كتب وبحوث

ولي الله الدهلوي وكتابه: حجة الله البالغة

بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد

أما ولي الله الدهلوي فله كتابه: “حجة الله البالغة” – موضع بحثنا – وهو كتاب هام في عصره الذي كان عصر فوضى واضطراب في كل جانب من جوانب الحياة، سواء أكان عقديًّا أم سياسيًّا أم علميًّا أم اجتماعيًّا [1].

ومما دعاه إلى تأليف هذا الكتاب أنه “لاحظ أن العالم الإسلامي مقبِل على تطور جديد، وأنه سوف يستقبل عصرًا يقوم بناؤه على العقل وما يكتسبه من علم، وأنه سوف يواجه ثورة فكرية عارمة، ولا بد من إيضاح الفكرة الإسلامية وجلائها، وبيان أسرار الدين وحكمه، وأصول التشريع الإسلامي وأسسه في تنظيم الحياة والمجتمع” [2].

والكتاب يتكون من قسمين:

الأول: في القواعد التي تنتظم بها المصالح المرعية في الأحكام الشرعية، وهي سبعة مباحث في سبعين بابًا.

والثاني: في بيان أسرار ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيلًا، وهو قسم شامل؛ حيث احتوى على أسرار وحكم: العقائد، والعبادات، والمعاملات بمعناها الواسع.

ويهمنا من هذين القسمين القسم الثاني الذي احتوى على الحكم والأسرار رغم أنه تحدث في القسم الأول عن أسرار الوضوء والغسل، وأسرار الصلاة، وأسرار الزكاة، وأسرار الصوم، وأسرار الحج، وأسرار أنواع من البر.

وهو في بيان أسرار تلك العبادات يبين فوائدها وعوائدها على القلب والنفس والحواس، وأثرها في إصلاحها، وهو بيان يتناسب مع طبيعة الكتاب إذا قرأناه في سياقه التاريخي والإصلاحي.

فهو يقول في الصلاة مثلًا: إن الإنسان يعالج نفسه فيها بحالة هي التعظيم والخضوع والمناجاة.. ومن الأفعال التعظيمية: أن يقوم بين يديه مناجيًا، ويقبِل عليه مواجهًا، وأشد من ذلك أن يستشعر ذله وعزة ربه فينكس رأسه… وأشد من ذلك أن يعفِّر وجهه الذي هو أشرف أعضائه ومجمع حواسه بين يديه [3].

والزكاة تزيد في البركة، وتطفئ الغضب بجلبها فيضًا من الرحمة، وتدفع عذاب الآخرة المترتب على الشح، وتعطف دعوة الملأ الأعلى المصلحين في الأرض على هذا العبد [4].

والصوم حسنة عظيمة؛ يقوِّي الملَكيَّة، ويُضعف البهيمية، ولا شيء مثله في صيقلة وجه الروح وقهر الطبيعة… ويكفر الخطايا بقدر ما اضمحل من سَوْرة البهيمية، ويحصل به تشبُّه عظيم بالملائكة، فيحبونه، فيكون متعلق الحب أثر ضعف البهيمية… وإذا جعل رسمًا مشهورًا نفع عن غوائل الرسوم، وإذا التزمَتْه أمةٌ من الأمم سُلسلت شياطينها، وفتحت أبواب جنانها، وغلقت أبواب النيران عنها [5].

ويرى أن الحج طهارة نفسية، وذكر لله تعالى، ومن باب ذكر الله تعالى رؤية شعائر الله وتعظيمها، فإنها إذا رُئِيت ذكر الله، كما يذكر الملزوم اللازم، لا سيما عند التزام هيئات تعظيمية وقيود وحدود تنبه النفس تنبيهًا عظيمًا… وكما أن الدولة تحتاج إلى عرضة بعد كل مدة؛ ليتميز الناصح من الغاش، والمنقاد من المتمرد، وليرتفع الصيت، وتعلو الكلمة، ويتعارف أهلها فيما بينهم، فكذلك الملَّة تحتاج إلى حجٍّ؛ ليتميز الموفق من المنافق، وليظهر دخول الناس في دين الله أفواجًا، وليرى بعضهم بعضًا، فيستفيد كل واحد ما ليس عنده؛ إذ الرغائب إنما تكتسب المصاحبة والترائي [6].

أما في القسم الثاني المشار إليه قبل قليل فيتحدث فيه “عن جملة صالحة من الأحاديث المعروفة عند أهلها، السائرة بين حملة العلم، المروية في صحيحي البخاري ومسلم، وكتابي أبي داود والترمذي” [7].

ففي الطهارة والوضوء يقول مثلًا: وروح الطهارة وجدان أصحاب النفوس التي ظهرت فيها أنوار ملَكية، فأحسن بمنافرتها للحالة التي تسمى حدثًا، وسرورها وانشراحها في الحالة التي تسمى طهارة [8].

وفي الوضوء يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الطُّهور شطر الإيمان)) [9]، أقول: المراد بالإيمان ها هنا هيئة نفسانية مركبة من نور الطهارة والإخبات، والإحسان أوضح منه في هذا المعنى، ولا شك أن الطهور شطره، قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من أظفاره)) [10]، أقول: النظافة المؤثرة في جذر النفس، تقدس النفس، وتلحقها بالملائكة، وتُنسي كثيرًا من الحالات الدنسية، فجعلت خاصيتها خاصية للوضوء الذي هو شبحها ومظنتها وعنوانها [11].

أما في الجزء الثاني فالحديث فيه – غالبًا – عن الأسباب والأسرار التي شرع من أجلها الحكم، فمن ذلك:

  • النظر إلى المخطوبة، قال: “والسبب في استحباب النظر إلى المخطوبة أن يكون التزوج على رويَّة، وأن يكون أبعدَ من الندم الذي يلزمه إن اقتحم في النكاح ولم يوافقه فلم يرده، وأسهل للتلاقي إن رد، وأن يكون تزوجها على شوق ونشاط إن وافقه، والرجل الحكيم لا يلج مولجًا حتى يتبين خيره من شره قبل ولوجه” [12].
  • كراهة جمع الطلقات الثلاث في طُهر واحد، قال: “وذلك لأنه إهمال للُّحمةِ المرعية في شرع تفريقها؛ فإنها شرعت ليتدارك المفرط، ولأنه تضييق على نفسه وتعرض للندامة، وأما الطلقات الثلاث في ثلاثة أطهار فأيضًا تضييق ومظنة ندامة، غير أنها أخف من الأول من جهة وجود التروي والمدة التي تتحول فيها الأحوال” [13].
  • النهي عن حكم القاضي وهو غضبان، قال: “والسبب المقتضي لذلك أن الذي اشتغل قلبه بالغضب لا يتمكن من التأمل في الدلائل والقرائن ومعرفة الحق” [14].

يتبين مما سبق أن “حجة الله البالغة” يقترب كثيرًا من مفهوم المقصد الجزئي في مسائل الفقه التي تناولها، لكنه لا يتتبع كل حكم بهذه الطريقة، وكذلك ليس كل ما يتحدث فيه أو يذكره يعتبر مقصدًا، بل أحيانًا يكون سرًّا أو سببًا أو من محاسن الدِّين.

وينبغي أن نضع الكتاب في سياقه التاريخي والجغرافي أيضًا؛ حيث كانت مؤلفات الدهلوي عمومًا تنشد يقظة إسلامية ونهضة حضارية وإحياء شاملًا في وقت كانت الهند تعاني فيه من اضمحلال في كل جنبات الحياة وشتى العلوم؛ ولذلك كان تناوله شاملًا في العقيدة والتفسير والحديث والفقه والأصول والآداب والتصوف والحضارة والعمران، وغير ذلك مما شكل به نهضة إصلاحية شاملة.

—————————————-

[1]حجة الله البالغة: 1/ 11،تحقيق الشيخ سيد سابق،دار الجيل،الطبعة الأولى،1426هـ – 2005م،مقدمة الشيخ سيد سابق للكتاب، وما بعدها، حيث فصل الحديث في هذه الجوانب.

[2] حجة الله البالغة: 1/ 18،طبعة الشيخ سيد سابق.

[3] حجة الله البالغة: 1/ 72 – 73،طبعة دار التراث،بدون تاريخ.

[4] حجة الله البالغة: 1/ 74،دار التراث.

[5] حجة الله البالغة: 1/ 74 – 75،دار التراث.

[6] حجة الله البالغة: 1/ 75 – 76،دار التراث.

[7] حجة الله البالغة: 1/ 162،دار التراث.

[8] حجة الله البالغة: 1/ 173،دار التراث.

[9] صحيح مسلم: كتاب الطهارة،باب فضل الوضوء.

[10] صحيح مسلم: كتاب الطهارة،باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء.

[11] حجة الله البالغة: 1/ 174،دار التراث.

[12] حجة الله البالغة: 2/ 124،دار التراث.

[13] حجة الله البالغة: 2/ 140،دار التراث.

[14] حجة الله البالغة: 2/ 166،دار التراث.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى