كتب وبحوث

مراجعة لكتاب: المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية

تأليف الدكتور عبد الرحمن السلمي

كتب المراجعة: حازم محمد الشربيني

بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبعد:

أقدم في هذه السطور عرضًا لكتاب «المنهج النقدي عند المحدثين وعلاقته بالمناهج النقدية التاريخية»:

مؤلفه: الدكتور عبد الرحمن بن نويفع فالح السلمي، عضو هيئة التدريس بقسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى.

ناشره: مركز نماء للبحوث والدراسات (ط/ 1)، (1435هـ).

عدد صفحاته: (240) صفحة.


محتوياته: تضمن أربعة فصول، وخاتمة:

–  الفصل الأول: المرجعية في النقد التاريخي، واشتمل على ثلاثة مباحث.

– الفصل الثاني: أدبيات منهج النقد التاريخي (الاستردادي) وعرضها على منهج المحدثين، واشتمل على تمهيد، ومبحثين.

– الفصل الثالث: طريقة بناء المحدثين لمنهجهم النقدي الخاص، واشتمل على ثلاثة مباحث.

– الفصل الرابع: المرتكزات التي وحَّدت منهج المحدثين وجوَّدته، واشتمل على ستة مباحث.

وسأذكر -إن شاء الله تعالى- في هذه السطور عرضًا موجزًا لمباحثه، وأهم ما ورد فيها.

الفصل الأول: المرجعية في النقد التاريخي

المبحث الأول: تطور النقد التاريخي

إنَّ دراسة التاريخ ونقد حوادثه واستثمارها: شأن إنساني قديم لا يمكن أن نحدد له بداية، إلَّا بداية تعاقب الأجيال الإنسانية على هذه الحياة، فالجيل الثاني من أحفاد آدم وجد تاريخًا إنسانيًا سابقًا، ولا شكَّ أنَّه قد تطلع إلى معرفته والاستفاده منه ولا بُدَّ أنَّه مارس بعض المحاولات النقدية في التحقق من حوادث تلك التاريخ.

ولا شكَّ أنَّ الخبراء المتخصصين في (تاريخ) لا يحتاجون في ضبط منهجيتهم في بحثهم ونقدهم لذلك التاريخ إلى أن يكون بين أيديهم منهج موصوف ومحدد فخبرتهم كفيلة بضبط منهجية البحث على الوجه الصحيح.

والدليل هو أنَّ دارسينا اليوم ينتهجون في الدراسات التاريخية كلها منهجًا بحثيًا موصوفًا ومجددًا، هو المنهج التاريخي الاستردادي، وهو منهج حدد مؤخرًا بعد أن سبقته أعمال نقدية تاريخية كثيرة جدًّا عند كافة البشر وفي سائر التخصصات، فنرى الباحث المتأخر وهو يُجري المقارنات والموازنات بين تلك الأعمال النقدية السابقة، ويقضي لبعضها على بعض، ويستدل لاختياره والراجح عنده بالمنهجية العلمية الصحيحة في البحث التاريخي.

فعند المسلمين -مثلًا- دراسات تاريخية عديدة، منها: تاريخ المحدثين، وتاريخ القراء، ومنها تواريخ سياسية واجتماعية وغيرها، وكلها تسير على نحو يتابع فيها المؤرخون بعضهم بعضًا، ويتعقبون ما يدل على أنَّهم كانوا يسيرون على نحو كانوا يتفقون عليه.

وقبل مجيء الإسلام إلى العرب كانوا يسمون الأحداث الوقائع التاريخية السابقة لهم بـ«الأساطير»، وهي كلمة قد سجلها عليهم القرآن الكريم في تسع آيات منه، تدل على أن الأساطير عبارة عن موروث غير موثوق، يتناقله طائفة من الناس، ولا يترتب عليه في حق الجماعة اعتقاد ولا عمل، كدعوى المشركين أهل الجاهلية أنَّهم على ملة إبراهيم، وأنَّ عامة شرائعهم مأخوذة عن شريعته، ممَّا يدلُّ على أنَّهم لم تكن لديهم مناهج نقدية واضحة يُتحاكم إليها، فيقعون في اختيار ما تستحسنه أهواؤهم وما اختاره كبارهم دون دليل.

ونجد أنَّهم اهتموا بالشعر ونقده وأقاموا له أسواقًا تخصه وتناقش قضاياه، وقد كان نقد الشعر في العصر الجاهلي منصبًا في عمومه على قياس جودة البيان وجدة الصور وحسن سبك الألفاظ التي تحمل المعاني.

لذا: فإنَّهم كانوا بتلك الملكات النقدية العالية في هذا الجانب= الطبقة العليا المؤهلة للوقوف على إعجاز ألفاظ القرآن الكريم ومعانية، ودقيق نظمه، وحسن بيان تصويره، ثم استعملوا الشعر ديوانًا لتوثيق الأيام والأنساب والحوادث والأطلال ونحوها، وبسبب أميتهم أيضًا وثائقهم في صورهم وعلى ألسنة رواتهم، وامتد الاعتماد على الحفظ إلى عصور الإسلام الأولى، هكذا كان حال الجاهلين، بينما واقع المسلمين يشهد إلى اليوم أنَّهم لم تعد كلمة «الأساطير» مستعملة لديهم، وهذا يعني: أنَّهم قد أصبح لديهم نقد تاريخي، وأنَّهم وفروا الوسائل اللازمة لقيام الفطر الإنسانية بنقد التاريخ.

فوجود الوعي بأهمية التاريخ يعني الاهتمام بالتوثيق، ووجود الوثائق يعني وجود التاريخ الذي يعني وجود النقد، ووجود تاريخ غني بالشواهد والوثائق يعني وجود نقد جيد له ممَّا يعني وجود الاستثمار الصحيح للتاريخ، فإذا ما وجد المؤرخ الخبير بالتاريخ الذي يريد نقده الشواهد والوثائق الكافية؛ فإنَّه سوف يهتدي إلى ضبط منهجية البحث، ولو لم يكن أمامه منهج موصوف محدد كما سبق، وهذا ما عمله مؤرخو المسلمين على سائر طبقاتهم.

وفي نقل موثق عن إمام ناقد من المحدثين الكبار نجد أنَّ المسلمين قد تفردوا بتوفير الوسائل اللازمة لقيام النقد التاريخي الدقيق وكأنه يمتن لهم.

قال أبو حاتم الرازي (195هـ – 277هـ): «لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق آدم أمناء يحفظون أثار نبيهم وأنساب سلفهم إلا في هذه الأمة».

وممَّا سبق يتبيَّن أنَّه: لا يمكن أن يستفيد البشر من علم التاريخ إلَّا من خلال التوثيق المستمر لكل زمن؛ وإلَّا سيعودون لتداول كلمة الأساطير.

استطاع المسلمون أن يصنعوا توثيقًا جيِّدًا لتاريخهم عن طريق توثيق الوقائع التاريخية من خلال التوثيق لأصحابها باستعمال «علم التراجم».

يقول الأستاذ أحمد أمين عن علم تراجم الرجال: «عنى به المسلمون قديمًا عناية غريبة فاقت غيرهم من الأمم… فلما اتسعت الحركة العلمية وكثرت رواية الحديث ورأى العلماء أنفسهم بين أصناف من الرواة صادق وغير صادق ومشكوك فيه، جرت ألسنتهم بالحكم على الأشخاص…».

ونجد السبب لهذا الوعي العالي بالتاريخ هو القيمة العالية لتاريخهم (عندهم).

وكما سبق فإنَّ وجود الوثائق الكافية تعني وجود تاريخ يمكن نقده والاستفادة منه؛ لذا: فإنَّ عامة الدراسات النقدية التاريخية توافقت في المنهج دون أن يكون المنهج موصوفًا محددًا من خلال التحاكم إلى الوثاق والعقل والخبرة بالتاريخ.

فنجد أنَّ تاريخ المحدثين دوَّنه مؤرخون كثيرون، كالإمام الذهبي الذي كان يسير على منهج، وقد اعتمد على مؤرخين قبله، واستفاد من كتبهم، ووافق آخرين= نراه يستدل بقواعد وقرائن تبدو مشتركة بينهم، ونراه لا يذكر اختلافًا منهجيًّا معهم في القواعد النقدية مع بالغ ثنائه عليهم وتعظيمه لهم ممَّا يدلنا على أنَّه كان يسير على منهج مؤرخي المحدثين، واستفاد الكثير من كتبه، كابن ناصر الدين الدمشقي، والحافظ ابن حجر، والعيني، والسخاوي وغيرهم.

فنجد أنَّ مؤرخي المحدثين كانوا يعملون وفق منهج متفق عليه في الجملة.

وقد وضع ابن خلدون كتابًا في الاجتماع الإنساني، حاول من خلاله رسم معالم منهج نقدي يعتمد فقه أحوال الاجتماع الإنساني وعاداته المطردة في نقد الأخبار الماضية بملاحظة الواقع الحاضر.

ونصَّ أيضًا في مقدمته على أنَّ منهج نقد الأخبار الشرعية (لأحاديث) يختلف عن منهج نقد الأخبار عن الوقائع التاريخية.

وقال بوجوب التفريق في النقد بين الأحاديث وبين وقائع التاريخ.

والنقد الصحيح ينبغي أن يراعي قبول ما يستحق القبول ورد ما يستحق الرد، وعلى ذلك: فيجب أن يكون منهج النقد مكافئًا في دقته لثراء التاريخ في وثائقه، ويؤكد ذلك أنَّ المنهج الذي بشَّر به ابن خلدون منهج إجمالي واسع وغير مكتمل المعالم، ثم لم يأتِ بعد ابن خلدون مَن يثير حديثًا عن منهجه من المسلمين في زمنه وما بعده، ولعل السبب في ذلك أنَّ قرون المسلمين الأخيرة انتشرت فيها الأمية وعم فيها الجهل، فشهدت تناقصًا في العناية بالتاريخ ومناهجه وتسجيل وثائقه.

وفي هذه الحقبة كانت أوروبا تشهد نشاطًا علميًّا فريدًا لم يمر عليها مثله من قبل، فتأثر الغربيون الذين انفتحوا على النقد التاريخي في القرن الثامن عشر -من جملة ما تأثروا به- بالمسلمين في مجالات شتى منها علم التاريخ والتوثيق والنقد، وأصبح التاريخ عندهم علم له منهج نقدي وضاح المعالم في القرن التاسع عشر.

وقد برزت أهم المؤلفات التي تصفه وتحدده على يد (لانجلو) و(سينوبوس) العالمان الفرنسيان اللذان تقاسما كتابة «المدخل إلى الدراسات التاريخية» الذي يعد الكتاب الأول في رسم منهجية البحث التاريخي في المدرسة الغربية.

وبعد انفتاح العرب والمسلمين في عصرهم الأخير على معارف الغرب وعلومهم واستفادتهم منهم في المنهجية البحثية في التاريخ من خلال دراسته أو ترجمة تلك الكتب أو من خلال التأليف المباشر باللغة العربية.

وربَطَه بعض كبار المتخصصين العرب في الدراسات التاريخية بمنهج ابن خلدون، واعتبر أنَّ المنهج الغربي الذي يسلكه الغربيون المستشرقون الجدد ما هو إلَّا صورة محدثة أكثر وضوحًا وكمالًا من منهج ابن خلدون.

وقد ألف أسد رستم أول كتاب عربي يراعي المنهجية الغربية في البحث التاريخي، وموضوعه بحث في نقد الأصول، وتحري الحقائق التاريخية، وإيضاحها وعرضها، وكانت تسميته بـ (المصطلح) اقتباسًا من علم مصطلح الحديث؛ لإعجابه الشديد بالمحدثين وجهودهم، فكتابه صياغة للمنهج الاستردادي التاريخي بأسلوب يعتمد اصطلاحات المحدثين وتسمياتهم حسب اطلاعه عليهم.

المبحث الثاني: الأسس النقدية بين منهج المحدثين ومناهج نقد التواريخ

تمهيد:

في سياق أي مسيرة علمية، سواء أكانت دراسة تراثية تاريخية أم غيرها من الدراسات: يتكون النقد تلقائيًّا في خلفيات تلك المسيرة؛ ليشكل سياجًا منيعًا لحفظ ذلك العلم أو التراث وتقويمه.

وقد عرفت البشرية محاولات عديدة في نقد الأخبار والتواريخ، ويبدو أنَّها قد توافقت -على تباعد أزمانها وأماكنها وأحوال تواريخها- في القدر الذي يشكل المرتكزات النقدية الأساسية.

وعلى ذلك؛ فإنَّه يمكننا القول بأنَّ مناهج النقد التاريخي تكونت وتكاملت من خلال عوامل، ويمكن تقسيم هذه العوامل إلى منطلقات أسهمت في نشأتها وبداية تكونها، وموجِّهات حددت طريقة اكتمالها.

ومنهج المحدثين في النقد معدود ضمن مناهج النقد التاريخي من حيث الأصل، وقد تم حصر الاحتمالات الأولية للعلاقة بين منهج المحدثين وبقية مناهج النقد التاريخي في احتمالات ثلاث:

الاحتمال الأول: أن تكون منطلقات النقد التاريخي وركائزه الأساسية بما فيها منهج المحدثين: متفقة.

الاحتمال الثاني: أن تكون مشتملة على قدر متفق عليه وآخر مختلفٍ فيه.

الاحتمال الثالث: أن تكون متباينة ليس بينها تلاق.

فنفرض أنَّ جميع مناهج النقد التاريخي -بما فيها منهج المحدثين- تتفق في منطلقاتها وركائزها الأساسية، فهذه الفرضية تحتاج إلى معالجة واختبار، وسيكون ذلك من خلال البحث في المطالب الآتية:

المطلب الأول: الاحتياجات الأساسية المطلوب توافرها في الناقد:

نجد أن النقد الجيد لدى الجميع لا يقوم إلا بعد توافر أمرين:

الأول: توفر الموهبة النقدية لدى القائمين على النقد.

الثاني: توفر الخبرة والممارسة الطويلة للفن أو العلم أو التراث (المقصود بالنقد).

المطلب الثاني: بداية انطلاق النقد في جميع المناهج والمحاولات النقدية التاريخية:

نجد أنَّ البداية متشابهة بين جميع مناهج النقد التاريخي ممَّا يعني أن انطلاقات مناهج النقد التاريخي متفقة عند الجميع، وتفسير هذا التطابق: أن فطرة الإنسان وتكوينه العقلي مشتمل على كل أساسيات عملية النقد التاريخي.

المطلب الثالث: الأساس الذي قام عليه منهج النقد عند المحدثين وموقف المناهج التاريخية منه:

نجد أنَّ الأس الأساس الذي بنى عليه المحدثون منهج نقدهم بعد طول تتبع وتأمل لعباراتهم وتطبيقاتهم النقدية هو:

أنَّ الرواية لا يمكن أن يتطرق إليها الخلل إلَّا بسبب راويها، إمَّا بسبب كذبه متعمدًا أو بسبب وهمه وخطئه، وأنَّ الرواية لو أمنت منها لوصلت كما هي من غير تغيير.

ونتيجة المبحث بأكمله: أنَّ منهج المحدثين وبقية المناهج التاريخية تتفق في المنطلقات والركائز.

المبحث الثالث: قوانين المحدثين النقدية في ميزان النقد التاريخي

القانون الأول: الخبر إذا جاء من جهات عديدة متباعدة يُؤمَن تواطؤها على الكذب، وانتشر ولـم يُوجَد له مُخالِفٌ= وجب تصديقه بلا بحث ولا نظر.

القانون الثاني: الحديث إذا لـم يبلغ حدَّ التواتر، لا يمكن قبولُه أو ردُّه إلَّا بالبحث والاستدلال على قبوله أو رده، من خلال النظر في جميع القرائن المؤثرة المحيطة به، والموازنة بينها.

القانون الثالث: رُواة الأخبار يتفاوتون في الوثاقة، وتفاوتهم راجع إلى درجة الأمان من كذبهم وخطئهم.

القانون الرابع: الأصل قبول خبر الثقة حتى تدل القرائن على خطئه.

القانون الخامس: الأصل عدم قبول خبر غير الثقة حتى تدل القرائن على صدقه.

القانون السادس: الخبر إذا تعددت طرقه كان أقرب إلى القبول من خبر الواحد المنفرد.

القانون السابع: إذا اختلف الرواة في خبر؛ فإنَّ ترجيح أحد أوجه الخلاف يكون بالقرائن.

القانون الثامن: …([1]).

القانون التاسع: قد يتقوَّى الحديث الذي جاء من طريق ضعيف بمجيئه من طريق آخر دلت القرائن على أنه يقويه.

القانون العاشر: الجهل براوي الحديث أو بحاله يوجب التوقف والاحتياط في قبول خبره؛ خشية أن يكون غير مأمون عليه.

وعرضها مبينًا أنَّ منها: ما هو متفق عليه بين جميع نقاد التواريخ، ومنها: ما لا تنكره المناهج النقدية الأخرى وإن لم تكن نصت عليه.

الفصل الثاني: أدبيات منهج النقد التاريخي (الاستردادي) وعرضها على منهج المحدثين

تمهيد: منهج النقد التاريخي الاستردادي

قد سبق العمل به قبل وضعه وتحديده على أيدي المؤرخين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وسبق العمل به في كثير من الدراسات النقدية التاريخية القديمة، وعمل به المؤرخون المسلمون وبشر به ابن خلدون، وكذلك عمل به الفلاسفة الغربيون المتأخرون، وعمل به أتباعهم من خبراء الدراسات التاريخية الذين ابتدأوا رسم معالمه ووصفه معتمدين على خبرتهم وتطبيقاتهم، فهو منهج إنساني مشترك.

المبحث الأول: أدبيات منهج البحث التاريخي الاستردادي

لـم يصل المنهج الاستردادي إلى إنتاج قانون نقدي يطبق على كافة الوثائق، وذلك لأنَّه وضع وضعًا إجماليًّا؛ ليكون صالحًا لجميع الدراسات التاريخية على تفاوت طبيعتها، وهذا المنهج الإجمالي قد اشتمل على أدبيات واضحة تحدد معالمه، وهذه الأدبيات:

– استرجاع الزمن والعودة إلى الماضي.

– الاعتماد على الملاحظة غير المباشرة؛ وعليه: فإنَّ طبيعة المعرفة التاريخية عند أصحاب هذا المنهج ضعيفة نسبيًا.

– تختلف جدواه البحثية قوةً وضعفًا بحسب التاريخ الذي يبحث فيه، من حيث نسبة الشواهد والوثائق الموجودة فيه.

– يراعي طبيعة كل تاريخ في اختيار الأدوات النقدية المناسبة له.

– يسعى لتجويد عملية النقد قدر الإمكان.

ويبدو من خلال أدبيات هذا المنهج أنَّه منهج صحيح تقبله الفطرة السليمة، لكنَّه إجمالي غير متخصص، موضوع لجميع الدراسات التاريخية على حد سواء.

المبحث الثاني: عرض أدبيات المنهج التاريخي على منهج المحدثين في النقد

أولًا: من جهة كون المنهج التاريخي الغربي منهج استردادي يسعى لإثبات الوقائع التاريخية، فمنهج المحدثين النقدي كذلك في أصله؛ فالوثائق عندهم هي الرواة.

ثانيًا: من جهة كون المنهج التاريخي الغربي يعتمد على الملاحظة غير المباشرة؛ فإنَّ منهج المحدثين في الأصل كذلك، لكنَّهم جبروا هذا النقص من خلال الأسانيد، وما فيها من اعتماد الراوي الأول على الملاحظة المباشرة، واعتماد الراوي الثاني عليه في ذلك، وهكذا.

ثالثًا: من جهة كون المنهج التاريخي تختلف جدواه البحثية قوةً وضعفًا بحسب التاريخ الذي يبحث فيه؛ فإنَّ منهج النقد عند المحدثين يراعي ذلك، ولكن ما يباشره بالبحث هو منهج غني جدًّا بالشواهد والوثائق، وهو: تاريخ السنة النبوية.

رابعًا: أمَّا من جهة المنهج التاريخي يراعي طبيعة كل تاريخ في اختيار الأدوات النقدية المناسبة له، والتي ينبغي أن تتوفر لدى الناقد، فإن منهج المحدثين النقدي يراعى ذلك من حيث الأصل، مع وجود فارق، وهو: أنَّ منهج المحدثين مصمم بتفصيل تخصصي مناسب للتاريخ الذي بحث فيه (تاريخ السنة)، وأنَّ المنهج التاريخي الاستردادي مصمم بإجمال لجميع الدراسات.

خامسًا: أمَّا من جهة سعي المنهج التاريخي الاستردادي لتجويد النقد التاريخي من خلال تقسيمه إلى نقد خارجي ونقد باطني، فمنهج المحدثين النقدي يراعي ذلك، جامعين بين النقدين في قانون واحد، وهو: تعريف الحديث الصحيح.

ويتبين لنا أنَّ المنهج الاستردادي بالنسبة لمنهج المحدثين منهج بدائي إجمالي، وأنَّه ليس بينهما نقاط اختلاف في الأصول، وأنَّ منهج المحدثين يأتي في مرحلة متقدمة تخصصية تفصيلية بالنسبة للمنهج التاريخي.

الفصل الثالث: طريقة بناء المحدثين لمنهجهم النقدي الخاص

المبحث الأول: جهود المحدثين في تهيئة تاريخ السنة وتوفير أدواته النقدية

إنَّ بناء تاريخ غني بأدوات النقد هو الأساس الأول الذي تُبنى عليه عملية النقد الدقيق، وممَّا تميز به المحدثون أنَّهم هم الذين صنعوا تاريخهم، وهم الذين تولوا نقده، ومن الجهود التي مكنتهم من تهيئة التاريخ لممارسة نقده بدقة فائقة:

أولًا: بدأ المحدثون جهودهم، فكثفوا مَن نشر الروايات ونوَّعُوا جهات نشرها، ممَّا كوَّن لهم ثراءً تاريخيًّا كبيرًا يعينهم على الدقة في النقد، فمنهج المحدثين في النقد يراعي طبيعة الرواية، وما تلقته من خدمة في النشر، ويدقق أو يتساهل في نقدها بحسب طبيعتها وأهميتها، فهو منهج قائم على تحقيق التوازن التام بين القبول والرد.

وذكر جملة من الأحاديث الحاثة على نشر السنة، وأنَّهم ساروا على تلك الخطة، ثم قال: وبهذا يظهر أنَّ المحدثين -رحمهم الله- قد وفروا من خدمة نشر السنة ورصد طرق الحديث وتواريخ الرواة وأحوالهم ما يكفي لإجراء نقدهم التفصيلي الدقيق، بدليل أنَّه أصبح هو عمدتهم في النقد بصريح عباراتهم كما سبق نقله عنهم.

المبحث الثاني: بناء المحدثين منهجهم النقدي وتكميله

المطلب الأول: تأسيس المنهج النقدي:

بني المحدثون أساس منهجهم على القاعدة الفطرية الإنسانية، وهي: أنَّ الخبر لا يمكن أن يُخالف الحقيقة إلَّا بكذب راويه أو خطئه، وبنو على هذه القاعدة المطالبة باتصال السند، واشترطوا أن يبيِّن الراوي عمَّن أخذ روايته، حتى ينتهي الإسناد إلى المخبر الأول ليتأكَّدوا أنَّ كل الرواة في الإسناد من أهل العدل والضبط، مع انتفاء الشذوذ والعلة، كما راعى المحدثون اختلاف طبيعة الروايات وأحوالها فتشددوا في الأحاديث المشتملة على الأحكام، وتساهلوا فيما سوى ذلك.

وأورد أمثلة تطبيقية توارد فيها أحكام الأئمة على اكتشاف خطأ الرواة ووهمهم.

المطلب الثاني: إكمال إنتاج القانون النقدي عند المحدثين:

أول أجزاء ذلك القانون: يأتي من جهة التوقي من كذب الرواة.

والثاني من أجزائه: يأتي من جهة التوقي من خطأ الرواة.

والثالث من أجزائه: ألا نكتفي لقبول حديث الراوي بمجرد أن يكون عدلًا ضابطًا حتى نتأكد من تلقي الخبر من مصدره.

والرابع والخامس: أن نضمن الراوي الثقة لـم يخطئ في روايته (ولم يدلس).

هذه هي أجزاء القانون التي خرجوا بتجميعها في قانون كامل، وهو: تعريف الحديث الصحيح.

ووصول المحدثين إلى تعريف كامل للرواية الصحيحة يُعد إبداعًا لم يُسبقوا إليه، وهو: دليل على إتقانهم، وهذا القانون المكتمل من حيث الجملة ليس هو نهاية طريق إبداعهم النقدي وتجويدهم، بل وراؤه إبداعات أخرى، وهو: ما سيأتي في المطلب التالي.

المطلب الثالث: تكميل جزيئات القانون النقدي وضبط استثناءاته:

الراوي العدل الذي اشترط المحدثون وجوده في الرواية: يحتاج إلى تعريف دقيق يَفصِل بين العدل وغير العدل فصلًا تطبيقيًّا، وقد عمل المحدثون عملًا كثيرًا حتى خرجوا بتعريف دقيق له، فقالوا: نشترط أن يكون مسلمًا عاقلًا بالغًا معظمًا للإسلام وحرماته، ذا مروءه.

وقالوا: العدالة درجات، ينبغي أن تراعى في ترتيب طبقات العدول، وفي مقارنة المرويات والترجيح بينها، وقسموا الرواة من حيث العدالة إلى مراتب، وكذا فعلوا في شرط الضبط وقسموه إلى مراحل:

المرحلة الأولى: حسن الأخذ والتحمل.

المرحلة الثانية: حفظ الرواية وضبطها بعد أخذها.

المرحلة الثالثة: حسن الأداء.

هذا بالنسبة للعدالة والضبط، أما اتصال السند: فعملوا فيه أعمالًا كثيرة، من جملتها: أنَّهم تتبعوا أحوال انقطاع الإسناد، وبينوا أنَّ الانقطاع إمَّا أن يكون ظاهرًا أو خفيًّا، مع بيان أسبابهما.

وأما شرط انتفاء العلة: فدققوا فيه غاية التدقيق، فاستقرأوا الروايات، وبينوا قرائن القبول والرد عند التفرد والاجتماع.

ولم يقف إبداعهم عند هذا الحد، بل وفروا شيئًا مهمًا لأتباعهم من المتأخرين، وهو: ما سيأتي في المطلب الآتي.

المطلب الرابع: توفير الوسائل المساعدة على استمرار دقة النقد بعد عصر الرواية:

الطريقة الصحيحة لإبقاء جودة النقد ودقته على مر الزمان هي: إيجاد وسيلة تحكم المتأخر في ألا يخرج عن نهج المتقدم، وذلك عن طريق توفير مراجع حديثية للأحكام النقدية على المتون والأسانيد من قبل المتقدمين، تصبح للمتأخرين الوسيلة الأهم من وسائل نقد الروايات، وهذا الإبداع من المحدثين في إبقاء جودة النقد مستمرة مع الزمن هو الذي حفظ علومهم وتراثهم ولولاه لجاء من لا يفهم أقوالهم فأهدر قيمتها.

المبحث الثالث: التوصيف الإجمالي لمنهج المحدثين النقدي

ملخص توصيف منهج المحدثين النقدي أنَّه: قانون نقدي كلي يشمل قوانين نقدية جزئية تطبق على روايات السنة خاصة، باستعمال وسائل وأدوات فطرية، وباستعمال عائد عمليات النقد الجزئية، ونواتجها بشكل شمولي، وهذا القانون الكلي هو تعريف الحديث الصحيح، وابن الصلاح في كتابه «معرفة أنواع علم الحديث» هو أول من صاغه من خلال عبارات الأئمة السابقين وتصرفاتهم، وتابعه عليه كل من جاء بعده.

وهذا القانون النقدي المتمثل في تعريف الحديث الصحيح لا يصحُّ أن يطبق إلَّا على روايات السنة النبوية خاصة؛ لما لها من ثراء يُمَكِّن هذا القانون النقدي من العمل بدقة عالية وكفاءة، ولا يطبق إلَّا بفهم الأئمة النقاد، وعلى الدارسين أن يطبقوا القانون النقدي مقرونًا بأحكام الأئمة النقاد؛ وإلَّا فلن يصلوا إلى أحكام صحيحة.

الفصل الرابع: المرتكزات التي وحَّدت منهج المحدثين وجوَّدته

المبحث الأول: ارتكازهم على قضايا فطرية لا يختلف عليها العقلاء

كل ركائز منهج المحدثين فطرية ومكتملة وقوية عند المسلمين، بل عند كل عاقل ومنصف من البشر، فنقدهم حجة على الناس كلهم، ولو كانت ركائزهم غير ذلك لما كان لنقدهم أن يكون حجة على غيرهم، وهذه المرتكزات أسهمت في توحيد عمل المحدثين على تفاوت الأماكن والأزمنة، وهي التي ساعدت في إيصال النقد الحديثي عندهم إلى أعلى درجات الجودة الممكنة.

المبحث الثاني: الاستقراء الكافي للأدلة والقرائن المؤثرة

أثبتت الدراسات العلمية والإنسانية على مرِّ العصور أنَّ الاستقراء في دراسة أي حالة هو أدق طريق للحكم عليها، وهذا المنهج العلمي الفطري المتميز يرتكز عليه منهج المحدثين في النقد ارتكازًا كليًّا، وكانوا -رحمهم الله- يصرفون عامة جهودهم في الاستقراء، فيستقرئون طرق الحديث الواحد والأحاديث الواردة في الباب، ويستقرئون روايات الراوي الواحد، وكذلك أحاديث راو عن شيخ معين من شيوخه لكي لا يزاد فيها ما ليس فيها، ولربما استقرئوا أحاديث المتروكين أيضًا، وقد وصل استقراؤهم إلى الرواة أيضًا، وقد استعانوا -رحمهم الله- على تحصيل الاستقراء التام باتباع استراتجيات محكمة تتمثل في: الرحلة في طلب الحديث والمذاكرة، فكان للاستقراء التام والتزامهم إياه في منهج نقدهم أثرًا بارزًا في توحيد جهودهم وتكميل منهج نقدهم، وهو: أيضًا ملزم لكل البشر بعدهم.

المبحث الثالث: منهج المقارنات والموازنات بين الرواة والروايات

عَمِل المحدثون بعد استقرائهم ورصدهم للجزئيات على الموازنة والمقارنة والرصد الكامل لأوجه الاتفاق والاختلاف، وجمع القرائن المحتفة بكل رواية، ثم الحكم على الروايات بما يناسبها من القبول أو الرد، والقوة أو الضعف، وهذا أيضًا مسلك فطري إنساني معتمد في جميع الدراسات الناضجة الأخرى.

وقد كانت هذه المقارنات هي الوسيلة الأهم للحكم على الرواة أيضًا، وبناء على هذه الموازنات والمقارنات أصدروا أحكامهم على الرواة والروايات، وتناقلوا تلك الأحكام لأهميتها، كما يتناقلون الروايات بالأسانيد ليتوفر لهم الحفظ والمراجعات الكافية لتحريرها.

المبحث الرابع: ارتكازهم في عملهم على استراتيجيات محكمة

وهي من أهم الأشياء التي منحت منهج المحدثين قوة كبيرة ودقة عالية، واستطاعوا أن يبنوا بها تاريخًا حافلًا بالوثائق والشهود، ومن أهم مزايا هذه الاستراتجيات: أنَّها قوية الأثر قليلة التكاليف، ويمكن أن ندل عليها من خلال مراحل ثلاث:

أولها: نشر الروايات وتكثير الوثائق والشهود.

المرحلة الثانية: تتبع طرق الحديث التي انتشرت في البلدان وجمعها واعتبارها، متمثلة في «الرحلة في طلب الحديث».

المرحلة الثالثة: المذاكرة، فبعد أن رحل المحدثون إلى الآفاق ليسمعوا الأحاديث، جاءت مرحلة جديدة استعمل فيها المحدثون استراتيجية محكمة جدًّا، وهي: المذاكرة، والتي يستعملها الرواة لغرضين أساسيين: تذكر ما عندهم من الروايات وإحيائها في الذاكرة حتى لا تُنسى، واستفادة ما ليس عندهم ممَّا هو عند أقرانهم، والمذاكرة كانت تُعرف في زمن أصحاب النبي، ولكن معناها: «تذكر الحديث والتفكر في معنى الحديث وفقهه»، أي: مذاكرة متن الحديث وما اشتمل عليه من فوائد، ثم انتقلت المذاكرة إلى التابعين ومن بعدهم بإضافات في معناها.

وقد تنوعت المذاكرة أنواعًا، منها:

– المذاكرة على الأبواب، والمذاكرة على تراجم الشيوخ، والمذاكرة على مسانيد الصحابة، والمذاكرة على البلدان… وغيرها، وكان للمذاكرة أثارًا مهمة على منهج المحدثين النقدي متعلقة بضبط الأحاديث والاستقصاء في جمع طرفها ومقارنة الروايات، ومعرفة الصحيح من الضعيف، وهكذا.

المبحث الخامس: ارتكازهم في نقد الحديث إلى مرجعية حاكمة للنقد

من أهم مزايا منهج نقد الأخبار عند المحدثين: أنَّهم راعوا طبيعة الأخبار التي تعانوا نقدها وتعاملوا معها وفق تلك الطبيعة، فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو نبي، أنزل الله عليه كتابه، وأمره بتلاوته على الناس، وأمر الله بطاعته واتباعه، فينبغي أن تكون سنته معصومة، وكل تلك الحيثيات أوجدت عندهم قواعد وظفوها في فهم الروايات ونقدها، وأصبحت هذه القواعد مرجعيات مهمة في نقد السنة، إضافة إلى طريقة التوثق من صحة ما نَسب الراوي له، والتي يعمل المحدثون من خلالها بتتبعهم الرواية ومقارنتها، والاستفادة من الرصد الدائم لما يأتي به الرواة في السنة.

– فالسنة ينبغي ألا تخالف القرآن الكريم.

– والسنة لا تختلف اختلافًا متضادًا فيما بينها، والخبر الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يخالف الخبر الصحيح.

– والسنة لا تخالف العقل الصريح، ولا الواقع المشاهد، ولا الحقائق الثابتة، والدين محفوظ فلن يضيع منه شيء، لا يقوم دين الناس إلَّا به.

– وكل خبر مهم في السنة ينبغي أن يكون منتشرًا فلا يصح أن ينفرد به أحد دون عامة الناس.

– أخبار السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر الدين، ومرتبطة بعمل الناس وواقعهم، وقد عُرف عن المحدثين اهتمامهم بالحكم على الخبر من جهة عمل أهل العلم به.

– كما اهتموا بما ورد عن الصحابة من الآثار من أقوالهم وأفعالهم.

وقد كان لمراعاة هذه القواعد والمرجعيات عند المحدثين أثر بالغ في تجويد نقدهم وإتقانه وتوافقهم عليه، وهذا من حسن تكميلهم لمنهج نقدهم -رحمهم الله-.

المبحث السادس: ارتكازهم على التخصصية في تقديم الخدمة العلمية

ومن مرتكزات مناهجهم في النقد: التخصص وضبط التفاصيل، ولا أدل على ذلك من تقسيمهم علم الحديث إلى علوم عديدة؛ ليسهل ضبطها وينهض لكلٍّ من يقوم بخدمته، وهذه الأنواع المتنوعة من علوم الحديث إنَّما نشأت خلال عملهم ورصدهم الدؤوب للروايات وأحوالها وأحوال رواتها.

ومن مظاهر التخصصية عند أئمة الحديث: أنَّهم راعوا مواهبهم واستثمروها، فمن أوتي موهبة الحفظ صار حافظًا كبيرًا، ومن أُوتي موهبة النقد فيكاد يغلب على تراثهم المادة النقدية، فالتخصصية التي ساروا عليها كانت سببًا رئيسًا من أسباب إتقان نقدهم وتوحيده، وخدمة مناهجهم وتكميله.

—————————————

([1]) لم يذكره المصنف؛ فلعله سهو منه، والله أعلم.

المصدر: مركز نماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى