كتابات مختارة

خلاصة لمجريات الأحداث السياسية في عصر الخلافة الراشدة

بقلم عبدالستار المرسومي

تميَّز هذا العصرُ المهم من تاريخ السياسة الإسلامية بترسيخ مجموعة من القيم والمبادئ والأسس السياسية، ومعها التفاصيل التي أضافت لمنظومة العمل السياسي في الإسلام الكثير، مما جعلها تتميز وترتقي على كل نظم العمل السياسي في العالم منذ ذلك الحين وحتى الآن، بالرغم من تشابه مَن يدير دفة أمور هذه السياسة – وهم البشر – في كل الأحوال، واختلاف الأدوات.

إن مَن أدار دفة السياسة في فترة الخلافة الراشدة رجال مِن طراز فريد، نعم هم اعتمدوا على ما أسس من أنظمة وقوانين وضعت في عصر النبوة، وأن قيادة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كانت لهم هدًى يسيرون في طريقه، إلا أنهم كرجال مارسوا دورًا سياسيًّا رياديًّا كبيرًا، وساسوا الناس بثقة عالية بأنفسهم، وبطريقة تدل على وعيهم بأصول ما يؤمنون به.

لقد وضَعوا وحدَّدوا أسسًا بقيت إلى اليوم قبسًا للعاملين في المجال السياسي؛ فقدموا للإنسانية نموذجًا متفردًا لسياسة رشيدة واعية ناجحة وعملية، وقد تميزت هذه الفترة الزمنية بالآتي:

1- ما زال قادة الدولة – أمراء المؤمنين – وأهل الحل والعقد والمستشارون فيها حريصين أشد الحرص على تداول السلطة بشكل سِلمي، وهو أحد أسس قيام الدولة في السياسية الإسلامية، ولقد تبين مدى الإيجابية المتأتية من هذا الأساس؛ فما زالت الدولةُ بخير والفتوحات قائمةً والانتصارات تترى والتقدم حاصلًا والتنمية فاعلة والأمن مستتبًّا ما انتقلت السلطة من يدٍ لأخرى بطريق سلمية، تراعى فيها قواعد الحُكم السياسي وأسسه في الإسلام.

ولكن ما إن بدأت الفتن والمؤامرات والدسائس والانقلابات حتى تشتَّت الوضع الداخلي، وتحوَّل الأمن إلى فزع، والطمأنينة إلى قلق سياسي، والأمن إلى انفلات، واندلعت الحربُ الداخلية بشتى المسميات، فتارة فكرية، وأخرى سياسية وشخصية، وتتبع المصالح والأهواء تارة أخرى.

2- إن الخلفاءَ الراشدين الأربعة الذين شغَلوا المساحة الزمانية لهذا العصر، لم يرشحوا أنفسهم للرئاسة، وإنما أوكلت لهم عن طريق غيرهم؛ فمنهم مَن اختاره أهل الحل والعقد بشكل مباشر، ثم أهل الشورى، أو أوكلت له بالتعيين، ثم بويع من قِبَل أهل الحل والعقد والشورى، وفي ذلك إشارة سياسية واضحة إلى أن الرئاسةَ في الإسلام (تكليف، وليس تشريفًا)، وإن الخلفاء الراشدين أسمى مِن الامتيازات والمصالح الدنيوية التي تأتي من جراء تسنُّم منصب الرئاسة، بل كانوا شرفًا لها، وليس العكس.

3- ظهور جيل فقيه، يمتلك مِن الوعي والإدراك السياسي ما يميز به أدوار المكلفين بإدارة شؤون الدولة وأهميتهم، وانتشار هذا الفهم لم يكن مقتصرًا على أحد دون أحد؛ فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: “خرج أبي شاهرًا بسيفه، راكبًا على راحلته إلى ذي القَصَّة، فجاء عليُّ بن أبي طالب، فأخذ بزمام راحلته، فقال: إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أقول لك ما قال لكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: ((أشِمْ سيفك، ولا تفجعنا بنفسك))، فوالله لئن أصيب فيك لا يكون للإسلام بعدك نظامٌ أبدًا، فرجع، وأمضى الجيش”[1].

فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يعلم أن الإسلام لا يتوقف على موت أحد، ولكن المرحلة تقتضي وجود رئيس كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأهمية ذلك ظاهرة في تحديد العلة السياسية في كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ألا يكون للإسلام منظومة عمل ونظام، وتتغلب العشوائية على النظام، وفي ذلك الوضع لن تقوم للدولة قائمة، وتلك نظرة سياسية رشيدة لتأمين العمل النظامي المؤسساتي المبرمج بوجود قائد محنَّك كأبي بكر رضي الله عنه.

كما أن هذا الجيل الذي نتكلم عنه يَعِي مكانة أولئك الذين سماهم الله سبحانه وتعالى: (السابقين الأولين)، فلا يتجرأ أحدهم أن يتطاول على مكانتهم، ولا يفعل ذلك إلا غوغائي أو ظالم، أو ربما مرتد، وقطعًا فهو لا يعي الفهم السياسي الصحيح لمتطلبات تلك المرحلة المهمة من التاريخ.

ومثالٌ آخر على هذا الفهم يتضح بقول سهيل بن عمرو رضي الله عنه: “يوم خرَج آذِنُ عمرَ، وبالباب عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وفلان، وفلان، فقال الآذن: أين بلال؟ أين صهيب؟ أين سلمان؟ أين عمار؟ فتمعَّرَتْ وجوه القوم، فقال سهيل: لمَ تتمعر وجوهكم؟ دُعُوا ودُعِينا، فأسرعوا وأبطأنا، ولئن حسدتموهم على باب عمرَ، فما أعد الله لهم في الجنة أكثر.

وفي هذا الجوابِ دلالةٌ على عقل فاهم للواجب، مدرك لمهمات رئيس الدولة، ولِمَا يجب أن تقوم الحكومة عليه، لا يبالي بالعنعنات القديمة، وبالعُرف القبَلي الجاهلي”[2].

4- في عصر الخلافة الراشدة، توثقت الأسس الرصينة التي بُنِيت في عصر النبوة الشريفة، وتأكد صحة السياسة الإسلامية في نظرتها للإنسان، وإن كان عدوًّا مقاتلًا، أو معارضًا شرسًا مجادلًا.

إن السياسة في الإسلام تسعى بكل الوسائل المتاحة لكسب هؤلاء، ووضعهم في صف دولتها؛ للذودِ عن حرماتها ومكاسبها وبنيتها، وتحوِّلهم من أعداء كارهين محاربين إلى أصدقاءَ محبين باذلين.

فمَن يصدِّق أن أبا سفيان صخر بن حرب رضي الله عنه، ذلك العدو الشرس الذي نذر ألا يمس رأسَه دهنٌ ولا غسل، ولا يقرب أهله، حتى يغزو محمدًا، ويحرق في طوائف المدينة بعد غزوة بدر، والذي قتل المسلمين يوم أحد، وقاد جموع الكفار في غزوة الخندق، أبو سفيان بن حرب الذي كان يصرخ بأعلى صوته: اعلُ هُبَل، وكان يقول للمسلمين يوم أحد: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم؛ مَن يصدق أنه يصطف بقوة وإيمان مع الإسلام ليكافح ويدافع عن مبادئه ويذود عنه، ويقف مواقف مشهودة مع الإسلام، ويفقد كلتا عينيه في الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى ونصرة دولة الإسلام؟!

لقد قدَّم أبو سفيان نموذجًا رائعًا للوفاء بعد العداء حين فقد إحدى عينيه في غزوة الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأخرى في معركة اليرموك سنة 13 للهجرة.

يقول شمسُ الدين الذهبي رحمه الله في حق أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه: إنه “شهد قتال الطائف، فقلعت عينه حينئذ، ثم قلعت الأخرى يوم اليرموك، وكان يومئذ قد حسُن – إن شاء الله – إيمانُه؛ فإنه كان يومئذ يحرض على الجهاد، وكان تحت راية ولده يزيد، فكان يصيح: يا نصرَ الله، اقترب، وكان يقف على الكراديس يذكر، ويقول: الله الله، إنكم أنصار الإسلام، ودارةُ العرب، وهؤلاء أنصار الشرك ودارة الروم، اللهم هذا يومٌ مِن أيامك، اللهم أنزل نصرك”[3].

“وعن جبير بن الحويرث قال: حضرتُ اليرموك فلا أسمع إلا نقف الحديد، إلا أني سمعت صائحًا يقول: يا معشر المسلمين، يومٌ من أيام الله، أبلوا لله فيه بلاءً حسنًا، فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه”[4].

لقد حوَّلتِ السياسةُ الإسلامية الحكيمة – متمثلة في قادة دولتها – أبا سفيان رضي الله عنه إلى مقاتل عظيم يحرِّض المؤمنين على الدفاع عن المسلمين ودولتهم، والدفاع عن حياضها، والأكثر من ذلك تواضعه وقبوله لأن يكون جنديًّا تحت راية ولده يزيدَ بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهو الذي كان سيِّدَ قومه.

إن الوعيَ السياسي لدى قادة الدولة الإسلامية في نظرتها للإنسان وأنه قيمة معنوية ومادية مفضلة ومكرمة، ما زال بنفس الوتيرة التي بدأ بها منذ تأسيس الدولة الإسلامية، وليس من أهدافها وأولوياتها وآلياتها هدر دم الإنسان، بل على العكس؛ فقد سعَتْ للاستفادة من طاقاته المتوفرة، وضرورة استثمار مواهبه.

وقد ظهَرت نماذج كثيرة في هذه المرحلة من هذا النوع، وأشير هنا إلى طُلَيحة الأسدي، باعتباره نموذجًا لنجاح السياسة الإسلامية في تحويل الأعداء إلى مواطنين مخلِصين ومتفانين في خدمة الدولة؛ فقد ارتَدَّ طُلَيحة الأسدي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاد جموع مقاتلي بني أسد الأشداء ضد جيش الدولة الإسلامية، وتنضم له طيئ وغيرهم من العرب حميةً وعصبية، وقَتل طليحةُ مِن خيرة مواطني الدولة الإسلامية ونخبتهم، ومنهم عكاشة بن محصن رضي الله عنه، وكان بدريًّا ومِن المبشرين بالجنة، كما قتل ثابت بن أقرم بن ثعلبة وهو بدري، وليس ذلك فحسب، بل وادَّعى طليحة الأسدي النبوةَ، ثم ألف قرآنًا من هوى نفسه، وهكذا لم يدَعْ طليحة شيئًا من الشر إلا خاض فيه، ثم هرب إلى بلاد الشام بعد أن كسب المسلمون المعركةَ التي كانت ضده وضد جيشه، ولكنه يقرر أن يتوب، ويتوب طليحة بن خويلد الأسدي، ويعود كمواطن من مواطني الدولة الإسلامية، وتسنح الفرصة لأبي بكر الصديق يوم كان رئيسًا للدولة الإسلامية ليعاقب ويقتص من طليحة، ولكنه يرى بنظرته السياسية الثاقبة ألا فائدةَ مِن قتل طليحة، وقرر منحه فرصة للأمل ومن أجل التعويض.

ويُعيَّن عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أميرًا للمؤمنين، ويظن كل واحد بأن طليحة سيحاسب؛ لِما عُرِف عن عمرَ رضي الله عنه من شدة في الحق، ولكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى أن يمنح طليحةَ فرصة ما دام أنه تاب ويريد أن يعوض، ويريد أن يثبت مواطنته لدولة الإسلام.

ويبعَث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطليحة بن خويلد الأسدي مجاهدًا مع جيش الدولة الإسلامية في الشام، ويبلي بلاءً حسنًا، ثم ينتقل للجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى إلى العراق، ثم إلى بلاد فارس، ويضرب أروع الأمثلة في الشجاعة والقتال من أجل القضية؛ ففي معركةِ القادسية قاتَل طليحةُ قتالَ الأبطال جنبًا إلى جنب مع أبطال الإسلام، أمثال: القعقاع بن عمرو التميمي، وأبطال الصحابة رضي الله عنه، ويحتاج قائد الجيش الإسلامي في معركة القادسية سعد بن وقاص رضي الله عنه إلى معلومات عن جيش الفُرس، ويتصدى طليحة الأسدي للمهمة، ويُلقي بنفسه بين بارقة سيوف فرسان الفُرس، فاخترق الجيوش والصفوف، وتخطى الألوف، وقتل جماعة من الأبطال، ويأتي بأسير ليأخذ قائدُ المسلمين سعدُ بن أبي وقاص رضي الله عنه منه المعلومات، ويصول ويجول طليحة في القادسية، وينتصر المسلمون.

ولم يكتفِ طُليحةُ الأسدي بذلك، بل سار مع الجيش إلى (نهاوند) في جلولاء؛ ليشارك في معركة (فتح الفتوح)، ويتترس الفُرس داخل الحصون، وأسقط في يد المسلمين في كيفية سحب الفرس إلى ساحات الوغى، ويقدِّم طليحة لقائد المعركة الصحابي النعمان بن مقرن رضي الله عنه خطة حربية عجيبة ومتقنة، وتطبق الخطة، وتحصل الملحمة، وتخوض الخيل والمقاتلون بالدم حتى الركب، وينجلي غبار المعركة معلنًا عن انتصار باهر للمسلمين، وسميت فتح الفتوح؛ لأنها فتحت بعدها بلاد فارس بالجملة، ويقدِّم طليحة الأسدي نفسه فداءً للإسلام، وفي سبيل الله سبحانه وتعالى، فيستشهد في تلك المعركة.

5- إن أفضلَ الطرق لحل الأزمات السياسية هو مواجهتها واقتحامها والولوج في تفاصيلها وركوب أمواجها، وبشفافية مطلقة، أما الهروب السياسي وإقحام مواطني الأمة في غياهبها، والكيد والكيل بمكيالين، وفتح باب للكلام والتصريحات الإعلامية والتفسيرات حسب الأهواء، فذلك أمر مرفوض، ويؤدي إلى نتائجَ عكسية.

فمِن هذا المبدأ كان موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم السقيفة، حين أصر على حضور مؤتمر الأنصار رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة، ومِثلَه فعَل أبو بكر الصديق حين أصرَّ على قتال المرتدين المنشقين عن سلطان الدولة، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يعمل تحت نفس المبدأ حين واجه المتمردين بنفسه، ودفع حياته ثمنًا لذلك، ومثلهم كانت سياسة علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مواجهة الفتن، ودفَع هو الآخر حياته ثمنًا لذلك، والحسن بن علي رضي الله عنه حين أنقذ الأمة الإسلامية ودولتها بقرار شخصي في غاية الجرأة والحكمة.

6- عندما تزدهر دولة من الدول، تستشيط باقي الدول المجاورة وغير المجاورة غضبًا، فمرة يأخذها الحسد على تلك الدولة الصاعدة، وتارة يأخذها الخوف فَرَقًا منها، ويأخذها الحقد والضغينة على انتصارها عليها وتفتيت ملكها تارة أخرى، وكل ذلك حصل مع الدولة الإسلامية.

فقد اشتغلَتْ تلك الدول أو الأمم التي نصبت نفسها عدوة دائمة للإسلام، اشتغلت بالمؤامرات والدسائس لإضعاف دولة الإسلام، وكان مستوى إيغالها بالتآمر على الإسلام مرتبًا كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [المائدة: 82].

وبالفعل، فقد قام اليهودُ في هذه المرحلة بدور كبير جدًّا في إشعال فتنة الاحتراب الداخلي بين مواطني الدولة الإسلامية، فبدؤوا باغتيال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، عن طريق عصابة يقودها اليهودي (عبدالله بن سبأ)، وهذا الاغتيالُ كان السببَ الرئيسي في نشوء الفتنة السياسية، التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الدولة الإسلامية، ثم حدوث ثلاث معارك كبيرة، هي: الجمَل، وصِفِّين، والنهروان، ثم قُتِل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأيدي فِرقة مارقة تنتسب للإسلام، وكان سبب ظهورها فتنة اليهود الأولى.

أما الذين أشركوا من المجوس، فقد اغتالت أيديهم الخليفةَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، على الرغم من أن الدولة الإسلامية سمحت لهم بالعيش على أرضها، وفي ذلك دلالة سياسية على أن ولاة الأمر في السياسة الإسلامية عليهم أن ينتبهوا للرعايا الذين لهم انتماءات طائفية أو عرقية لجهات خارجية تتقاطع مع دستور دولتهم.

7- قدمت السياسة الإسلامية تجرِبة فريدة مِن القادة الذين طبقوا قاعدة سياسية مهمة في القيادة، وهي: أن رئيسَ الدولة (أولُ مَن يُضحِّي، وآخرُ مَن يستفيد).

إن الرئاسةَ في السياسة الإسلامية تكليفٌ مُضْنٍ، ومسؤولية بمعناها الخدمي وليس الانتفاعي، وبذل كبير، وتضحية لا تنقطع، وعطاء لا ينتهي؛ فالرئيس في مقدمة الركب في الضراء، لكنه يتوارى في السراء؛ فلقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم – وهو رئيس الدولة الإسلامية – يباشر قيادة الجيش، ويحمل سيفه بنفسه، فلقد قاد 26 غزوة بنفسه صلى الله عليه وسلم، تعرض خلالها للأذى، وجُرِح، وأوشك أن يقتل في أكثر من موضع، ولقد استلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه زمام الرئاسة وهو تاجر غني يملك ما يملك، وتوفي وهو لا يملك إلا القليل، وسلمت بقايا ما يملك إلى بيت المال حسب وصيته.

وقدم كلٌّ مِن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه – وكلٌّ منهم كان رئيسًا للدولة الإسلامية – أرواحهم في سبيل الله تعالى، وفي سبيل قضيتهم، وهذا جزءٌ من السر في درجة التضحية عند الرعية، فهناك إحصائية تقدر أن نسبة 80 % من الصحابة (وهم أهل الحل والعقد وأهل الشورى) قد قُتِلوا في الجهاد، وفي فتوحات الدولة الإسلامية، ولو لم يكن الرؤساء في مقدمة الركب وعناوين شامخة للتضحية، لَمَا قدَّم الصفُّ الأول من المواطنين ما قدموا.

8- إن الدول المجاورة للدولة الإسلامية تراقب – عن كثَبٍ – الوضع الداخلي للدولة، فحين تكون الدولة في عزة ومنعة وقوة وتعبئة، تقدم الدول الأخرى فروض الطاعة والولاء، وتسارع في طلب عقد اتفاقيات السلام والهدنة، ثم تدفع الجزية عن يدٍ وهي صاغرة راغمة.

ولكن حين تخور قوى الدولة الإسلامية، وتأكل هيبتها ومنعتها الحرب الداخلية، فإن هذه الدول تسارع في نقض العهود والاتفاقيات، بل والتفكير العملي في غزو الدولة الإسلامية، وهذا ما حدث مع الروم في هذا العصر.

9- كان للمرأة دورٌ سياسي مهم في المرحلة الحساسة لهذه الحِقبة الزمنية، وذلك يؤصِّل لدور المرأة في السياسة الإسلامية وحدود صلاحياتها.

10- عند ظهور مَن يُسمَّون في السياسة الإسلامية (البغاة)، فإنهم يقاتَلون عندما يكونون جيشًا، ويعلنون العصيان المسلح، ويقررون قتال جيش الدولة الإسلامية، ولهم أحكامهم وفق ذلك، فهم مسلمون، وبَغْيُهم لا يخرجهم عن إطار كونهم مسلمين، أما حين يكونون معارضين فقط فهم ليسوا ببغاة، مهما كانت معارضتهم شديدة، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: “وإذا بغَتْ طائفة من المسلمين وخالفوا رأي الجماعة وانفردوا بمذهب ابتدعوه، فإن لم يخرجوا به عن المظاهرة بطاعة الإمام، ولا يحيزوا بدار اعتزلوا فيها، وكانوا أفرادًا متفرقين تنالهم القدرة، وتمتد إليهم اليد – تركوا ولم يحاربوا، وأجريت عليهم أحكام العدل فيما يجب لهم وعليهم من الحقوق والحدود، وقد عرَض قوم من الخوارج لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه لمخالفة رأيه، وقال أحدهم وهو يخطب على منبره: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث؛ لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدؤكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء، ما دامت أيديكم معنا، فإن تظاهروا باعتقادهم وهم على اختلاطهم بأهل العدل، أوضَح لهم الإمام فساد ما اعتقدوا، وبطلان ما ابتدعوا؛ ليرجعوا عنه إلى اعتقاد الحق، وموافقة الجماعة، وجاز للإمام أن يعزِّرَ منهم مَن تظاهر بالفساد، أدبًا، وزجرًا، ولم يتجاوز إلى قتل أحد”[5].

11- تؤكد منظومة السياسة في الإسلام أنها لا تتوقف ولا تعتمد على أحد، فمَن يذهب يأتي بديلًا عنه لتحقيق الأهداف المرسومة؛ فهي تدفع تجاه أن يتعلق المواطنون بخالق الأسباب، وليس بعين الأسباب.

فلما صار الناس ينظرون لخالد بن الوليد رضي الله عنه أن النصر على يديه أينما مضى وسار، قرر رئيس الدولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه عزله على الفور؛ ليعلم مواطنو الدولة بأن قيام هذه الدولة واستقامة شؤونها وعلو سياستها متعلق بكونها دولةً دينية؛ فهي مرتبطة بقضاء الله وقدره، وهذا الفهم العميق لا يمنع من الأخذ بالأسباب، فحين استبدل خالد رضي الله عنه، لم يستبدل بقائد كيفما اتفق، لا؛ فقد استبدل بقائد لا يقل شأنًا عنه، هو أبو عبيدة عامرُ بن الجراح رضي الله عنه، وهكذا تساسُ الأمور وَفْق قانون الأسباب والأخذ بها لأبعد الحدود، وتبقى النتائجُ بعد ذلك متعلِّقةً بإرادة الله تعالى ومشيئته.

12- الوعيُ السياسي المتقدم والاستطاعة الفكرية النشطة والبالغة في التمييز بين الولاء للقضية ولمصلحة الأمة والدولة وبين العاطفة والولاء العائلي أو الرابطة العائلية؛ فالحسن بن علي رضي الله عنه لم يكن يريد لأبيه أمير المؤمنين الخروج من المدينة وقتال المخالفين، وكان يتبنى رأيًا آخر، وهو حل المسألة سلميًّا بعيدًا عن السيف؛ لأن مَن يخسر في مثل هذه المعارك هو الدولة الإسلامية ومواطنوها، وليس أحد غيرهم، ودليل ذلك انتهاجه لسياسة مختلفة عن سياسة أبيه رضي الله عنه عندما وكل الأمر إليه وأصبحت الصلاحيات معه، ولكنه لم يكُنْ ليخالف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو رئيس الدولة؛ لأن مِن حق الرئيس على المواطنين وجوب طاعته، فضلًا عن كون الحسن رضي الله عنه كان مستشارَه، وأحدَ قادته.

جاء في تاريخ الطبري: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “أتاه ابنه الحسن فجلس، فقال: قد أمرتُك فعصيتني، فتقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك، قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله، قال: أي بني، أما قولك: لو خرجتَ مِن المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك: حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، ووالله ما زلت مقهورًا مذ وليت، منقوصًا لا أصِلُ إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو من تريدني؟ أتريد أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها ويقال: دباب دباب؟! ليست ها هنا حتى يحل عرقوباها، ثم تخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني، فمَن ينظر فيه؟! فكفَّ عنك أي بني”[6].

ولكن هذا الاختلاف في الرأي لم يمنع الحسنَ بن علي رضي الله عنه أن يكون قائدًا في جيش الدولة التي يترأسها ويقود جيشها أبوه الذي يختلف معه في الرأي السياسي.

وهذا ما حصَل مع عمار بن ياسر رضي الله عنه حين خرج بأهل الكوفة لقتال أهل البصرة، وكانت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها في جيش البصرة، يقول ابن خياط: “لَمَّا استنفر الحسنُ وعمارٌ أهلَ الكوفة، قال عمار: أمَا والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو إياها”[7].

—————————————-

[1] معجم ابن الأعرابي – باب الدال.

[2] المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام،ج16، ص423، د. جواد علي.

[3] سير أعلام النبلاء، ج2، ص 105.

[4] تاريخ الإسلام، الذهبي، ج3، ص 141.

[5] الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أبو الحسن الماوردي، ج1،ص63.

[6] تاريخ الرسل والملوك، ابن جرير الطبري، ج4، ص 456.

[7] تاريخ خليفة بن خياط، خليفة بن خياط، ج1، ص184.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى