كتب وبحوث

تحكيم السِّياق عند اختلاف المفسرين

إعداد: السعيد الصمدي.

مقدمة:

كانت بدايةُ عناية المسلمين بأمر العلاقة بين التركيب والمعنى منذ الوهلة الأولى مِن نزول القُرْآن الكريم؛ لاستقراء معاني القُرْآن الكريم، ولبيان ما يدلُّ عليه.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيِّن للصحابة الكرام مراد الله تعالى من كلامه؛ تصديقًا لقوله تعالى: ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 44].

جاء عصر ما بعد الصحابة، فكان تدوينُ التفسير على أنه باب من أبواب الحديث، ثم دُوِّن على استقلال وانفراد، فظهرت مؤلفاتٌ لمفسرين أجلاء، عُنِيت بألفاظ القُرْآن الكريم.

إشكالية البحث:

إن إشكالية هذا البحث تكمُنُ في وجود طائفة همُّها أغراضها، ونصرُ مذهبها؛ فعَدَتْ على النص تفسره كيفما ترى أو يحلو لها، مجرِّدةً له من سياقه، بعيدًا عن الضوابط والقرائن، جاهلة بها، أو متجاهلة لها؛ فكانت الجنايةُ على النص؛ ولهذا حرَص أهل هذا الشأن على الحيلولة دون العبث بالنصوص؛ فعمَدوا – بعد استقراءٍ وجمعٍ – إلى وضع مجموعة من القواعد والمعالم التي تعين على التفسير السليم للنصوص؛ لتكون بمثابة الميزان الذي يُعرَف به التفسيرُ المقبول من غيره، ولردم هذه الإشكالية.

ومِن أهم هذه القواعد التي أنشأها المفسرون والتي تعين على فهم النص الشرعي قاعدة: “تحكيم السِّياق”.

فأين تكمُنُ أهمية هذه القاعدة؟ وما مفهوم السِّياق؟

وهل للسياق القُرْآني أنواع؟ وما ضوابط الأخذ به؟

ما دور السِّياق في الكشف عن مراد الله تعالى من كلامه؟

ما هي بعض الأمثلة التطبيقية لهذه القاعدة؟

المنهج المتَّبَع:

ولمناقشة هذه التساؤلات ومحاولة الإجابة عنها في هذا العرض، اعتمدتُ على المنهج التحليلي، والمنهج الوصفي.

ففي الجانب النظري اعتمدتُ المنهج التحليلي من حيث مناقشة أهمية القاعدة، والتعليق عليها، وتقرير ضوابط وأصول وأنواع السِّياق القُرْآني، والمنهج الوصفي من حيث بيان القاعدة، وأهميتها، وضوابط، وأصول وأنواع السِّياق القُرْآني.

وفي الجانب التطبيقي اعتمدتُ المنهج التحليلي في مناقشة أقوال المفسرين، ومدى احتكامهم للسياق في الترجيح الدلالي عند الاختلاف.

وقد قسمتُ هذا العرض إلى أربعة مباحث، وتحت كل مبحث مطالب، وهي كالآتي:

المبحث الأول: أهمية القاعدة ومناقشتها.

المطلب الأول: أهمية القاعدة.

المطلب الثاني: مناقشة القاعدة والتعليق عليها.

المبحث الثاني: شرح القاعدة.

المطلب الأول: تعريف السِّياق لغة.

المطلب الثاني: تعريف السِّياق اصطلاحًا.

المطلب الثالث: تعريف قاعدة السِّياق باعتبارها لفظًا مركَّبًا.

المبحث الثالث: أنواع السِّياق القُرْآني وضوابط الأخذ به.

المطلب الأول: أنواع السِّياق القُرْآني.

المطلب الثاني: ضوابط الأخذ بالسِّياق القُرْآني.

المبحث الرابع: نماذج تطبيقية لقاعدة تحكيم السِّياق.

المطلب الأول: العصاة الذين يُخلَّدون في نار جهنم، هل هم الكفار أم عصاة المؤمنين؟

المطلب الثاني: الحَصُور: العنَّة أم العفة الخُلقية؟

المطلب الثالث: الخَلْف الذين أضاعوا الصلاة بين الترك والتأخير.

المطلب الرابع: اختلاف المفسرين والفقهاء في معنى الإحصار.

المطلب الخامس: دلالة الفرح بالحمد بين العموم والخصوص.

المطلب السادس: المطالَبون بكفِّ أيديهم: الصحابة أم المنافقون؟

المطلب السابع: أمر الله: عذابه أم فرائضه؟

——————————-

المبحث الأول: أهمية القاعدة ومناقشتها:

المطلب الأول: أهمية القاعدة.

قد أبرز العلماءُ والمفسرون أهمية السِّياق في فهم دلالة النص وترجيح التأويلات، فهذا شيخ المفسرين ابن جرير الطبري رحمه الله ) ت310ه ( يلحُّ على وجوب النظر في القُرْآن الكريم، من زاوية مراعاة العلاقات النَّحْوية، والأسلوبية، والمقامية، القائمة بين الآيات؛ ولذلك قال: “اتباع الكلامِ بالأقرب منه أَوْلى مِن اتباعه بالأبعد منه”[1].

وقال أيضًا: “توجيه الكلام إلى ما كان نظيرًا لِما في سياق الآية: أَوْلى مِن توجيهه إلى ما كان منعدلًا عنه”[2].

أما العز بن عبدالسلام (ت660هـ) فقد تحدث عن وظيفة السِّياق في تحديد المعنى، فقال: “السِّياق يرشد إلى تبيُّن المجمَلات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقَعت في سياق المدح كانت مدحًا وإن كان ذمًّا بالوضع، وكل صفة وقَعت في سياق الذم كانت ذمًّا وإن كانت مدحًا بالوضع؛ كقوله تعالى: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾ [الدخان: 49][3].

يعني – رحمه الله – أن سياقَ الآية يقتضي أنه الذليلُ الحقير.

أما الإمام الزركشي (ت 794ه) فقد أفرد فصلًا في كتابه “البحر المحيط في أصول الفقه” تحت عنوان: “دلالة السِّياق”، قال رحمه الله: “أنكَرها بعضهم، ومَن جهِل شيئًا أنكره، وقال بعضهم: إنها متفَق عليها في مجاري كلام الله تعالى، وقد احتجَّ بها أحمدُ على الشافعي في أن الواهبَ ليس له الرجوع مِن حديث: ((العائد في هِبَتِه كالكلب يعودُ في قيئِه))[4]، حيث قال الشافعي: هذا يدل على جواز الرجوعِ؛ إذ قيءُ الكلب ليس محرَّمًا عليه، فقال أحمد: ألا تراه يقول فيه: ((ليس لنا مَثَلُ السَّوء، العائد في هِبَتِه ..))؛ الحديث، وهذا مَثَلُ سَوْءٍ، فلا يكونُ لنا”[5].

المطلب الثاني: مناقشة القاعدة والتعليق عليها.

إن الترجيحَ على ضوء دلالة السِّياق قرينةٌ قوية، لكنها لا تخرج عن كونها ظنيةَ الدلالة؛ ولهذا الإمام الزركشي حينما تكلم عن دلالة السِّياق في فصل مستقل في كتابه: (البحر المحيط في أصول الفقه) أورَدها في الأدلة المختلف فيها، وبالتالي فلا نستطيع أن نقطَعَ بأن القول الذي يرجحه السِّياق هو المراد دون غيره من الأقوال، بل المقصود أنه هو القول الراجح رجوحًا ليس قطعيًّا؛ شريطةَ ألا يرِدَ ما يصرِفُه عن وجه رجحانه، فيجب أن يعلم هذا، ويتفقد عند تفسير كلام الله تعالى.

المبحث الثاني: شرح القاعدة.

سأقوم في هذا المبحث بتعريف السِّياق لغة واصطلاحًا، ثم أعرف قاعدة: “تحكيم السِّياق” باعتبارها لفظًا مركبًا.

المطلب الأول: تعريف السِّياق لغة:

لن أسهِبَ كثيرًا للوقوف على معنى السِّياق في كتب المعاجم، وسوف أعرج على ذكر بعض منها فقط.

تدلُّ كلمة السِّياق في اللغة على التتابع، ويرتبط بالحديث والكلام، فيدلُّ على معنى السرد.

جاء في كتاب “العين”[6] للخليل (ت 170 هـ): “سقته سِياقًا، ورأيته يسوق سياقًا؛ أي: ينزع نزعًا، يعني الموت، والساق لكل شجرٍ وإنسان وطائر”.

وفي “معجم مقاييس اللغة” لابن فارس[7] (ت:395هـ): “السين والواو والقاف: أصلٌ واحد، وهو حَدْوُ الشيء، يقال: ساقه يسوقه سَوقًا، والسيقة: ما استيق مِن الدوابِّ، ويقال: سُقْتُ إلى امرأتي صَداقها، وأسقته، والسُّوق: مشتقة من هذا؛ لِما يساق إليها مِن كل شيء، والجمع أسواق، والساق للإنسان وغيره، والجمع سُوق، إنما سميت بذلك؛ لأن الماشيَ ينساق عليها، ويقال: امرأة سوقاء، ورجل أسوق، إذا كان عظيم الساق، والمصدر: السوق”.

وفي لسان العرب[8] لابن منظور (ت711 هـ): “ساق الإبلَ وغيرها يسوقُها سوقًا وسِياقًا، وهو سائق وسوَّاق.

وساق إليها الصداقَ والمَهْر سياقًا وأساقه، وإن كان دراهمَ أو دنانيرَ؛ لأن أصلَ الصداق عند العرب الإبل، وهي التي تساق.

وساق فلان مِن امرأته؛ أي: أعطاها مهرَها.

والسِّياق المهر”.

وفي المعجم الوسيط[9]: “ساق الحديثَ: سرَده وسلسله وساوقه: تابعه وسايره وجاراه.

وتساوقت الماشية ونحوها: تتابعَتْ وتزاحمت في السير.

وتساوَق الشيئانِ: تسايرَا أو تقارَنا.

ويقال: ولدتِ المرأةُ ثلاثة ذكور ساقًا على ساق؛ أي: بعضهم في إثر بعض، ليس بينهم أنثى.

وسياق الكلام: تتابُعُه، وأسلوبُه الذي يجري عليه”.

المطلب الثاني: تعريف السِّياق اصطلاحًا:

أما معنى لفظة السِّياق اصطلاحًا، فيصعب تحديد معناه؛ لأنه مِن المصطلحات الشائكة، حتى قال الدكتور طه عبدالرحمن: “بأنه بحَث في كثير من المقالات من أجل العثور على بعض التعريفات ولم يجد تعريفًا محدَّدًا للسياق”[10].

إذًا ليس هناك تعريف واضح ومحدد لمصطلح السِّياق، باستثناء إشارات متناثرة هنا وهناك، وقد جاء استعمالُ لفظة السِّياق كثيرًا في كلام المفسرين والفقهاء والأصوليين، والمتتبع لكلامهم في استعمال السِّياق يجد أنهم يعنُون بها أحدَ أمرين:

الأول: لفظ الكلام، ومن ذلك قولهم: لم أجد هذا الحديث بهذا السِّياق؛ أي: بهذا السرد وهذا اللفظ.

الثاني: ما ذكره العطار في تعريفه للسياق من أنه: “ما يؤخذ مِن لاحق الكلام أو سابقه، الدال على خصوص المقصود”[11].

أما تعريف السِّياق عند المحدَثين، فنجد تعريفات كثيرة، نختار منها تعريفينِ:

الأول: يقول تمام حسان: “هو ما انتظم القرائن الدالة على المقصود من الخطاب، سواء كانت القرائن مقالية أو حالية”[12].

ويقول فريد عوض: “علاقةٌ لُغَوية، أو خارج نطاق اللغة، يظهر فيها الحدَثُ الكلامي”[13].

ومِن مجموع هذه الأقوال يمكن القول: إن السِّياقَ هو: “جملة القرائن الداخلية والخارجية التي تحيط بالنص، أو الحدَث الكلامي، والتي تعطيه معانيَ جديدةً لم يكن ليحمِلَها لولاها”.

المطلب الثالث: تعريف قاعدة: “تحكيم السِّياق” باعتبارها لفظًا مركَّبًا:

المراد مِن هذه القاعدة: أن السِّياق يُعدَّ مِن أعظم القرائن في الترجيح، وحل المشكلات والمتشابِهِ؛ إذ به يتمكَّنُ المفسِّر مِن الاستدلال على الوجه الذي يذهب إليه؛ فلهذا نجد بعض المفسرين قد رجح جميع الأقوال التي أثبتها في كتابه، بناءً على دلالة السِّياق، كما صنع ابن قتيبة – رحمه الله – في كتابه: (تفسير غريب القُرْآن).

المبحث الثالث: أنواع السِّياق القُرْآني وضوابط الأخذ به:

المطلب الأول: أنواع السِّياق القُرْآني.

السِّياق القُرْآني يختلف عن أي سياق آخر؛ وذلك أنه مكوَّن مِن سبعة أنواع من السِّياق، بعضها داخل في بعض، ومبنيٌّ عليه، وهذا مِن أعظم ما يتميز به القُرْآن العظيم، بل هو مِن مظاهر إعجازه وبلاغته، وهذا – والله أعلم – سرُّ كون القُرْآن محتملًا للوجوه الكثيرة، والمعاني المتعددة، كما قال أبو الدرداء – رضي الله عنه -: إنك لن تفقَهَ كلَّ الفقه حتى ترى للقُرْآن وجوهًا كثيرة [14].

وقد حقَّق هذا التنوعَ في سياق القُرْآن صاحبُ كتاب: (دلالة السِّياق منهج مأمون لتفسير القُرْآن الكريم) فقال: “السِّياق قد يضاف إلى مجموعة من الآيات التي تدور حول غرض أساسي واحد، كما أنه قد يقتصر على آية واحدة، ويضاف إليها، وقد يكون له امتداد في السورة كلها، بعد أن يمتد إلى ما يسبقه ويلحقه، وقد يطلق على القُرْآن بأجمعِه، ويضاف إليه، بمعنى أن هناك: سياقَ آية، وسياقَ النص، وسياقَ السورة، والسِّياق القُرْآني، فهذه دوائر متداخلة متكافلة حول إيضاح المعنى”[15].

فسياق القُرْآن ينقسم إلى سبعة أنواع، وسنقف مع كل نوعٍ لتحرير المراد منه بإجمال[16]:

أولًا: سياق القُرْآن:

المراد بهذا النوع مِن السِّياق القُرْآني: مقاصدُ القُرْآن الأساسية، وقد أجمل الطاهرُ ابن عاشورمقاصد القُرْآن كلها في ثمانية مقاصد: الأول: إصلاح الاعتقاد، الثاني: تهذيب الأخلاق، الثالث: بيان التشريع، الرابع: سياسة الأمة وصلاحها وحفظ نظامها، الخامس: القصص وأخبار الأمم السالفة؛ للتأسِّي بصالح أحوالهم، السادس: التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطَبين، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها، السابع: المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير، الثامن: الإعجاز بالقُرْآن ليكون آية دالة على صدق الرسول[17].

النوع الثاني: السِّياق المكاني:

ويقصد بذلك سياق الآية أو الآيات داخل السورة، وموقعها بين السابق من الآيات واللاحق.

النوع الثالث: السِّياق الزمني:

ويقصد به سياق التنزيل؛ أي: سياق الآية بين الآيات بحسَب ترتيب النزول.

النوع الرابع: السِّياق الموضوعي:

ومعناه: دراسة الآية أو الآيات التي يجمعها موضوع واحد، أو سورة، أو أكثر.

النوع الخامس: السِّياق المقاصدي:

ومعناه: النظر إلى الآيات القُرْآنية من خلال مقاصد القُرْآن الكريم، والرؤية القُرْآنية العامة للموضوع المعالج.

النوع السادس: السِّياق التاريخي.

بمعنَيَيْه العام والخاص؛ فالعام: هو سياق الأحداث التاريخية القديمة التي حكاها القُرْآن الكريم، والمعاصرة لزمن التنزيل، والخاص: هو أسباب النزول.

النوع السابع: السِّياق اللغوي:

وهو دراسة النص القُرْآني من خلال علاقة ألفاظه بعضها ببعض، والأدوات المستعملة للربط بين هذه الألفاظ، وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئية وكلية.

وينبغي اعتبارُ كلِّ هذه الأنواع من السِّياق عند الاشتغال على دراسة النص القُرْآني بمنهج سياقي متكامل، ومَن اقتصر على نوع من السِّياق دون مراعاة النوع الآخر، فإنه لا يسلَمُ مِن الوقوع في الزلل.

المطلب الثاني: ضوابط الأخذ بالسِّياق القُرْآني:

للسياق القُرْآني ضوابطُ لا يصحُّ الخروج عنها بحال، وهذه الضوابط هي أصول علم التفسير الصحيح، الذي به يتم الوصولُ إلى مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، وبغير هذه الضوابط، فإن كلَّ جهد يُبذَل في تبيُّنِ مراد الله تعالى يُعَدُّ خارجًا عن النهج الصحيح حتي يستوفيَ هذه الضوابط فهمًا وعملًا، وأهم هذه الضوابط الضابطُ النقلي؛ لأنه صاحبُ الصدارة في الحُكم على بقية الضوابط، ثم الضابط اللغوي؛ لأن القُرْآنَ لا يُفهَم إلا على ضوء هذه اللغة، ثم دلالة الحس والعقل.

أولًا: دلالة النقل:

هذا الضابط هو المقدَّم على بقية الأركان؛ إذ أولى مَن يفسر النقلَ هو الناقل، وقد كلَّف الله سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم بهذه المهمة الشريفة، فلا يمكن لنا أن نتجاوز هذا الضابط؛ لأن تجاوزه فيه إخلالٌ بقانون التفسير الذي أراده الله لنا، ويشترط في الضابط النقليِّ أن يكونَ ما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير آيةٍ بعينِها.

ثانيًا: دلالة اللغة:

أنزَل الله سبحانه القُرْآن الكريم على عبدِه بلغة العرب؛ فقال جل شأنه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]؛ لذا كانت معرفةُ قواعد العربية شرطًا أساسيًّا لفهم معاني القُرْآن الكريم؛ فلا بد مِن التحقيق في دلالة اللفظ اللغوية، باعتبارها الإفرادي أولًا، ثم صحة سلكها في التركيب السِّياقي ثانيًا، وقد ذكَر ابن تيمية – رحمه الله – أن مما يوقِع في خطأ الاستدلال: “قوم فسَّروا القُرْآن بمجرد ما يسُوغُ أن يريدَه بكلامه مَن كان مِن الناطقين بلغة العرب، مِن غير نظر إلى المتكلم بالقُرْآن، والمنزَّل عليه، والمخاطَب به؛ فالأولون راعَوُا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما تستحقه ألفاظ القُرْآن من الدلالة والبيان، والآخِرون راعَوْا مجرد اللفظ، وما يجوز عندهم أن يريدَ به العربي، من غير نظر إلى ما يصلُحُ للمتكلِّم به، ولسياق الكلام”[18].

ثالثًا: دلالة العقل والحِس:

للعقل والحس دلالةٌ في فهم السِّياق القُرْآني، ولا يصح أن يحمل الكلام على ما يخالفهما؛ فأيُّ احتمال يحتمله اللفظ لغةً يتصادم مع صريح العقل وسليم الحس فإنهما يُسقطانِه، وعلى هذا جرى علماؤنا الكرام في فهم كلام الله سبحانه وتعالى، ولعل مِن أهم الأمثلة على ذلك: ما قرَّره علماء أصول الفقه مِن تخصيص العام بدلالة العقل والحس، وفي هذا يقول الآمدي: “إن قوله – تعالى -: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقوله: ﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [المائدة: 120] متناوِلٌ – بعموم لفظِه لغةً – كلَّ شيء، مع أن ذاتَه وصفاتِه أشياءُ حقيقةً، وليس خالقًا لها، ولا هي مقدورة له؛ لاستحالة خَلْق القديم الواجب لذاته، واستحالة كونه مقدورًا بضرورة العقل؛ فقد خرجَتْ ذاتُه وصفاته بدلالة ضرورة العقل عن عموم اللفظ، وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء، ولا نعني بالتخصيص سوى ذلك، فمن خالف في كون دليل العقل مخصصًا مع ذلك فهو موافقٌ على معنى التخصيص ومخالف في التسمية.

وكذلك قوله – تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]؛ فإن الصبي والمجنون من الناس حقيقة، وهما غير مرادينِ من العموم بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف مَن لا يفهم، ولا معنى للتخصيص سوى ذلك..”، ثم قال: “وكما أن دليلَ العقل قد يكون مخصِّصًا للعموم، فكذلك دليل الحس، وذلك كما تقدم في قوله – تعالى -: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأحقاف: 25] مع خروج السمواتِ والأرض عن ذلك حسًّا، وكذلك قوله – تعالى -: ﴿ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ﴾ [الذاريات: 42]، وقد أتَتْ على الأرض والجبال ولم تجعَلْها رميمًا بدلالة الحس، فكان الحسُّ هو الدالَّ على أن ما خرج عن عموم اللفظ لم يكن مرادًا للمتكلم، فكان مخصصًا”[19].

المبحث الرابع: نماذج تطبيقية لقاعدة تحكيم السِّياق.

للسياق أثرٌ في ظهور المعاني وتعدُّد الألفاظ؛ إذ يُعَدُّ الرابطَ الأساسي في ترجيح بعض المعاني على بعض، بغضِّ النظر عن توافق مفهومهما أو تباينه، وذلك واضح في إعانة السِّياق القُرْآني من خلال سابق ولاحق النص على تحديد الرأي الراجح، وهذا مذهب المفسِّرين؛ إذ يفسِّرون ويرجِّحون معنًى دون غيره من خلال بعض الألفاظ بناءً على دلالة السِّياق، وسأذكر ثلاثةَ نماذج تطبيقية لذلك، وقد قمتُ بتلخيص هذه النماذج من كتاب “دور السِّياق في الترجيح بين الأقاويل التفسيريَّة” للدكتور محمد إقبال عروي.

المطلب الأول: العصاة الذين يُخلَّدون في نار جهنم، هل هم الكفار أم عصاة المؤمنين؟

قال الله تعالى في سورة الجن: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 23].

ذهَب جمهورُ المفسِّرين إلى أن المقصود بالعصاة في الآية هم الكفار، وذهب المعتزِلةُ إلى أن المراد بالعصاة في الآية هم عصاة المسلمين، وهذا ما يوافق عقيدتهم؛ إذ يرون أن عصاةَ المؤمنين مخلَّدون في النار.

وقد أبطَل ابن جُزَيٍّ قولهم موظِّفًا قرينة السِّياق، ومرجِّحًا قول الجمهور؛ قال – رحمه الله -: “والآية في الكفارِ، وحمَلها المعتزلة على عصاة المؤمنين؛ لأن مذهبَهم خلودُهم في النار، والدليل على أنها في الكافرينِ وجهانِ:

أحدهما: أنها مكية، والسورةُ المكية إنما الكلام فيها مع الكفار، والآخر: دلالةُ ما قبلها وما بعدها على أن المرادَ بها الكفارُ”[20].

ويقصِد ابن جُزَيٍّ بدلالة ما قبلها قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 19]، ودلالة ما بعدها قوله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ﴾ [الجن: 24].

المطلب الثاني: الحَصُور: العنَّة أم العفة الخُلقية؟

وصَف القُرْآن الكريم يحيى بنَ زكرياءَ – عليهما السلام – بأوصاف جليلة، وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].

واختلَف المفسرون في دلالة الحصور؛ فذهب الإمامُ الطبري إلى أنها تدل على “الذي لا يأتي النساء”، أو “لا يقرَب النساء”، أو “الذي ليس له ماء”[21]، مستنِدًا في ذلك إلى ما ورد عن ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وغيرهم.

أما الإمام القرطبيُّ فقد ذكر المعنى السابق للحَصُور، الذي ذكَره الإمام الطبري، ثم ذكر معنًى آخر للحصور، وهو الذي يكُفُّ عن النساء ولا يقربهن مع القدرة، ونسب هذا التفسير إلى ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطاء، والحسن، والسُّدي، وابن زيد، ورجَّح القرطبي هذه الدلالة مستندًا إلى السِّياق، قال: “وهذا أصحُّ الأقوال؛ لوجهين: أحدهما: أنه مدح وثناء عليه، والثناء إنما يكون عن الفعل المكتسَب دون الجِبِلَّة في الغالب، الثاني: أن فَعُولًا في اللغة مِن صِيَغِ الفاعلين”[22].

وهذا التعليلُ الذي رجح فيه الإمام القرطبي معنى الحصور، استند فيه إلى سياق الكلام؛ فقد مدَح القُرْآنُ يحيى – عليه السلام – بصفاتٍ جليلة، فكيف تقتحمُها صفةٌ هي إلى الذمِّ أقربُ منها إلى المدح؟

إن الراجحَ أن تكونَ دلالةُ الحصور متصلةً بما مِن شأنه أن يضاعف مِن طهارة يحيى ويقرِّبَه مِن رضا الله!

المطلب الثالث: الخَلْف الذين أضاعوا الصلاة بين الترك والتأخير؟

اختلَف المفسرون في دلالة ﴿ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾} [مريم: 59].

وفسروها تفسيرين:

التفسير الأول: المراد بضياع الصلاة: تأخيرُها عن وقتها.

التفسير الثاني: تركها بالكلية.

وقد رجَّح الإمامُ الطبري أن المقصود بإضاعة الصلاة تركها بالكلية، مستندًا إلى قرينة السِّياق؛ قال: “وأَوْلى التأويلينِ في ذلك عندي بتأويل الآية، قول من قال: إضاعتُها تركُهم إياها؛ لدلالةِ قول الله تعالى ذكرُه بعده على أن ذلك كذلك، وذلك قوله جل ثناؤه: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 60]، فلو كان الذين وصَفهم بأنهم ضيَّعوها مؤمنينَ، لم يستثنِ منهم مَن آمَن، وهم مؤمنون، ولكنهم كانوا كفَّارًا لا يصلُّون لله، ولا يؤدُّون له فريضةً، فَسَقَة، قد آثَروا شهواتِ أنفسهم على طاعةِ الله”[23].

المطلب الرابع: اختلاف المفسِّرين والفقهاء في معنى الإحصار.

قوله تعالى: ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 196].

اختلَف الفقهاء في الإحصار: هل يختص بالعدو فلا يتحلَّلُ إلا مَن حصره عدوٌّ لا مرض ولا غيره؟ على قولين:

فالأول: قول الجمهور – ومنهم مالك والشافعي – ذهبوا إلى أنه لا إحصار إلا بالعدو؛ لأن التحلُّلَ بالهَدْيِ جُعِلَ في حق المحصَر؛ لتحصيل النجاة، وبالإحلال ينجو مِن العدو، لا مِن المرض[24]، ويؤيد ذلك ما قاله حبرُ الأمَّة ابنُ عباس – رضي الله عنهما -: “لا حصرَ إلا حصرُ العدوِّ”[25].

والثاني: ما ذهب إليه أبو حنيفة وبعضُ الفقهاء، ذهبوا إلى أن الإحصارَ عامٌّ، يكون في كل حابس يحبِسُ الحاجَّ عن بيت الله الحرام؛ مِن عدوٍّ، أو مرض، أو خوف، أو نفادِ نفقة، أو موت محرَم الزوجة في الطريق، وغير ذلك من الأعذار المانعة، ودليلُهم أن اللهَ قال: ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ﴾ [البقرة: 196] الآية، ولم يقُلْ: (حُصِرْتُم)؛ دلَّ على أنه أراد ما يعُمُّ المرضَ والعدوَّ، والعبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب[26]، واستدلوا كذلك بما رُوِيَ عن ابن مسعود – رضي الله عنه -: أنه “أفتى رجلًا لُدِغَ بأنه مُحصَرٌ، وأمره أن يَحِلَّ”[27].

ولعل الراجح مِن ذلك هو إحصار العدو لا المرض، بدلالة السِّياق القُرْآني وإشارته في لاحق النص مِن قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا أَمِنْتُمْ ﴾ [البقرة: 196]؛ مما يدلُّ على أنه حصرُ العدو، لا حصر المرض، أو غيره، ولو كان المرض لقال: فإذا برَأْتم، ولقول ابن عباس – رضي الله عنهما -: “لا حصرَ إلا حصرُ العدوِّ”، والله أعلم.

المطلب الخامس: دلالة الفرح بالحمد بين العموم والخصوص:

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].

ورَد في صحيح البخاري: أن مَرْوانَ بن الحكَم بعث بوَّابه إلى ابن عباس يستفسره في إشكالٍ حصل له في فهمِ هذه الآية، وفحواه: أنه إذا كان كلُّ مَن يفرح بعمله، ويحب أن يُحمَدَ بما لم يفعل معذبًا بالنار، فإن جميع الناس يعذَّبون ويدخلون جهنم، معتقدًا أن الخطاب لعموم الناس[28]، غير أن ابن عباس بيَّن له ضعفَ هذا الفهم، معتمدًا في ذلك على سياقينِ: أحدهما خارجي يختص بأسباب النزول، وثانيهما نصيٌّ يرتبط بسياق نظم الآية، وكلاهما يصرِفُ دلالتَها جهةَ الخصوص؛ يقول ابن عباس: “ما لكم ولهذه الآية؟! إنما دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ، فسألهم عن شيء، فكتَموه إياه، وأخبروه بغيره، فأَرَوْهُ أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرِحوا بما أوتوا مِن كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].

وإذا كان سؤالُ النبي صلى الله عليه وسلم لليهود يتصل بالسِّياق الخارجي، فإن قراءةَ ابن عباس للآية السابقة يرتبط النصي الداخلي؛ ولذلك فقد قال ابن حجر عن قول ابن عباس: “فيه إشارةٌ إلى أن الذين أخبر الله عنهم في الآية المسؤول عنها هم المذكورون في الآية قبلها”[29]؛ أي: الذين أوتوا الكتاب، وهم اليهودُ.

ونجدُ لدى الطبريِّ رصدًا لأهم الأقوال في معنى المذكورين في الآية؛ فمنهم مَن جعلها في المنافقين، مثل أبي سعيد الخدري، ومنهم مَن جعلها خاصة بأحبار اليهود، لكنه -أي الطبريَّ- حكَّم النص السِّياقي للآية ورجَّح دلالتها على اليهود، وقال: “وأَوْلى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله تعالى: ﴿ لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا ﴾ [آل عمران: 188] قول مَن قال: عُنِيَ بذلك أهلُ الكتاب، الذين أخبر اللهُ عز وجل أنه أخذ ميثاقهم ليُبَيِّنُنَّ للناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ولا يكتمونه؛ لأن قوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ﴾ [آل عمران: 187] في سياق الخبرِ عنهم، وهو شبيهٌ بقصَّتِهم”[30].

المطلب السادس: المطالبون بكفِّ أيديهم: الصحابة أم المنافقون؟

يقول تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ﴾ [النساء: 77].

لا شكَّ أن المفسِّرَ يتساءل عن هؤلاء الذين طُولبوا بكفِّ أيديهم، ومِن هنا ينشأ الخلاف؛ يقول ابنُ جُزَيٍّ: “قيل: هي في قوم مِن الصحابة، كانوا أُمِروا بالكف عن القتال قبل أن يُفرَض الجهاد، فتمنَّوْا أن يؤمروا به، فلما أُمِروا به كرِهوه، لا شكًّا في دِينهم، ولكن خوفًا مِن الموت، وقيل: هي في المنافقين”[31]، ثم رجَّح القولَ الثاني؛ لأنه “أليقُ بسياقِ الكلام”[32].

ولعلَّ استحضارَ سياق الآية يكشِف عن بعض الاعتبارات التي جعلتِ ابنَ جُزَيٍّ يرجِّح الدلالة الثانية؛ فقد ورد قبل الآية السالفة قولُه تعالى: ﴿ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ﴾ [النساء: 72]؛ فمِن في “منكم” يراد بها المنافقون، وهو” نعتٌ مِن الله تعالى ذِكرُه للمنافقين”[33].

المطلب السابع: أمرُ الله: عذابُه أم فرائضه؟

افتُتِحَتْ سورة النحل بقوله تعالى: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1].

ووقَع بين المفسِّرين خلافٌ حول ما هو هذا الأمر؟ “فقال بعضهم – منهم الضحاك -: هو فرائضُه وأحكامُه، وقال آخرون – منهم ابن جريج -: بل ذلك وعيدٌ مِن الله لأهلِ الشرك به، أخبَرهم أن الساعةَ قد قرُبَتْ، وأن عذابهم قد حضَر أجلُه فدنا”[34].

ورجَّح الطبريُّ المذهبَ الثاني، معتمدًا على نَظم الآية وسياقها؛ لأن ما ورد مِن تعقيب في ختامها دالٌّ على أن الأمرَ منصرفٌ إلى العذاب والهلاك، أو يوم القيامة؛ يقول: “وأَوْلى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو تهديدٌ مِن الله أهلَ الكفر به وبرسوله، وإعلامٌ منه لهم قربَ العذابِ منهم والهلاك؛ وذلك أنه عقَّب ذلك بقولِه سبحانه وتعالى: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 1]؛ فدلَّ بذلك على تقريعِه المشركين، ووعيدِه لهم”[35].

أي إن التعقيبَ بالشِّرك يقوِّي انصرافَ دلالة الأمرِ جهةَ العذاب؛ لأن مِن مظاهر شِركِهم تكذيبَهم بالرسول والبعث والقيامة والحساب، واستعان بقاعدة: “تفسير القُرْآن بالحديث”، وبقاعدة: “مراعاة أسباب النزول”، واعترَض على الذين فسَّروا الأمر بالفرائض بـ “أنه لم يبلُغْنا أن أحدًا مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجَل فرائضَ قبل أن تُفرَضَ عليهم، فيقال لهم مِن أجل ذلك: قد جاءَتْكم فرائضُ الله فلا تستعجلوها”[36].

وإذ لا دليلَ على ذلك مِن سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عاضدَ له مِن السِّياق، فإن إحالةَ الأمر على العذاب أرجحُ، والقول به أنسبُ، وبهذا الاعتبار قال القرطبي: “وأمرُ الله: عقابُه لِمَن أقام على الشرك وتكذيبِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال الحسن، وابن جريج، والضحاك: إنه ما جاء به القُرْآن، مِن فرائضه وأحكامه، وفيه بُعْدٌ؛ لأنه لم يُنقَلْ أن أحدًا مِن الصحابة استعجل فرائضَ الله مِن قبلِ أن تُفرَضَ عليهم، وأما مستعجلو العذاب والعقاب فذلك منقولٌ عن كثيرٍ مِن كفار قريش”[37].

الخاتمة:

الحمد لله الذي به تتمُّ الصالحات، وبه يستعان على قضاء الحاجات، وبعد:

فهذه أهم نتائج هذا العرض:

  • إن السِّياق القُرْآني هو ما يؤخذ من لاحق الكلام أو سابقه، الدالِّ على خصوص المقصود.
  • السِّياق يرشد إلى تبيين المجملات، وترجيح المحتملات، وتقرير الواضحات.
  • دلالة السِّياق تعتبر من تفسير القُرْآن بالقُرْآن، وهو بذلك مِن أشرف أصولِ التفسير.
  • السِّياق القُرْآني مِن أهم دلائل الإعجاز القُرْآني وقواعده الأساسية في بناءٍ محكَمٍ رصين؛ لِما يفرزه مِن تعدُّد الأغراض والمعاني.
  • السِّياق هو اللبنة الأساس في قواعد التفسير؛ إذ تدور عليها جميعُ العلوم الشرعية وغيرها، عن طريق تتبُّع معاني الألفاظ والاستنتاجات الحاصلة مِن التفكُّر والتدبُّر.
  • احتكَم المفسِّرون غالبًا للسياق القُرْآني؛ فكان مرجِّحًا وحاكمًا بين الأقاويل التفسيرية.

وفي الختام:

أوصي بمجموعة مِن النقاط:

  • ضرورة الاعتناء بموضوع السِّياق القُرْآني من خلال تفسير كتاب الله تعالى؛ لبيان عظَمةِ هذا الكتاب، ودلائلِ إعجازه.
  • السِّياق القُرْآني ثريٌّ بالمباحث الهامة والدقيقة؛ لذا أنصح طلبةَ الماستر والدكتورة بإنجاز بحوثٍ فيه؛ لأنه ما زال فيه كثيرٌ مِن المسائل الشائكة التي تحتاج إلى مزيد مِن التنقيح والتحرير.
  • تنظيم ندوات دولية تتناول أهم مباحث السِّياق، بمشاركة علماءَ متخصصين في علوم الشريعة.
  • إصدار مجلة علمية محكَّمة، تُعْنى بالسِّياق عامة، وبالسِّياق القُرْآني خاصة؛ مِن أجل مناقشة أهمِّ الدراسات الجديدة في موضوع السِّياق.

والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا.

لائحة المصادر والمراجع:

أولًا: المصادر:

القُرْآن الكريم.

الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (المتوفى: 631هـ) ت: عبدالرزاق عفيفي، الناشر: المكتب الإسلامي، بيروت – دمشق – لبنان.

البحر المحيط في أصول الفقه للزركشي (المتوفى: 794هـ) الناشر: دار الكتبي، الطبعة: الأولى، 1414هـ – 1994م.

تفسير القُرْآن العظيم لابن كثير، (المتوفى: 774هـ) ت: محمد حسين شمس الدين، الناشر: دار الكتب العلمية، منشورات محمد علي بيضون – بيروت، الطبعة: الأولى – 1419 هـ.

التسهيل لعلوم التنزيل لابن جُزَيٍّ، (المتوفى: 741هـ) ت: الدكتور عبدالله الخالدي، الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم – بيروت، الطبعة: الأولى – 1416 هـ.

الجامع لأحكام القُرْآن للقرطبي، (المتوفى: 671هـ) ت: أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش، الناشر: دار الكتب المصرية – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1384هـ – 1964 م، عدد الأجزاء: 20 جزءًا (في 10 مجلدات).

جامع البيان في تأويل القُرْآن للطبري (المتوفى: 310هـ) ت: محمود محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة.

الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م، عدد الأجزاء: 24.

حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، للعطار الشافعي (المتوفى: 1250هـ)، الناشر: دار الكتب العلمية، عدد الأجزاء: 2.

الكشف والبيان عن تفسير القُرْآن، لأبي إسحاق (المتوفى: 427هـ)، ت: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق الأستاذ: نظير الساعدي، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى 1422، هـ – 2002 م.

عدد الأجزاء: 10.

لسان العرب لابن منظور، (المتوفى: 711هـ)، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414 هـ، عدد الأجزاء: 15.

مصنَّف عبدالرزاق (المتوفى: 211هـ) ت: حبيب الرحمن الأعظمي، الناشر: المجلس العلمي – الهند، الطبعة: الثانية، 1403، عدد الأجزاء: 11.

معجم مقاييس اللغة لابن فارس (المتوفى: 395هـ) ت: عبدالسلام محمد هارون، الناشر: دار الفكر، عام النشر: 1399هـ – 1979م، عدد الأجزاء: 6.

المعجم الوسيط، الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة.

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية (المتوفى: 728هـ)، الناشر: دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان.

الطبعة: 1490هـ/ 1980م.

العين للخليل (المتوفى: 170هـ) ت: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، الناشر: دار ومكتبة الهلال، عدد الأجزاء: 8.

السنن الكبرى للبيهقي (المتوفى: 458هـ) ت: محمد عبدالقادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003 م.

السنن الكبرى للنسائي (المتوفى: 303هـ) ت: حسن عبدالمنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبدالله بن عبدالمحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م، عدد الأجزاء: (10 و 2 فهارس).

ثانيًا: المراجع:

البيان في روائع القُرْآن للدكتور تمام حسان، ط: 2، القاهرة، عالم الكتب، 2000م.

دلالة السِّياق منهج مأمول لتفسير القُرْآن الكريم، لعبدالوهاب رشيد أبو صفية الحارثي، عمان: الأردن – 1989م.

ندوة البحث اللساني، منشورات كلية الآداب بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم 6.

علم الدلالة، دراسة تطبيقية للدكتور فريد عوض، ط: 2، مكتبة النهضة المصرية 1999.

————————————————–

[1] تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر، ج: 3، ص: 316.

[2] المرجع السابق ج6، ص: 91.

[3] البحر المحيط للزركشي، ج: 8، ص: 55.

[4] سنن النسائي ج: 6، ص: 267.

[5] البحر المحيط للزركشي 54، 55.

[6] العين للخليل، ج5: ص: 190.

[7] ج: 3، ص: 117.

[8] لسان العرب لابن منظور، مادة: سوق.

[9] المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية، مادة: سوق.

[10] ينظر ندوة البحث اللساني، منشورات كلية الآداب بالرباط.

[11] حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع، ج: 1، ص: 30.

[12] البيان في روائع القرآن، تمام حسان، ج: 1، ص: 221.

[13] علم الدلالة، دراسات تطبيقية، فريد عوض، ص: 57.

[14] أخرجه عبدالرزاق في المصنف (11/255) رقم (20473).

[15] (دلالة السياق منهج مأمول لتفسير القرآن الكريم)، لعبدالوهاب رشيد، أبو صفية الحارثي (ص88).

[16] ينظر بسط الموضوع في كتاب (منهج السياق في فهم النص) ، د. عبدالرحمن بودرع، 3، كتاب الأمة، ع: 111، المحرم 1427هـ – فبراير 2006 م.

[17] انظر: (التحرير والتنوير)، ج: 1، ص: 8.

[18] انظر (مقدمة في أصول التفسير) لابن تيمية، ص: 33.

[19] انظر ( الإحكام في أصول الأحكام) للآمدي، ج: 2، ص: 314 – 317.

[20] انظر التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي، ج: 2 ص: 420.

[21] جامع البيان للطبري ج: 6، ص: 377.

[22] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج: 4 ص: 78.

[23] جامع البيان للطبري، ج: 18، ص: 217.

[24] ينظر (فتح القدير) للشوكاني، و( شرح فتح القدير) لمحمد بن عبدالواحد بن همام، ج: 3، ص: 164.

[25] انظر (السنن الكبرى) للبيهقي، باب مَن لم يرَ الحلال بالإحصار، رقم: 10384، ج: 5، ص: 619.

[26] انظر (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير ج: 1، ص: 313.

[27] انظر (الكشف والبيان) لأبي إسحاق الثعلبي النيسابوري، ج: 2، ص: 101.

[28] انظر (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) لابن حجر، ج: 8، ص: 234.

[29] المرجع نفسه ج: 8، ص: 235.

[30] انظر (جامع البيان) ج: 6، ص: 307.

[31] انظر ( التسهيل لعلوم التنزيل) ج: 1، ص: 199.

[32] المرجع نفسه.

[33] (التسهيل لعلوم التنزيل) ج: 1، ص: 200.

[34] (جامع البيان) للطبري، ج: 17، ص: 164.

[35] المصدر السابق ج: 17، ص: 164.

[36] (جامع البيان)، ج: 17، ص: 164.

[37] (الجامع لأحكام القرآن)، ج10، ص: 65 .

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى