كتب وبحوث

فقه مراعاة الظرف والسياق حالةَ الرد على المخالف

إعداد : علي بن حمد الصالحي

مِن أَهمِ قواعدِ منهجِ السَّلفِ وأركانه بيانُ الخطأ والردَّ على من حاد عن سَنن الكتاب والسنة، وجانَب الصوابَ في قواعدِ الاستدلال وفَهمِ النصوص على مقتضَى فُهوم السلف وقواعد اللسان العربي، وسلَك طريقًا جَورًا في تنزيل النصوص على الوقائع وتحقيق مناطاتها؛ حرصًا على سلامة هذا المنهج وصفائه ونقائه من أن تشوبه أيُّ شائبة تكدِّره؛ وحفاظًا على شريعة الله تعالى من أن تتناولها الفُهوم الخاطئة في مقدمات الاستدلال ونتائجه، ونصحًا للمخالف ورحمةً به وشفقةً عليه؛ رجاءَ أن يعود إلى سلوك السبيل القَصد والطريق النَّهج، وهذا النصح هو من مقتضيات الأخوّة الإيمانية، كما في قوله -ﷺ: (الدين النصيحة).

فهذا هو مقصِد أهل السنة من إعمال قاعدة الرد على المخالف: بيانُ الحق، ورحمة الخلق، ويربُّون أتباعهم على توخِّي ذلك، ويترفَّعون عن القُصُودِ الخسيسةِ، وحظوظِ النفس مِن التشفي والانتقام، ونيلِ مآربَ دنيويةٍ مِن جاهٍ وشهرة أو سلطة أو مال ونحو ذلك.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: “مَن عرف حقائقَ أقوال الناس وطرقَهم التي دعتهم إلى تلك الأقوال حصل له: العلم والرحمة؛ فعلِم الحقَّ ورحِم الخلقَ، وكان مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهذه خاصَّةُ أهل السنة المتَّبعين للرسول ﷺ؛ فإنهم يتَّبعون الحق، ويرحمون من خالفهم باجتهاده حيث عذره الله ورسوله.

وأهل البدع يبتدعون بدعةً باطلة، ويكفِّرون من خالفهم فيها”[1].

وثمّة ضوابطُ وآدابٌ لا بد من استحضارها واستصحابها في إعمال وتطبيق مبدأ الرد على المخالف؛ أشارت إليها العديد من نصوص الوحيين، وترسَّمها أئمة السلف والتابعون لهم بإحسان على مرِّ العصور.

ومن أهم تلك الضوابط والآداب: أن يكون الردُّ على المخالف بعلمٍ بمقالته، حتى لا يقوِّله ما لم يقُله، وأن يكون بعدلٍ، حتى لا يبغيَ عليه. وهذان الأمران -العلم والعدل- هما بمنزلة لَـحمةِ وسَدى ثوبِ قاعدة الرد على المخالف اللذان يُنسَج منهما.

وآياتُ القرآن كثيرةٌ في بيان هذا الأصل، كقوله تعالى: ((كونوا قوامين بالقسط شهداء لله))، ((كونوا قوامين الله شهداء بالقسط ولا..))، ((وإذا قلتم فاعدلوا))، ((وأوفوا الكيل والميزان بالقسط))، ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان))، ((وزنوا بالقسطاس المستقيم))، ((ولا تقف ما ليس لك به علم))، ((وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط))، فالكتاب: العلم، والميزان: العدل.

وثمةَ بُعدٌ في غاية الأهمية في موضوع الرد على المخالف، ينبغي أن يكون حاضرًا في ذهن الرادِّ، وأن يكون متفطِّـنًا له، وهو: مراعاةُ الظرف المـُعتري وقتَ إرادة الرادِّ بيانَ أخطاء المخالف ومعالجتَها، والتفطُّنُ للسياق والحالة التي يروم فيها المرءُ إظهارَ الخلل المنهجي والأقوال الباطلة لدى الشخص الحائد عن منهج السلف في مسألةٍ ما. فمعرفةُ الظرف الراهن عاملٌ مهمٌّ يعطي المرءَ ضوءًا أخضر أو أحمر في إنفاذ ردوده على المخالف، أو إرجائها إلى الوقت الأنسب؛ ويعينه على السَّداد -بعد توفيق الله- في حصول المقاصد الشرعية المتوخَّاة من مبدأ الرد على المخالفين، وفي درء ما أمكن من المفاسد المتوقَّعة.

فقد يريد الشخصُ الردَّ على مخالفٍ لمنهج السلف في باب أو مسألة ما، أو على صاحب مسلكٍ مبتدَع في الدين، أو صاحب أقوال فقهية باطلة مخالفة لصرائح النصوص أو للإجماع، أو أقوال شاذة مخالفة لما عليه عمل عامة الأمة سلفًا وخلفًا؛ بيدَ أن هذا الشخص الذي يُراد الردُّ عليه في الظرف الحالي يعتبر رمزًا له ثِقَلٌ ووزنٌ في التصدي لأصحاب البدع المغلّظة وفي رد أباطيلهم وكسر شِرَّتهم، وله قوةٌ في مناكفة أعداء دين الله الصُّرَحاء الذين يحادُّون الله ورسوله ويسعون في حرب شريعة الله تعالى في الأرض، ونزع سلطانها من حياة أهل الإسلام، ويَجِدُّون في طمس هُويّة المسلم وإفساد المجتمعات المسلمة.

ففي هذا الظرف وهذا السياق تقتضي قواعدُ الشرع والعدل والحكمة والعقل إرجاءَ بيان الأقوال المبتدعة والمبطلة لهذا الرمز إلى التوقيت المناسب؛ حتى لا تترتب على إشهار أقواله الباطلة والرد عليها في هذا الظرف مفاسدُ أكبر من المصالح المرجوَّة من الردِّ؛ كأن يترتب عليه تقويةٌ لشوكة أعداء دين الله الذين يتقصَّدون هذا الرمز بالإسقاط والتشويه؛ لكونه حجر عثْرةٍ في طريق تحقيق مآربهم -لا لأجل أنه صاحب أقوال خاطئة مُبطِلة، أو أن يترتب عليه فتٌّ في أعضاد أهل السنة حين يرون رموزهم يُستهدفون من قِبَل الأعداء، ويأتي بعض أهل الغيرة فيُشِيعون في هذا الظرف أقوال هذا الرمز الباطلة ويبيِّنون بطلانها -بحسن قصدٍ منهم بالتأكيد، ويسهمون حينذاك مع الأعداء -من غير قصدٍ منهم بالتأكيد- في الإجهاز على هذا الرمز، ويُوهنون موقفَ بعض أهل السنة -وإن كانوا على خلل في المنهج وانحراف- مع خصومهم الصُّرحاء في محاربة شريعة الله! بل وقد يُقدِّمون خدمةً جليلةً لأعداء دين الله من حيث لا يشعرون؛ حين يهتبلُ الأعداءُ الفرصةَ ويوظِّفون هذه الردود -التي صدرت في وقت غير مناسب- في تقوية موقفهم وحملتهم التي لا تتقصَّد هذا الرمز فحسب؛ بل هي في نهاية المطاف تستهدف كلَّ رمزٍ من رموز أهل السنة يدافع عن شريعة الله تعالى في وجه الأعداء، بقصر النظر عن كونه لديه خلل منهجي وأقوال مبطلة أم لا.

فهذا الظرف يتطلب ممن يروم الرد على المخالف فطنةً وذكاءً في التعامل، وموازنةً دقيقة بين المصالح والمفاسد؛ حتى يسلك جادَّة الصراط، من غير تفريط ولا إفراط.

إن مراعاة الظرف والسياق عند إرادة الرد على المخالف لا تقتضي إقرارَ المرء على باطله -أيًّا كان ثِقلُه ووزنه، وتركَ الردِّ عليه إطلاقًا، كلَّا! فليس من منهج أهل السنة مجاملةُ أحد ومداهنته على خطئه، مهما علا كَعبُه وعَظُمَ قدرُه؛ فمبدأُ بيان الحق ورحمة الخلق الذي يزين منهج أهل السنة في الرد على المخالفين يأبى المجاملة والمداهنة في قول الحق.

كما أن مراعاة الظرف والسياق عند إرادة الرد على المخالف لا تعني أن يقدَّم هذا المخالف في المنهج على أنه إمامٌ في الدين ينبغي تبني منهجه والدعاية له، ويبالغ في إطرائه ويغلَى في مدحه والثناء عليه، ويسوَّق له بطريقة تغرِّر بأتباعه ومحبيه، وتوهمهم أن منهج هذا الرمز ينبغي أن يكون هو المنهج الذي تتبنَّاه الأمة إن أرادت الحلَّ لمشكلاتها ومعضلاتها.

إن مراعاةَ الظرف والسياق وتأجيلَ إظهار الرد على المخالف هو بمثابة احتمال مفسدة صغرى، وهي تأجيل بيان بطلان المبطل آنِـيًّا، لا تعطيلُه، لدفع مفسدة أعظم، وهي إعانةُ أعداء دين الله على أهل السنة ورموزِهم الذين لهم نكايةٌ في الأعداء وكسرٌ لشوكة أهل بدع مغلظة، أو توظيفُ هؤلاء الأعداء لكلام الرادِّ في تحقيق مآربهم من النيل من أهل السنة أجمعين.

ولنأخذ أنموذجًا ومثالًا تتضح به هذا الفكرة بشكل أكبر، وهو: ظرف الهجوم على الشيخ القرضاوي.

ففي الأيام القريبة الماضية دُشِّنت حملة إعلامية ضد الشيخ القرضاوي -وفقه الله، تهدف هذه الحملة إلى إلصاق تهمة الإرهاب بالشيخ، وأنه هو السبب بفتاويه في نشوء جماعات الغلو والتطرُّف؛ وتسعى إلى إسقاطه وتشويهه إعلاميًّا. ويتولى كِبْرَ هذه الحملة بعضُ أرباب النفوذ السياسي الذين يمتلكون أدواتٍ إعلامية هائلة، عُرفت بسعيها في حرب الإسلام وشريعة الله ليلَ نهار.

هذه الحملة المشنونة على الشيخ القرضاوي ليس بسبب ما لديه من خلل منهجي في بعض القضايا الشرعية، أو لأنه أتى بشذوذات فقهية، أو لموقفه المتساهل من قضايا الولاء والبراء والمرأة والفن، ونحوها من القضايا. إنَّ هذه الحملة إنما شُنَّت على الشيخ لأنه يعتبر رمزًا يدعو إلى ما يسميه العلمانيون بـ”الإسلام السياسي”، ويدعو إلى تحكيم الشريعة؛ وبالتالي فهو يشكِّل خطرًا كبيرًا للغرب ولأذنابه من العلمانيين في ديار الإسلام، ويقف حجرَ عَثرةٍ دون تحقيق آمالهم -خيَّبها الله. ولا يَسعُ مُنصفًا أن يُغِفلَ ذِكر ما للشيخ القرضاوي من عُمرٍ مديد في العلم والتعليم والدعوة والبذل والتضحية، وفي منازلةِ أهل الباطل، ومقارعة التيارات الهدَّامة، والموجات الإلحادية التي عصفت بالأمة في العقود الماضية، واختطفت عقول كثير من شبابها، وما ناله من الأذى والتنكيل في سبيل الدعوة إلى الله تعالى. والشيخ الآن في بحر التسعين من عمره -أمتع الله به وزاده توفيقًا وهدى وسدادًا.

وقد أَوجدت هذه الحملةُ حملةً مضادَّة متواضعة الإمكانات في بعض مواقع التواصل الاجتماعي من بعض محبي الشيخ القرضاوي، تُدافِعُ وتَذُبُّ عنه. وقد حصل من بعض محبيه غلوٌّ في إطرائه، وفي التسويق للشيخ ومنهجه على أنه منقذ الأمة ومجدِّدُها وقائدها الأوحد، ونحو ذلك من المعاني؛ مما دفع ببعض الفضلاء -بدافع الغيرة على دين الله- أن يسترجع ذِكرَ سجلٍّ لأخطاء الشيخ في ماضيه، ويبثَّها وينشرها في هذا الظرف.

إن مقصد بعض الفضلاء بهذا الصنيع مقصدٌ حسنٌ، والله يأجرهم عليه، ولكن قواعد الموازنة بين المصالح والمفاسد، ومنطق الحكمة والعقل، تقتضي أن يرجئ المرءُ بيان الأخطاء المنهجية للشيخ في هذا الظرف، وفي هذا السياق، وفي هذا التوقيت. خصوصًا وأن هذه الأخطاء ليست وليدةَ اللحظة، بينما هذه الحملة المدروسة والمشنونة على الشيخ وليدةُ لحظةٍ حرجة على الأمة أجمع. والعاقل البصير من يقدِّم المهمَّ العاجل على المهم غيرِ العاجل.

فالذي يبصر المشهد أمامه في هذا الوقت يرى حربًا غير متكافئة القوى بين من يدعو إلى تحكيم شريعة الله إجمالا -على ما لديه من خلل منهجي وأخطاء في التفصيلات، وبين من يسعى إلى إقصاء الشريعة ونزع سلطانها من حياة الناس، ويجهد في تغريب المجتمع، وطمس هُويّته.

فهذا مشهد الحرب؛ فهل هذه فرصة مناسبة لبيان خلل وأخطاء من يدعو إلى تحكيم شريعة “فيها خلل”؟! وهل يحسن بمسلمٍ أن يكون عونًا لشياطين الإنس على أخيه المسلم مهما بلغ خطؤه وخلله؟! إن مقتضى الأخوة الإيمانية يأبى ذلك.

وإن هذا الصنيع في هذا التوقيت قد يستغله الغرب وأذنابه العلمانيون، ويوظِّفونه في تقوية حملتهم، وشقِّ صفِّ الإسلاميين -بمختلف أطيافهم؛ ومن ثَمَّ يصلون إلى نتائج حملاتهم في أسرع وقتٍ؛ بسبب ما قدمناه لهم من خدمة جليلة -من غير قصد بالتأكيد. ولدى هؤلاء القوم ذكاءٌ ودهاءٌ في توظيف مواقف بعض خصومهم في إسقاط خصوم آخرين لهم.

وهذا الأمر يتطلب من المرء يقظة وذكاءً في معرفة مقاصد أعدائه، ومحاولاتهم لتوظيف مواقفه في تحقيق مآربهم، وأن يقطع الطريق عليهم بالتصرف الحكيم السديد في الوقت المناسب.

وقد حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- موقفٌ، حاول فيه السياسيُّ في عصره أن يوظِّفه في تحقيق مآربه وأغراضه السياسية الفاسدة، ولكن شيخ الإسلام تفطَّن له ولقصده، فعامله بنقيض قصده، ولم يستطع هذا السياسيُّ استدراج شيخ الإسلام في حروبٍ لا تمتُّ للدين بصلةٍ؛ وذلك حينما خلع الأميرُ ركن الدين بيبرس الشاشنكير الملكَ الناصر ابن قلاوون، وتبعه جماعةٌ من القضاة والفقهاء من خصوم ابن تيمية، فخلعوا الملك الناصر وبايعوا الشاشنكير ملكًا. بيدَ أنَّه لم يَطُل مُلكُ الشاشنكير، فتمكَّن منه الملك الناصر ابن قلاوون وتخلَّص منه، وعاد المـُلك له. فلما دخل الملكُ الناصر إلى مصر منتصرًا على خصمه، يوم عيد الفطر سنة ٧٠٩هـ، أمر بإحضار الشيخ ابن تيمية إلى القاهرة، وكان حينها في سجن الاسكندرية. فالتقى الشيخُ بالسلطان الناصر في اليوم الرابع والعشرين من شوال، في مجلس حافل بالقضاة والأعيان، ممن كانوا قد خرجوا مع الشاشنكير على السلطان الناصر، فأكرم السلطانُ الشيخَ أيما إكرام، وقرَّبه في المجلس، وشرع يثني على الشيخ عند القضاة والأعيان في المجلس ومنهم خصوم ابن تيمية، وبالغ في الثناء عليه، ثم اهتبل السلطانُ الفرصة ليتنزع من ابن تيمية فتوى محررةً في تصفية القضاة والفقهاء الذين خرجوا عليه، ولندع تلميذَ شيخ الإسلام ابنَ عبدالهادي يورد لنا هذا الموقف فيقول: “وسمعت الشيخ تقيَّ الدين ابن تيمية رحمه الله يذكر: أنَّ السلطان -لما جلسا بالشبَّاك- أخرج  فتاوى لبعض الحاضرين في قتله [أي: قتل ابن تيمية]، واستفتاني في قتل بعضهم. قال [ابن تيمية]: ففهمتُ مقصودَه، وأنَّ عنده حنَقًا شديدًا عليهم لما خلعوه وبايعوا الملكَ المظفَّر ركن الدين بيبرس الشاشنكير، فشرعتُ في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم، وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلَهم في دولتك، أما أنا فهم في حلٍّ من حقِّي ومن جهتي، وسكَّنتُ ما عنده عليهم.

قال [ابن عبد الهادي]: فكان القاضي زين الدين ابن مخلوف قاضي المالكية [وهو أشد أعداء ابن تيمية] يقول بعد ذلك: ما رأينا أتقى من ابن تيمية؛ لم نُبْقِ ممكنًا في السعي فيه، ولما قدَر علينا عفا عنا!”.[2]

فتأمل كيف أن السلطان يريد توظيف شيخ الإسلام ابن تيمية -باسم الدين- في خصوماته السياسية الدنيوية، ولكن هيهات! إن شيخ الإسلام أتقى وأذكى وأفطن من أن يُخدَع ويوظَّف في تحقيق مآربَ دنيويةٍ، ليس لها في نصرة دين الله ناقةٌ ولا جمل!

لقد كانت الفرصة سانحةً لابن تيمية أن يخلِّص الأمة من هؤلاء المبتدعة الذين انتهجوا المسلك الكلامي المبتدع وتعصّبوا له وامتحنوا الناس عليه، وآذوا أهل السنة من جرَّائه، واستعانوا بأهل النفوذ السياسي في فرضه على الأمة، هي فرصةٌ مواتية لإراحة الأمة منهم، ولكنَّ المنهج السلفيَّ النقي الذي تقلَّده ابن تيمية ودعا إليه وأوذي في سبيله يأبى عليه أن يصنع هذا الصنيع، وأن يعين ظالما على أحد من أهل القبلة -وإن كان مبتدًعا، وأن يستخدم دين الله في أغراض ومآرب سياسة.

لقد تفطَّن ابن تيمية إلى أن ذلك الجوَّ غير صحيٍّ لأن يبين انحراف أولئك القوم وما يستحقونه من العقوبة. فقد كان الشيخ فقيهًا بالظرف المناسب، وبصيرًا بالسياق المواتي للرد على المخالفين.

وقد ترتب على هذا الموقف المشرق من شيخ الإسلام ودفاعه عن خصومه في تلك الساعة أن كسب قلوب بعض أعدائه، كابن مخلوف الذي دان -بعد ذلك الموقف- بالفضل والتقدُّم لابن تيمية، وصرح بكلمته تلك: “ما رأينا أتقى من ابن تيمية!”.

وفي نهاية المطاف يجدر التنبيه على ثلاثة أمور:

أحدها: إن مواجهة خصوم الدعوة ودعاة التغريب والعلمنة لا ينبغي أن تجعلنا ندافع بتهوُّرٍ عن بعض الرموز الإسلاميين الذين لديهم إشكال وخلل منهجيٌّ، ونقدِّمهم على أنهم هم المنقذون الحقيقيُّون للأمة مما تعانيه من النكبات والويلات؛ مما يترتب عليه التهوين من أمر سلامة المنهج ونقائه وخلوصه من الشوائب، الذي يعتبر أولوية كبرى في طريق الإصلاح وفي مجابهة دعاة التغريب والعلمنة، وفي استنقاذ الأمة من النكبات والويلات.

الأمر الثاني: إن  هذه الحملة المشنونة على الشيخ القرضاوي والتي تشهد دعمًا وتأييدًا كبيرين -وبصورة مباشرة- من بعض ذوي النفوذ السياسي تأتي تنفيذًا لأجندة الغرب، ولتوصيات مراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية، وعلى رأسها مؤسسة راند، فقد أوصت مؤسسة راند في تقريرها عام (٢٠٠٧م)، بأن تكون المواجهة الغربية مع كل التيارات الإسلامية، فليست المواجهة مقتصرة على التيارات الجهادية فحسب، بل هي مواجهةٌ مع كل تيار يتمسك بمضمون الإسلام ويسعى إلى تحكيم الشريعة، سواء كان تيارًا سلفيًّا أو غيره من التيارات الموجودة في الساحة، وعلى ضوء هذا المعطَى صنف التقريرُ الشيخَ يوسف القرضاوي على أنه سلفي متطرِّف!

فمراكز الدراسات الاستراتيجية الغربية تصاب بعمى الألوان حين ترى الرمز الإسلامي متمسكًا بمضمون الإسلام داعيا إلى تحكيم شريعته، فلا تفرق بين تيَّار سلفي أو غيره؛ بل الجميع عندها سلفي متطرف، وهدف مستهدف.

فحملات التشويه والوصم بالإرهاب تستهدف في نهاية المطاف كلَّ التيارات الإسلامية، وعلى رأسها التيار السلفي “الوهابي” الذي يتبناه من الرموز مثل الشيخ ابن باز -رحمه الله؛ بل ستكون الحملة عليه أشدُّ. فكراهتهم للتيار السلفي “الوهابي” هي بالتأكيد أشد من كراهتهم لتيار الشيخ يوسف القرضاوي. فهم قد شنُّوا هذه الحملة الشعواء ضد الشيخ القرضاوي، مع ما لديه من فتاوى في قضايا الولاء والبراء والمرأة والفن ونحوها، تروق لمزاجهم التغريبي؛ فكيف ستكون هجمتهم على رموز التيار السلفي “الوهابي” المعروف بوضوحه وصرامته معهم في مثل هذه القضايا، وشدة مواجهته لأجندتهم التغريبية!؟ لا يشكُّ عاقلٌ في أنها ستكون أشد شراسةً!

ومحاولة بعض من دشَّنوا الحملة على الشيخ القرضاوي التفريقَ بينه وبين الشيخ ابن باز، والإشادةَ بمنهج الشيخ ابن باز وأنه منهج بريء من الإرهاب؛ إنما هو تذاكٍ منهم وحيلة لا ينبغي أن تنطلي على الفضلاء!

إن وكلاء الغرب في تنفيذ أجندته لديهم ذكاءٌ في شنِّ حملاتهم، فهم يطبقون قاعدة “أكلاً للعنقود حبَّةً فحبة”، ويحيِّدون مِن خصومهم مَن استطاعوا تحييده، فهم يبدؤون بالحملة على الشيخ القرضاوي، ولا يتعرضون للرموز السلفية الكبرى كابن باز ومدرسته؛ حتى لا يؤلِّبوا كل الإسلاميين عليهم في آنٍ واحد، وبالتالي تبور حملتهم وتخسر، كلا! هم يؤجِّلون الخصومة قليلاً مع الأطياف الإسلامية الأخرى، ريثما ينتهون من تحطيم هذا الرمز ومن معه، ثم ينتقلون إلى من بعده؛ حتى يصل استهدافهم إلى سائر التيارات الإسلامية.

وهذا يستدعي من أرباب العمل الإسلامي تيقُّظًا ووعيًا باستراتيجيات دعاة التغريب والعلمنة وتكتيكاتهم!

الأمر الثالث: إن هذه الحملة ومجرياتها تستدعي من محبي الشيخ وأتباعه من أبناء العمل الإسلامي وقفةَ مراجعةٍ صادقة مع أنفسهم فيما يتبنَّونه من منهج الإصلاح في الأمة، وأن يضعوا أيديهم في أيدي دعاة المنهج السلفي؛ لتصحيح ما يقع في الساحة من الأخطاء المنهجية! تحقيقًا لقول الله تعالى: ((واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا)). فالجميع في صفٍّ واحد ضد دعاة العلمنة في ديار الإسلام، وإن سلامة المنهج في الدعوة والإصلاح ومدافعةِ أهل العلمنة أولويةٌ كبرى وضرورة قصوى، لا يُتصوَّر الوصول إلى نتائج مَرضيَّة بدونه.

فهل ثمَّة محاسبة جادة، ورغبة صادقة في تصحيح منهج الإصلاح؛ لنصل جميعًا إلى تحقيق ما يرضي الله، على بصيرة وهدى من الله؟!

[1] شرح الأصبهانية: ص43.

[2] العقود الدرية في ذكر بعض مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية (ص: 346).

*المصدر : مركز التأصيل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى