كتابات مختارة

هل في الإسلام كهنوت؟

بقلم علي جابر المشنوي – الإسلام اليوم

يتكرر كثيراً ، عندما تُناقش قضية شرعية أو نازلة فقهية ، يحاول البعض إبداء رأيه في القضية ، وهذا الرأي لا يحمل في طياته أدلة شرعية ، ولا نَفَس علمي يدعمه ، بل أركان هذا الرأي هي وجهة نظر القائل ليس إلا! فإن قُلتَ له لا تتكلم في الشريعة بلا علم ، واترك الالبحث في هذا الباب لأهل الاختصاص قال لك : الإسلام ليس فيه كهنوت ، وأنت تمارس الكهنوت تجاهي بطلبك هذا ، حيث تقصر معرفة الحق على طائفة محدودة من الناس!

هنا سوف نناقش هذا الاعتراض الذي صار متداولاً.

ما هو الكهنوت؟ وما هو الفرق بين الكهنوت والتخصص العلمي؟ وهل المطالبة بتعلم علوم الشريعة قبل الخوض فيها هو شرطٌ مُجحف أو فاسد ؟

الكهنوت – باختصار أرجو ألا يكون مُخلاً – هو قصر ممارسة شيء على فئة مُعينة من الناس لا يعرف أسرار هذا الشيء والحق فيه غير هذه الفئة. ومعلومٌ أن الكنيسة اشتهرت بممارسة الكهنوت حتى أودت هذه الممارسة – وغيرها من الممارسات – بالكنيسة من المركز إلى الهامش ، وممن يمارسه أيضاً الراوافض.

فهل يصح أن نقول لمن يأمرنا بعدم الخوض في الشريعة بلا علم : أنت تمارس الكهنوت؟ ما هو الفرق بين من يضع المعرفة بعلوم الشريعة شرطاً على من يريد الخوض في الشريعة وبين من يشترط المعرفة بعلم الطب – كعلم تجريبي – أو المعرفة بعلم الاجتماع -كعلم نظري – قبل الخوض في هذه العلوم؟

لا فرق البتة!

إن اشتراط تحصيل ومعرفة أدوات أي علم من العلوم قبل التكلم فيه هو شرطٌ بدهي يُجمع عليه كل عقلاء العالم ، وهو شرطٌ مُطبقٌ من آماد بعيدة ولا يزال إلى اليوم في شتى العلوم والحقول ، ولو اختل هذا الشرط لاختلت العلوم كلها ولما عرفنا الفرق بين العالم والجاهل ولا بين النتيجة الصحيحة والفاسدة ولتحدث كل أحدٍ في كل شيء بلا خطام ولا زمام!

فالمهندس لا يخوض في مسألة طبية إذا كان لا يعرف علم الطب والطريقة المتبعة عند أهل الطب في بحث المسائل الطبية ، والعكس صحيح في حق الطبيب الذي لا يعرف علم الهندسة. والشريعة الإسلامية شريعة ربانية إلهية أنزلها الله على البشر ليتعلموها ويعملوا بها ، ومعرفتها والنبوغ فيها والتأهل للخوض فيها لا يمكن أن يحصل إلا لمن عرف الأدوات العلمية التي بها يُخاض في علومها.

وهذه الأدوات معروفة ومتاحة للجميع ، فليست متاحة لإحد دون أحد أو لجنس دون جنس ، بل هي مبثوثة مكشوفة للجميع ومن حق كل أحد أن يتعلمها! ومن تعلمها وأتقنها فمن حقه أن يتكلم بما أوصله إليه اجتهاده المبني على هذه الأدوات المكتسبة ، ومن البدهي أن الشريعة أيضاً لا تشترط طريق الشهادات الأكاديمية – على سبيل المثال – طريقاً وحيداً للخوض فيها ، بل كل طريق يحقق شرط تعلم الشريعة ويوفر أدوات هذا التعلم هو طريقٌ صحيح لا غبار عليه ، وهذا هو الفرق بين الكهنوت والتخصص : فالكهنوت كما أسلفنا هو قصر الفهم وأدوات الفهم على طائفة معينة من الناس ، وأما التخصص فهو يطلب ممن يريد أن يخوض في علم من العلوم أن يفهم هذا العلم وأن يعرف أدوات فهمه ، وهذه الأدوات مبثوثة مكشوفة وفي متناول كل أحد.

أما أن يتكلم في الشريعة كل أحدٍ برأيه المبني على الهوى والذوق ثم إذا أنكرنا عليه قال الشريعة ليس فيها كهنوت وليست لأحدٍ دون أحد فهو جهلٌ وقفزٌ على الحقائق ، بل الممارس لهذا إنما يتهم الشريعة بأنها مبنية على الفوضى وبأنها ناقصة حيثُ لم توفر طريقاً علمياً بواسطته تُعرف حقائقها ، وهذا باطل والشريعة مصانة عن كل هذه النقائص المضمنة في اعتراض المُعترض – حتى وإن كان لا يقصد ذلك – بل هي شريعة الله الكاملة الشاملة التي اختارها الله لكل البشر وختم بها الرسالات السماوية (( اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام ديناً ))

وشرط تعلم الشريعة قبل الخوض فيها ، شرطٌ يقعُ على كل أحدٍ ، فالعابد الصائم القائم لا يحق له رغم عبادته وصلاحه أن يتكلم في دين الله إلا إن كان عالماً به ، وهذا من الدقة بمكان.

وبهذا يتبين أن الخطاب العاطفي الذي يتردد كلما أنكر المنكرون على الخائضين في دين لله بلا علم = هو خطابٌ غير علمي وغير مبني على مقدمات علمية ، بل هو يحاول بطريقة ملتوية أن يُلبس نفسه ثوب المظلوم برفع هذا الشعار “شعار أننا كلنا مسلمون والشريعة الإسلامية وفهمها ليس حكراً على أحد ، وليس من حق المتشددين أن يمنعوا غيرهم من الكلام في الشرع” هكذا يقولون ، بينما الحقيقة كما بينا آنفاً أنه لا يوجد في الإسلام كهنوت ولا يوجد من أهل العلم المعتبرين في شتى العصور من زعم أن المعرفة بالشريعة مقصورة على جنس دون جنس أو لون دون لون ، لكن هؤلاء العلماء يحفظون النصوص من اللصوص ، اللصوص الذين يتطفلون على شريعة الله بلا علم ولا هدى ويقولون فيها بما يشتهون ، وهؤلاء اللصوص ينتفضون غيرة عندما يتحدث أحد الناس في تخصصهم العلمي وهو من غير المتخصصين! فتأمل كيف يجعلون شرع الله كلأً مشاعاً لكل جاهل وصاحب هوى يقول فيه بما يشاء ويشتهي ثم هم إن تعلق الأمر بتخصصهم بنوا دونه الحصون ووضعوا المتاريس أمام الغريب ممن ليس من أهل الصنعة!

ولو تأملت التاريخ العلمي لعلماء الشريعة لوجدتهم لا يمنعون المتأهل للكلام في الشرع عن البحث والكتابة فيه ، حتى وإن خرج بنتائج باطلة ، فهم لا يسلبون عنه صفة العلم ما دامت متحققة فيه وإن كانوا يردون ما وقع فيه من الأباطيل ويبينونها ، وهذا عين الإنصاف والانتصار ، الإنصاف لصاحب القول بعدم سلب صفة العلم منه ، والإنتصار للحق ببيان بطلان القول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى