كتابات المنتدى

المسلمون واستثمار الأحداث الكبرى

بقلم: محمد الأمين مقراوي الوغليسي

“بعد فشل الانقلاب قررت زيارة تركيا للوقوف على تجليات المشهد السياسي والاجتماعي بعد سقوط الانقلاب؛ وللوقوف على نفسية الشعب المنتصر، فهي فرصة تاريخية نادرة، في عصر المؤامرات العالمية على الشعوب الإسلامية، عصر عرف الكثير من الانقلابات والخيانات ضد الشعوب، فشهدنا انكسارات وانهيارات، ولم يسعفنا الحظ لنشهد انتصارات الشعوب على الاستبداد والطغيان، فكانت هذه المقالة نابعة من رصد التجربة التركية الشعبية والرسمية في إسقاط انقلاب كاد يقلب المشهد التركي والعربي والإقليمي، الغاية منها – المقالة – وضع اليد على بعض الأمور التي ساهمت في انتصار تركيا على المؤامرة الكبرى، وأيضا استثمار الحدث الذي لازالت آثاره مستمرةّ؛ لأجل المساهمة في تنمية الوعي السياسي والاجتماعي الإسلامي، ولكسر قاعدة رتيبة باتت تسيطر على تفاعلنا مع الأحداث الكبرى، وهي: أننا نتفاعل عاطفيا مع الوقائع والأحداث، ثم ما نلبث أن ننساها ونتناساها، دون أن نفرد لها مساحات بحثية تكشف كيفية وقوعها وتفاعلاتها، وآثارها، القريبة والبعيدة لنفيد منها ونستفيد”.

كسر الأمل .. هذا ما أراده الغرب من دعم الانقلاب التركي:

كان المشهد في الثورات العربية واحدا وهو: خروج الشعب لإسقاط المستبد، لكن ما حدث في تركيا كان مشهدا آخر تماما، حيث خرج الانقلابيون لإسقاط الشعب ومؤسساته وتدمير مكتسباته، ورهن حاضره ومستقبله، وإلغاء كافة إنجازاته تحت مسميات وشعارات وهمية وبدعم وتمويل خارجي عنكبوتي.

ولأننا عشنا السنوات الأخيرة نشاهد مشهدا واحدا وهو: تمكن أنصار الاستبداد من تدمير الإنسان العربي، وتفقير الشعوب، وتمزيق النسيج الثقافي، تخريب الحواضر والمدن، حتى كاد اليأس يأكل القلوب والنفوس؛ جاء رد الفعل الشعبي التركي لينهي استمرارية هذه المعادلة، التي يريد النظام العالمي تطبيقها على كل الدول العربية والمسلمة، ولو نجح الانقلاب في تركيا؛ لأدى ذلك إلى إنهاء الثورة السورية والليبية، ولأعطى ذلك دفعا قويا لإيران؛ للمضي قدما في بسط هيمنتها المطلقة على دول أخرى أهمّها اليمن وسوريا والعراق -بعد أن يكون الأمر قد استقر لها في سوريا- ولاستفردت بالعراق استفراداً لم نشهده من قبل، إلى غير ذلك من الآثار المادية، غير أن أكبر أثر كان سيخلفه نجاح الانقلاب التركي هو: إضعاف الأمل في نفوس المسلمين من عرب وعجم، وهذا ما سعت وتسعى إليه الدول الكبرى الراعية للإرهاب الناعم والانقلابات والثورات المضادة، فهي تعي أن المعركة الحقيقية تجري داخل النفوس والعقول، وأنّ الطريق الوحيد لهزيمة المسلمين كسر إرادتهم، وإعاقة حركتهم، وتدمير روحهم، وتفتيت معنوياتهم وإشاعة اليأس بينهم حتى يحل العجز والقنوط محل العمل والأمل.

قراءة في حقيقة الاستئصال:

إن قتل الأمل في النفوس يسبق الهدف الأخير للعدو، وهو: استئصال المسلمين من جذورهم وهويّتهم، وقد وعد الله المسلمين بالسلامة من الاستئصال، ونتحدث هنا عن الجانب المادي منه؛ لأنّ الاستئصال مادي ومعنوي، أما المادي: فقد وُعدت الأمة بالسلامة منه، وقد تحدث الكثير من العلماء والفقهاء وأهل الفكر عن هذا الأمر؛ استنادا لما جاء في السنة النبوية الشريفة، غير أن الكثيرين يغفلون عن الحديث عن الاستئصال المعنوي، أي: استئصال الروح القتالية والمقاومة لريح الاجتثاث، التي تحاول أن تنزع المسلمين من جذورهم وأرضهم ودينهم.

فالاستئصال المعنوي، أو لنقل إضعاف الروح الإسلامية للمسلمين، أمر قد حدث وتكرر في التاريخ الإسلامي، وإلا فما تفسير المجازر الرهيبة التي حدثت يوم أسقط المغول الخلافة العباسية، وسقوط الأندلس وفقدانه، ثم سقوط العالم العربي والإسلامي في براثن الاستعمار الصليبي لمدة زمنية غير يسيرة، كما حدث في الجزائر، التي احتلتها فرنسا لأكثر من مئة وثلاثين سنة.

ولهذا يجب رصد الحالة المعنوية للمسلمين، وكشفها وقياسها وتقويمها، بدل الركون إلى الخيال الذهني والتفكير بالرغبة والإحساس المزاجي. والذي يعد سببا من أسباب الخذلان لأنه مصادم للسنن الكونية والسنن التاريخية والاجتماعية.

الشرور العامة تدفع بالتضامن الإسلامي:

ثم إن هناك حقيقة كونية يجب على المسلمين عدم الغفلة عنها وهي أن الله عز وجل إذ يعد أمة محمد عليه الصلاة والسلام بالحفظ من أي عدوان يستأصل شأفتها فإن من معاني ذلك: أن يجعل للمسلمين – إذا ضاقت عليهم الأرض – مكانا يؤوون إليه؛ ويحقق لهم فيه الأمن والعدل، وهو ما حدث مع مسلمي الحبشة، وحدث مع مسلمي الأندلس، وهو ما حدث مع اللاجئين السوريين، بل ومع النخب العربية الواعية، التي لم تجد إلا هذا البلد؛ الذي وفر لها الأمن والعدل والأرضية للنشاط الايجابي، دون أن ننسى الجانب الإيماني في انتصار تركيا على الانقلاب الخطير؛ وهو رعايتها لمن طلبوا جوارها، واعتنائها بالهاربين من جحيم القتل الدولي في سوريا واحتضانها لفلذات أكباد العالمي العربي من الطيبين والصادقين.

وعليه فإن من أسباب النصر والثبات: شد الروابط الأخوية بين المسلمين، ودفع الشرور العامة بمد جسور التضامن الاجتماعي ليصبح على مستوى الأمّة كلها، وهذا من المعاني التي يجب الوقوف عندها طويلا في الحالة التركية، ودراستها واستثمارها.

كيف نستثمر الانتصار التركي على المدى البعيد؟

يجب بذل الجهد في نشر الأمل بين الشعوب المسلمة واستثمار الانتصار التركي إلى أقصى حد؛ فهو يعيد حقيقة رآها الناس بأعينهم وهي: أنّ الشعوب إذا أرادت فعلت، وأن مصير الناس وأراضيهم وأموالهم بأيديهم وأن الباطل مهما تغول وتجبر فإنه عاجز عن الاستمرار في نشر الظلم والخراب، وهي حقيقة متى ثبتت في القلوب أينعت روحا وثابة لا يكسرها شيء .. صحيح أن الانتصار التركي على الانقلاب المحلي الدولي قد أعاد الكثير من النشاط والروح للكثير من المسلمين، المعنيين بمواجهة الظلم والاستبداد، غير أن هذا يحتاج إلى الذهاب بآثار الانتصار إلى أبعد مدى، وجعلها تدخل كل بيت وكل قلب، فالحرب بين المسلم وبين الباطل لها طابع نفسي ومعنوي في الغالب، والغلبة عبر التاريخ كانت لمن يملك روحا معنوية عالية فالإنسان بلا روح ومعنويات عبارة عن خردة من لحم وعظم لا تمكنه حتى من طرد ذبابة مزعجة.

الشعوب والثورات بين التضحيات والغايات:

إنّ الباطل في السنوات الأخيرة قد أراد أن يخير الشعوب بين الدمار والاستبداد، بمده لوكلائه من الطغاة والقتلة في سوريا والعراق وليبيا ومصر بالمال والسلاح والإعلاميين المرتزقة، وحاول أن يجعل الشعوب تنسى غايات الحياة وأهدافها السامية من: حرية وعدل وكرامة، وحاول أن يلغي مفهوما إسلاميا هاماً، وهو: أنّ التضحيات والثورات تناط بالأهداف الراقية، والغايات السامية، والتي أعلاها إرضاء الله تعالى، فمهما كانت التضحيات كبيرة يجب أن يفهم المسلم أن الأهداف الكبرى والراقية في حياة الشعوب وحركتها التاريخية تبقى أهم وأسمى؛ لأنها تنتصر للماضي والراحلين ،وتحفظ الحياة الكريمة للحاضرين والحاضر وترعى المستقبل للقادمين.

ولهذا وجب إعادة ربط تصورات المسلمين عن الحياة وتوابعها في السلم والحرب بالغايات الكبرى، ولا ينافي ذلك الحديث عن الأهداف الدنيوية الاجتماعية كقصد تبعي.

هذه هي طبيعة الصراع وهذا هو واجبنا:

صحيحٌ أنّ الصراع بيننا وبين أعدائنا صراع حضاري عقدي واقتصادي، و لكنه أيضا صراعٌ معنوي ونفسي أيضا، فهو صراع بين إنسان الغاب وبين إنسان عمارة الأرض، صراع بين نوازع الشر ونوازع الخير، صراع بين الفطرة السوية والفطرة الممسوخة؛ ولذلك وجب استحضار هذا الجانب أيضا، والتركيز على معنويات المسلمين، خاصة النخب، باعتبارها منارات هادية في طريق الأمّة، وهي رأس العمل في موضوع استثمار الأحداث الكبرى؛ لتصحيح التصورات المغشوشة؛ وإعادة البوصلة إلى اتجاهها الصحيح، فهذه هي مهمته الكبرى في الحياة رعاية الأمة والانتصار لها.

أخيراً:

إذا كانت الشعوب هي من تصنع حياتها إذا أمسكت بزمام قراراتها، ووثقت بقدرتها على التغيير، فإنّ ذلك لا يمكن أن يحدث دون تراكمات سليمة، وحركية حياتية ناضجة؛ وأسس صحيحة، ومن خطوات رفع الوعي الجمعي داخل المجتمع الاستثمار في الأحداث التاريخية الكبرى، والخروج من النفسية المزاجية، والبُعد عن العاطفة الأمية التي تغلي لأمد معين ثم تخبو، ولا يتحقق ذلك إلا برصد وقراءة وتحليل الأحداث، ثم جعل معانيها ومفاهيمها العميقة مبسطة، وفي متناول عامة المجتمع؛ حتّى تستمر مسيرة الإصلاح القاعدي الذي ينطلق من الأفراد والأسر، والذي يمثل الأرضية الصلبة لأي إصلاح أو تغيير.

لقد أتت مشاعر الانتصار بتركيا جاءت في الوقت المناسب بالنسبة للمسلمين، ولكن الوقت قد حان لإعادة دراسة ما حدث وجعلها تجربة ثرية تنطلق منها شعوب أخرى، ولا يجب الاكتفاء بمجهودات مشتة هنا وهناك، أو مجرد تقرير أو فيلم وثائقي يعيد حكاية الأحداث، ولكنه لا يصل إلى أعماقها وحقيقتها والتراكمات التي حسمتها، والتداعيات التي خلفتها. لذلك وجب توجيه البحوث أيضا إلى دراسة هذه الأحداث وتخصيص الوقت والجهد والمادة لذلك، فهذا ما تفعله الأمم الكبيرة، فهل نفعل؟

المصدر: منتدى العلماء.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى