الحركة قائداً لها) في يوم استشهاد الشيخ ناقلاً عنه رؤيا رآها، وهي أنّه “قام يمشي، فأمسكتُ بيده، ومشينا معاً، والجماهير الغفيرة تمشي خلفنا، وقد أوّلها الشيخ أنّه سيلقى ربّه، ثم ألحق به”.

جابت طائرات الاستطلاع الصهيونية سماء غزة أسابيع عدّة بحثاً عن الرنتيسي. سأله صحافي غربي عن احتمال اغتياله، فقال إنه يتمنّى الشهادة، مؤكداً أنّ الموت واحد، سواء جاء بسكتة قلبيّة أم بالأباتشي، لكنّه يفضل الأباتشي. روى ابنه محمد ما حدث قُبيل استشهاده قائلاً إنه زار العائلة بعد غياب أسبوع، وأخبرهم أنّه حصل على مدّخراته من “الجامعة الإسلامية” التي كان يحاضر فيها، وسدّد ما عليه من ديون، وخصّص مبلغاً من المال لزواج ابنه أحمد قائلاً: “الآن أقابل ربي نظيفاً، لا عليّ ولا ليا”.

اغتسل عبد العزيز وتطيّب، وطفق ينشد على غير عادته: “أن تدخلني ربّي الجنّة/هذا أقصى ما أتمنّى”، قائلاً لزوجته أمّ محمد: “إنها من أكثر الكلمات التي أحببتها في حياتي”، ثم خرج من الدار، ليتلقّى جسده صاروخَيْ “الأباتشي”، ويلقى ربّه واثنان من مرافقيه في 17 نيسان (أبريل) 2004. صدَقَ الله فصدَقَه.

يروي لي ابنه محمّد بعض ذكرياته معه، فيقول: “كنت وأخواتي، ونحن صغار، نناقش سيرة معاوية وبداية الفتنة، فقال الوالد: من نحن لنتحدّث عن صحابيّ من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم)، مهما قدّمتم في حياتكم، فلن تبلغوا في الفضل غبار أحدهم. يضيف محمد: “كان عمري وقتها 8 سنوات، لكنّ هذه الحادثة جعلتني أتوقّف كثيراً عند الحديث عمّا جرى في زمن الصحابة من فتن”. يتذكّر محمد أباه، صاحب القلب الكبير، كما قال، والذي “لو وبّخنا ذات ليلة، عاد يُرضينا، ولا يدعنا ننام حتى يُدخل السرور إلى قلوبنا، لاسيّما البنات”. من أجمل المشاهد التي نتذكّرها، يضيف محمد، مشهد والدي وهو يتبادل الرّشق بالمخدّات مع حفدته في جوّ ملؤه الضّحك والفوضى”. يُبدي محمد إعجاباً كبيراً بشجاعة والده، يقول: “لا مكان في قلب أبي للخوف من الأعداء، ولم يُشعرنا قط بأيّ ألم من الآلام التي تكبّدها في حياته، حتى هان عليّ السّجن لما أرى من تقبّل والدي للابتلاءات المتتالية”.

من الجوانب التي لم تحظ بالاهتمام في حياة الرنتيسي شغفه بالأدب وشاعريّته. ديوانه “حديث النفس” الذي صدر بعد استشهاده عام 2005 يضمّ عدداً من النصوص الرقيقة التي انعكست فيها ملامح شخصيّته وتكوينه الإيماني والجهادي. في قصيدة طويلة له، ينقل حواراً بينه وبين نفسه تغريه فيه بالإخلاد إلى الأرض، فيروّضها ويزكّيها حتى تنقاد له. تثبّطه، مثلاً، النفس بقولها:

ها أنت ترسف في القيود بلا ثمنْ
وغداً تموت وتنتهي تحت الترابْ
وبنوك واعجبي ستتركهم لمنْ
والزوج تُسلمُها فتنهشها الذئابْ

فيردّ عليها:
القيدُ يُظهر دعوتي يوماً فعِي
وإذا قُتِلتُ ففي إلهي مصرعي
والزوجُ والأبناءُ مذ كانوا معي
في حفظ ربّي لا تثيري مدمعي
وعلى البلاء تصبّري لا تجزعي

فتجيب نفسه:
إنّي أخاف عليك أن تُنفى غداً
ويصير بيتُك خاوياً يشكو الخرابْ
وتهيمُ بحثاً عن خليلٍ مؤتمنْ
يبكي لحالك أو يشاطرُك العذابْ

وفي نهاية الحوار الطويل تخضع النّفس قائلة:
إنّي أُعيذك أن تذلّ إلى وثنْ
أو أن يعودَ السّيفُ في غمد الجرابْ
فاقضِ الحياةَ كما تريد فلا ولنْ
أرضى حياةَ لا تظلّلها الحرابْ

ويرثي شاعرنا المهندس الشهيد، يحيى عيّاش، بقصيدة منها:
يا سعْدَ أمٍّ أرضعتك لبانَها
فغدتْ بيحيى شامةً في الأمّهاتْ
يا ذا المسجّى في التراب رفاتُهُ
من لي بمثلك صانعاً للمعجزاتْ
أنعمْ بقبرٍ قد تعطّر جوفُهُ
إذ ضمّ في أحشائه ذاك الرّفاتْ
آن الأوان أبا البراء لراحةٍ
في صحبةِ المختار والغرّ الدعاةْ
أبشرْ فإنّ جهادَنا متواصلٌ
إنْ غاب مقدامٌ ستخلُفُهُ مئاتْ

وفي قصيدة أخرى يهتف الرنتيسي بالقيادات الفلسطينية المستسلمة للكيان الصهيوني:
أحيوا ضمائركم أما بقيتْ ضمائرْ؟
فتجارة الأوطان من كبرى الكبائرْ
عودوا إلى أطفال غزّة تسمعوا
عن مولد الإصباح من رحِم الدياجرْ
عودوا إلى القسّام يسلخْ من ظلام
الليل بالأكفان مجداً للأواخرْ

ويختم بالقول:
لكنّني والحقّ يشهدُ أنّني
آبى القنوطَ فذاك من شيَم الكوافرْ
فغداً تعود لنا الدّيارُ تبثّنا
أشواقَها ونَقيلُ في ظلّ البيادرْ

غاب البطل عبد العزيز الرنتيسي عنّا، ولم يغب. سيظل يلهمنا، وستظل فلسطين والأمّة كلها تتذكّر سيرته، وهي تجاهد لاقتلاع الشرّ الصهيوني من الأرض المقدسة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى