تقارير وإضاءات

الموصل.. آخر معاقل العرب السنة في العراق!

مركز التأصيل للدراسات والبحوث

محزن فعلا أن يعلن حيدر العبادي –رئيس الوزراء العراقي، القادم من حزب الدعوة الإسلامية الشيعي، والمحمل بأعباء الطائفية، عن انطلاق ساعة الصفر لتحرير مدينة “الموصل” السُّنِّية من يد “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” الموصوف بـ”داعش”. وهي المدينة المكلومة التي جرى انسحاب الجيش العراقي منها عام 2014م، ليدخلها تنظيم “داعش” بدون أي مقاومة تذكر، ليغنم الأموال الضخمة التي كانت في فروع البنك المركزي العراقي بالمدينة، ويستولي على كافة المعدات العسكرية الهائلة [مدافع ودبابات ومدرعات ومنصات صواريخ وأسلحة مختلفة وذخائر وطائرات!]، وينطلق في تأسيس “دولة الخلافة”!

سقوط الموصل الأول:

يرجع الخبراء والمحللون ما جرى في الموصل إلى تواطؤ خفي وانسحاب غير معلن قامت به القوات المسلحة التابعة للحكومة العراقية، لإفساح المجال لتنظيم “داعش” لبسط نفوذه في المناطق السُّنيَّة بالعراق وكذلك سوريا. وهي وجهة نظر تدعمها عدة معطيات:

الأول، روايات الجنود والمنتسبين للقوات المسلحة التي تناقلتها وسائل إعلام مختلفة عن صدور أوامر بالانسحاب من المدينة، وترك جميع المعدات، وعدم دخول معركة مقاومة ضد التنظيم. وقد تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية مشاهد الانسحاب العاجلة التي جرت في حينه.

الثاني، هروب عدد من القيادات العسكرية والأمنية دون إعطاء أي توجيهات للجنود والعساكر المقاتلين لإحداث نوع من الفراغ، نتج عنه هروب الجنود وموظفي القطاعات الأمنية والعسكرية.

الثالث، غياب أي خطط عسكرية وأمنية لمواجهة تمدد التنظيم إلى أكبر معاقل السنة في الشمال العراقي، وتركه فريسة للتنظيم ليقيم عليه مشروعه الوهمي “دولة الخلافة”. وهو مشروع أنهك الفصائل الثورية والمقاومة في سوريا، كما أنهك وأضعف الحراك الشعبي الثوري الذي انطلق في العراق ضد حكومة بغداد الطائفية الموالية للاحتلال.

لقد أثر سقوط مدينة الموصل في يد تنظيم “داعش” منتصف عام 2014م، على المشهدين العراقي والسوري. فقد أمدَّ حكومة بغداد الموالية لطهران بأسباب الممارسات العدوانية على المحافظات السُّنيَّة مجددا؛ كما أمدَّ حكومة دمشق المستعينة بإيران بالذرائع الأمنية لقتال الشعب السوري. بل وأكثر من ذلك استدعى تمدد تنظيم “داعش” في المنطقة وإعلانه الخلافة قيام تحالف دولي جديد يعزز حملاته العسكرية في المنطقة، ونفوذه الأمني على دولها، واستنزافه لثرواتها.

سقوط الموصل الثاني:

اليوم وبعد أن تمكنت إيران من تعزيز نفوذها في العراق وسوريا، وبعد أن دمَّرت مقدرات السُّنَّة في البلدين، وقُضِيَ على ثورة الشعب العراقي ويوشك أن يُقضَى على ثورة الشعب السوري، يتم الإعلان عن اقتحام الموصل وتحريرها من تنظيم “داعش”، بغطاء أممي يساند الحشود الطائفية على الأرض!

والموصل لمن يجهل موقعها الجغرافي والتاريخي ومكانتها في الحضارة الإسلامي وخارطة الموازين السياسية. فهي ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد، تقع على نهر دجلة شمال العراق. وهي مدينة قديمة، فتحت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه، ومنذ ذلك التاريخ وهي حاضرة من حواضر المسلمين. أصبحت مدينة الموصل أهم مراكز انطلاق للفتوحات الإسلامية بعد استقرار القبائل العربية فيها، خصوصاً إبان الدولة الأموية.

وتضم المدينة اليوم 2 مليون نسمة، معظمهم من السُّنة، وغالبيتهم عرب من قبائل: شمر والجبور والديلم وطيء والبقارة. وهي بالرغم من ذلك تحتضن طوائف مختلفة، بما فيهم النصارى، كما توجد فيها أثنيات كردية وتركمانية وغيرها. وهي مدينة تجارية تقع على خطوط التجارة إلى أرمينيا وتركيا والشام. ورغم تعاقب الدول عليها والإمارات إلا أنها ظلت صامدة أمام الفتن التي واجهتها نتيجة هذه التغيرات.

اليوم تقع الموصل تحت نيران قوى تحالفٍ دوليٍ –يدَّعِي العجزَ في سوريا، ويمارسُ عَرضَ القُوةِ في العراقِ- ونيران الحشد الشيعي المرافق لجيش الحكومة الطائفية. وسبق للحشد الشيعي –المسمى بالحشد الشعبي- أن ارتكب جرائم وفظائع على السُّنة في المناطق التي ادعى تحريرها من تنظيم “داعش”.

وقد سبق للحكومة العراقية أن أعلنت حملة تحقيقات في هذه الانتهاكات التي شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء، ويتحدث بها أبناء العراق بمرارة. كما تحدث وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي عن هذه الانتهاكات، وأدانها واتهم بها “القوى غير المنضبطة والعصابات الفاسدة التي سعت لإثارة الفتنة الطائفية” في تكريت!

وذكرت “الأمم المتحدة” في حينها أنه توجد تقارير عن تنفيذ قوات الحشد الشعبي التي تعمل مع قوات الأمن العراقية لأعمال تعذيب، وانتزاع اعترافات بالقوة من الرجال والشباب الفارين من “داعش” وتنفيذ حملة إعدامات. هذا عدا عن مئات الصور والمقاطع التي تظهر النازحين من الفلوجة وهم يتعرضون للاعتقالات والإهانة والضرب على يد هذه المليشيات المسلحة، والمدعومة من حكومة العبادي. وتحدث مئات الأسرى العائدين من مراكز احتجاز الميليشيات عن مقتل العشرات تحت وطأة التعذيب. هذا عدا عن ممارسة عناصر الحشد الشعبي لعمليات السلب والنهب وإحراق المنازل أو تفجيرها، بحجة أنها تعود لعناصر تنظيم “داعش” بمحافظة الأنبار.

كما عملت هذه المليشيات على تهجير ساكني المدن العراقية خارج ديارهم؛ البعض منهم هجر إلى إقليم كردستان والبعض الأخر فرَّ إلى خارج العراق. واتهم مدير المركز الوطني للعدالة الدكتور محمد الشيخلي المليشيات بارتكاب انتهاكات ترقى لجرائم ضد الإنسانية، وكشف أن هناك وقائع وحقائق عن محاولات جرت في بغداد وديالي وصلاح الدين بشأن التغيير الديمغرافي، واعتبر أن الهدف هو تنفيذ أجندات إيرانية من أجل التوسع في العراق والمنطقة. وقال: إن هذه سياسة ممنهجة اتبعها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وحاليا خليفته حيدر العبادي.[1]

داعش غطاء:

إن الذريعة التي تسبق الجريمة باتت مبيتة في العصر الحديث لدى قوى الاستكبار العالمي ولدى كل من يمضي في ركابها وممارساتها. وكما أن أحداث 11 ستبمبر 2001م اتخذت ذريعة لإعلان حرب على أفغانستان والعراق وحملة عدوان على العالم العربي والإسلامي غير معلنة، فقد ذكرت تقارير حقوقية محلية ودولية أن مليشيات الحشد الشعبي هجّرت آلاف العائلات السنية، في محافظتي ديالى وصلاح الدين، إلى حدٍّ بلغ مستوى التطهير العرقي. كما أشارت التقارير إلى أن قتال تنظيم الدولة شكل غطاء أحدثت تحته مليشيات الحشد الشعبي تغييرا ديمغرافيا.

“في الحقيقة ما تقوم به ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية المدعومة سياسيا وعسكريا في العراق من جرائم تفوق في بشاعتها وقبحها جرائم داعش، ذلك أن جرائم داعش تجد الإدانة والمحاربة من كل دول العالم، وعلى رأسها السعودية، بينما جرائم الحشد تحظى بموافقة ودعم الحكومة العراقية، وتجري تحت سمع وبصر الحليف الأمريكي الذي لا يجد غضاضة في جرائم التعذيب والتنكيل التي وصلت إلى حد بثِّ مقاطع لقطع آذان أسرى عراقيين سنة، وإعدام أسرى مكبلين، وحرق أجساد أحياء وموتى!

في العراق لا أحد يسأل ما ذنب ضحايا الحشد الشعبي أو ما إذا كانوا خضعوا لمحاكمات عادلة ناهيك عن معاملتهم بهذه الوحشية، ولا أحد يهتم لردة الفعل على هذه الجرائم الطائفية التي تدفع بعض شباب السنة العراقيين دفعا للانضمام لداعش! باختصار.. لم يعد العراق مستنقعا للصراع الطائفي، بل مقبرة للضمائر الميتة!”[2]

وبالرغم من صرخات الإنذار التي تطلق[3] إلا أن الحكومة العراقية تصرُّ على أن تكون المليشيات الشيعية الطائفية المسماة بالحشد الشعبي في مقدمة الهجوم على الموصل. واليوم وبعد إعلان حيدر العبادي بدء العمليات في الموصل التي حوصرت بشكل تام، تقصف المدينة من البر ومن الجو بشكل مكثف، ويزداد الخناق عليها، ويتحالف على أهلها عدوان داخلي وخارجي. وقد رحب المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي إلى التحالف الدولي “بريت ماكجورك” بإعلان بدء معركة الموصل؛ وتمنى -في تغريدة على موقع تويتر- “للقوات العراقية الباسلة وقوات البيشمركة والمتطوعين من نينوى” التوفيق؛ واصفا ما يجري بأنه “عملية تاريخية”.

ختاما..

لا شك أن “الإرهاب” فتنة، وآفة تفتك بالمجتمعات الآمنة السالمة. لكنه في الوقت المعاصر بات صنعة يولدها إرهاب أكبر، وجرائم بربرية ترتكب بعيدا عن الدين والأخلاق والضمير والحياء، بهدف أن يُعطِي الإرهابيون الكبار لأنفسهم الذريعة لجرائمهم. وإذا قدر للعراق الجريح أن يعاني من آفة الإرهاب الذي ظهر بعد عام 2003م، حين جرى غزو العراق واحتلاله وممارسة أبشع سياسات الظلم والحرمان والعدوان على أهله، فإنَّ ما تبقى من العراق يوأد على يد المليشيات الشيعية الطائفية.

إن الوقوف مع أهل الموصل كي لا تتكرر المجازر ولا تغير ديمغرافية المنطقة، ودعمهم بكل صور الدعم الكفيلة ببقائهم عبر القنوات الرسمية والأهلية، ومن خلال جهود منسقة، مع تحمل مسئولية الدفاع عنهم بات واجبا شرعيا، على الحكومات العربية والإسلامية. وهذا يتطلب تمكينهم من كل ما يكون عونا لهم على الدفاع عن أنفسهم ووجودهم، بعدما باتوا مهددين دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيا.

وعلى كل القوى السياسية والاجتماعية إدانة العمليات التي تطال السنة وتنتهك عقائدهم ووجودهم وحقوقهم وحرياتهم. وأن يتم التصدي لكل الأكاذيب التي تسوق في إطار التصفية الطائفية تجاه السنة في العراق.

 ——————————-

[1] برنامج الواقع العربي، الجزيرة، في 6/6/2015م.

[2] صمت العالم على جرائم الحشد الشعبي!، خالد السليمان، في 1/4/1437هـ- 11/1/2016م.

[3] قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو -في مؤتمر صحفي بأنقرة: “إن مشاركة مقاتلين شيعة في عملية طرد تنظيم الدولة الإسلامية من مدينة الموصل العراقية لن تحقق السلام للموصل، على العكس ستزيد المشاكل. رويترز، في 19/9/2016م.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى