كتب وبحوث

صلة المقاصد بقاعدة المشقة تجلب التيسير

إعداد : ناصر بن سعيد السيف

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن التيسير ورفع الحرج من المقاصد المقطوع بها في الشريعة، وهو من مقاصدها العامة في جميع نواحي الشريعة من عبادات ومعاملات وغيرها، والدين مبنى على السماحة واليسر ورفع الحرج ودفع المشقة وقلة التكاليف، وإذا وجد ما يصعب فعله فقد شرع الله رخصًا تبيح للمكلفين ما قد حُرم عليهم وتسقط عنهم ما قد وجب عليهم فعله حتى تزول الضرورة وذلك رحمة من الله بعباده وفضلا ًوكرماً.

ومن هذا المنطلق كتبت هذا البحث تحت عنوان: (صلة المقاصد بقاعدة المشقة تجلب التيسير)، وقد قسمت الورقة إلى مبحثين:

 المبحث الأول: رفع الحرج من مقاصد الشريعة.

 المبحث الثاني: قاعدة المشقة تجلب التيسير.

نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المبحث الأول : رفع الحرج من مقاصد الشريعة

 تعريف رفع الحرج لغةً واصطلاحًا:

لغة: الضيق والشدة. قال في الصحاح: مكان حَرَج و حَرج أي ضيق كثير الشجر لاتصل إليه الراعية.

اصطلاحًا: كل ما يؤدى إلى مشقة زائدة في البدن أو النفس أو المال حالا أو مآلا.

المقصود بالتيسير في الشريعة:

إزالة ما يؤدى إلى هذه المشاق، والمقصود بالتيسير: التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه، فالتيسير ورفع الحرج مؤداهما واحد أو هما شيء واحد. [1]

 الأدلة على رفع الحرج في الشريعة:

النصوص التي جاءت في نفي الحرج كثيرة، منها:

قوله تعالى: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾[2]

قوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[3]

قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعثتم ميسرين ولم تُبعثوا معسرين)). [4]

قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه)). [5]

وهذا على وجه الإجمال في الدين كله، وأما على وجه الخصوص فقد جاءت نصوص أخرى، مثل:

قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ﴾ [6]

قوله تعالى: ﴿ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا ﴾[7]

 ووردت نصوص في الشريعة تدل على التيسير والتخفيف مما يدل على أن هذه الشريعة مبناها على التيسير ورفع الحرج، ومن هذه النصوص:

قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[8]

قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾[9]

قوله صلى الله عليه وسلم: ((وما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه)). [10]

 مظاهر رفع الحرج في الشريعة:

إن السمة البارزة في أحكام الشريعة هي اليسر والسهولة، وهذا أمر يزداد وضوحاً بالوقوف على الحقائق التالية:

1- أن الله وضع عن هذه الأمة الإصر والأغلال التي كانت على من قبلهم، قال تعالى في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم وحقيقة ما أُرسل به: ﴿ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾[11]

2- شرعية الرخص في الأحوال الطارئة التي تقع فيها مشقة غير معتادة، وشرعية التخفيف عن المكلف، وذلك أن العبادات إذا لحقها مشقة غير معتادة لعارض كالسفر أو المرض أو غيره شرع الله تعالى التخفيف عن المكلف، وتخفيفات الشرع على سبعة أقسام:

الأول: تخفيف إبدال: كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام في الصلاة بالقعود.

الثاني: تخفيف تنقيص: كالصلاة للمسافر يصلى الأربع ركعات ركعتين في القصر.

الثالث: تخفيف إسقاط: كإسقاط الجمعة والحج والعمرة والجهاد بالأعذار.

الرابع: تخفيف تقديم: كالجمع، وتقديم الزكاة على الحول.

الخامس: تخفيف تأخير: كالجمع، وتأخير رمضان للمسافر والمريض.

السادس: تخفيف ترخيص: كصلاة المستجمر مع بقية النجاسة.

السابع: تخفيف تغيير: كتغيير طريقة الصلاة في الخوف.[12]

3- أن الله تعالى لم يكلف عباده ابتداءاً بما لايستطيعون وبما لايقدرون عليه رفعاً للحرج عنهم، قال تعالى: ﴿  لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا  ﴾[13]. فأحكام الشرع ابتداءا سهلة مقدور عليها، فرفع الحرج وصف للشريعة كلها نابع من طبيعتها وسهولة أحكامها.

4- شمول رفع الحرج للعبادات والمعاملات، وهذه أمثلة تبين رفع الحرج في غير العبادات:

أ‌- الأصل في المنافع الحل وتقرير هذا الأصل مبنى على أدلة كثيرة، منها:

قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [14]

قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾[15] فالله عز وجل امتن على عباده بأن خلق لهم ما في الأرض وسخره لهم ولا يمتن الله إلا بما هو مباح، وأنكر سبحانه تحريم شيء من الطيبات إلا بدليل من كتابه أو من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفى ذلك مراعاة لحاجات الناس ورفع الحرج عنهم.

ب‌-  أن التعامل بين الناس على أصل الإباحة، فلهم أن يبيعوا كيف شاءوا، ويتعاقدوا كيف شاءوا شرط ألا تشتمل عقودهم على أمر منهى عنه شرعاً. [16]

 ضوابط رفع الحرج:

هناك ضوابط حتى لايستغل رفع الحرج في التنصل من أحكام الشرع، وهذه الضوابط إجمالاً هي:

1- أن الشارع لم يقصد التكليف بالشاق والإعنات فيه.

 2- أن الشارع قاصد إلى التكليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة لكن يلاحظ على تلك المشقة اللازمة للتكاليف الشرعية أمور أربعة:

أ‌- أنها مشقة عادية لا تسمى في العادة المستمرة مشقة.

ب‌- أنها ليست مقصودة للشارع من جهة نفسها بل من جهة ما في ذلك من المصالح العائدة على المكلف مثل الطبيب الذي يسقى المريض الدواء المر أو يقطع منه العضو التالف لنفع المريض مع علمه بحصول الإيلام بذلك.

ج‌- أن هذه المشقة العادية اللاحقة بالفعل المكلف به واللازمة له غير موجبة للترخص، ولا أثر لها في إسقاط العبادات، إذ لاتنفك العبادة عنها كمشقة الوضوء والغسل في شدة البرد، ومشقة الصيام في شدة الحر وطول النهار، ومشقة الاجتهاد في طلب العلم والرحلة فيه ونحو ذلك.

د‌- أن الله تعالى يثيب المكلف على تلك المشقة، وإن كان لادخل له في اكتسابها كما يثيبه على المصائب.

3- أن هناك مشقة غير عادية ليست لازمة للعبادة في كل حال، ولكن قد تلحق بها لعارض من مرض أو سفر أو نحوهما، فهذه المشقة موجبة للتخفيف، وهي التي وضع لها العلماء قاعدة: (المشقة تجلب التيسير).[17]

المبحث الثاني : قاعدة المشقة تجلب التيسير

شرح القاعدة:

المشقة في اللغة هي: الجهد والتعب، والمراد بالمشقة التي تكون سبباً في التيسير، هي المشقة التي تنفك عنها التكليفات الشرعية، أما المشقة التي لاتنفك عنها التكليفات الشرعية كمشقة الجهاد، وألم الحدود ورجم الزناة وقتل البغاة والمفسدين والجناة، فلا أثر لها في جلب تيسير ولا تخفيف، والتيسير في اللغة هو السهولة والليونة، والمعنى اللغوي هذا يفيد أن الصعوبة والعناء تصبح سبباً للتسهيل.

ومعنى القاعدة اصطلاحاً: أن الأحكام التي ينشأ عنها حرج على المكلف ومشقة في نفسه أو ماله فالشريعة تخففها بما يقع تحت قدرة المكلف دون عسر أو إحراج.[18]

دليل القاعدة:

قامت الأدلة على هذه القاعدة من الكتاب والسنة والإجماع ومشروعية الرخص، منها:

قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾[19]

قوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾ [20]

قوله صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا)). [21]

قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)). [22]

وانعقد الإجماع بين علماء الأمة على عدم وقوع المشقة غير المألوفة في أمور الدين، ولو كان ذلك واقعاً لحصل التناقض والاختلاف في الشريعة وذلك منفى عنها، لأن الأدلة على سماحة الشريعة أكثر من أن تحصر.

ومن أجل ذلك أباح الشارع الانتفاع بملك الغير بطريق الإجارة والإعارة، والقرض، وسهل الأمر بالاستعانة بالغير وكالة وإيداعاً، وشركة ومضاربة، ومساقاة، وأجاز الاستيفاء من غير المديون حوالة، وبإسقاط بعض الدين صلحا أو إبراء، وبالتوثيق على الدين برهن أو كفيل. [23]

وما ثبت من مشروعية الرخص: وهذا أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة بالضرورة كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقة، والتيسير والتسهيل على الناس. [24]

تطبيقات هذه القاعدة:

قال الفقهاء يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته، وأسباب التخفيف في العبادات وغيرها ثمانية:

1-  السفر: المسافر يرخص له في قصر الصلاة والفطر والمسح على الخفين والجمع.

2- المرض: فالمريض يرخص له في التيمم عند عدم القدرة على استعمال الماء، أو عدم وجود من يعينه على ذلك، ويرخص له في الفطر إذا وجد في الصوم مشقة، والقعود في صلاة الفرض إن لم يتمكن من القيام، والاستنابة في الحج ورمي الجمار، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية.

3-  الإكراه: المكره على الكفر يرخص له في التلفظ بكلمة الكفر ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان.

4-  النسيان: وهو عدم تذكر الشيء عند الحاجة إليه، واتفق العلماء على أنه مسقط للعقاب، ومن فاته شيء من الصلاة مثلاً بسبب النسيان فإنه يعذر فيه ولايؤاخذ على تركه وما عليه إلا القضاء.

5-  الجهل: الجاهل يعذر بجهله في أمور كثيرة نص عليها الفقهاء في كتبهم كمن تناول شيئا محرما دون علمه أنه محرم.

6 – العسر وعموم البلوى: من تعسر عليه فعل شيء من الواجبات سقط عنه بدليل قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [25]

7 – النقص: النقص الذى يجلب التخفيف هو الذى يؤدى التكليف معه إلى مشقة غير متحملة غالباً، فلا يكلف الصبي والمجنون بما يكلف به البالغ العاقل لنقص الأهلية، ولايكلف النساء بكثير مما يجب على الرجال كالصلاة مع الجماعة وحضور صلاة الجمعة، والجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأمور التي يشق عليهن القيام بها.[26]

 أنواع المشقة وضوابطها:

المشقة على ثلاثة أقسام:

الأول: مشقة عادية محتملة: وهى لاتنفك عن أي نوع من أنواع التكليف فهذه لاتخفيف فيها، لأنها جزء من العبادة، ولو استجاب الشارع لإزالة هذا النوع من المشقة لانهدم التكليف من أساسه.

الثاني: مشقة متوسطة: وهذه فيها الرخصة، من شاء أخذ بها، ومن شاء تحمل المشقة وله أجره عند الله تعالى، والأجر على قدر المشقة، كالفطر الذى هو رخصة للمريض مرضا لا يخشى عليه منه لو صام أن يزداد مرضه أو تأخر البرء منه، وهذه المشقة المتوسطة لاضابط لها إلا العرف، والمقصود هو عرف العلماء لا عرف العوام.

الثالث: مشقة غير محتملة: وهى التي يقع فيها التخفيف رحمة من الله بعباده، والرخصة فيها تتحول إلى عزيمة يجب على المكلف الأخذ بها، كمن عضه الجوع ولم يجد إلا الميتة، فإنه يجب عليه الأكل منها حفظاً على حياته، بحيث لا يتجاوز أكله قدر الضرورة لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [27]

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

————————————————

[1] انظر: مختار الصحاح، الرازي، ص 54.

[2] سورة المائدة، آية 6.

[3] سورة الحج، آية 78.

[4] رواه البخاري، كتاب الوضوء، رقم الحديث 22.

[5] رواه البخاري، كتاب الإيمان، رقم الحديث 39.

[6] سورة النور، آية61.

[7] سورة الأحزاب، آية 37.

[8] سورة البقرة، آية 185.

[9] سورة النساء، آية 28.

[10] رواه البخاري، رقم الحديث 419، ورواه مسلم رقم الحديث 2327.

[11] سورة الأعراف، آية 157

[12] انظر: قواعد الأحكام، العز بن عبدالسلام، 2/ 6.

[13] سورة البقرة، آية 233.

[14] سورة البقرة، آية 29.

[15] سورة الأعراف، آية 32.

[16] انظر: الأشباه والنظائر، السيوطي، 1/ 60.

[17] انظر: الموافقات، الشاطبي: 2/ 127.

[18] انظر: الأشباه والنظائر، السيوطي، 1/ 92.

[19] سورة البقرة، آية 286.

[20] سورة النساء، آية 28.

[21] رواه البخاري، كتاب العلم، رقم الحديث 196، ورواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، رقم الحديث 1734.

[22] رواه البخاري، كتاب الإيمان، رقم الحديث 116.

[23] انظر: المقاصد الشرعية، محمد اليوبي، ص 101.

[24] المرجع السابق، ص 104.

[25] سورة البقرة، آية 286.

[26] انظر: الأشباه والنظائر، السيوطي، 1/ 203.

[27] سورة البقرة، آية 173.

*المصدر : موقع الألوكة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى