تقارير وإضاءات

“وجوه محمد”.. صور نبي الإسلام في الثقافة الغربية بين التشويه والإنصاف

“وجوه محمد”.. صور نبي الإسلام في الثقافة الغربية بين التشويه والإنصاف

إعداد عمران عبدالله

في الثاني من أكتوبر/تشرين الثاني 1808، التقى الأديب الألماني غوته ونابليون بونابرت في إرفورت الألمانية التي احتلها الإمبراطور الفرنسي، وناقش الرجلان السياسة وتحدثا عن الأدب، وعندما علم نابليون أن غوته قام بترجمة “مسرحية محمد” للفيلسوف الفرنسي فولتير إلى الألمانية، عقب قائلا إنها لم تكن مسرحية جيدة، ورسمت صورة فاسدة لفاتح عالمي ورجل عظيم غيّر مجرى التاريخ.

وتطرق نقاش الإمبراطور الفرنسي والشاعر الألماني للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكتب غوته تصوره عن النبي في أعماله اللاحقة كرسول نموذجي ذي شخصية سمحت له باستكشاف الفواصل بين النبي والشاعر، وبالنسبة لهؤلاء الرجال الثلاثة -كما هو الحال بالنسبة للعديد من الأوروبيين الآخرين- لا يعد النبي مجرد شخصية تاريخية قديمة، أو رسول دين أجنبي، بل شخصية تمثل قصتها وتراثها الحي مصدرا دائما للفضول والقلق والدهشة والإعجاب.

وعرفت الثقافة الأوروبية تشويه صورة رسول الله محمد بانتظام باعتباره “زنديقا ودجالا وثنيا”، لكن هذه الصور السلبية ليست الوحيدة عن رسول الإسلام التي خرجت من التاريخ الغربي في أوروبا؛ فقد صُوّر النبي أيضا على أنه مصلح ذو رؤية وقائد ملهم ورجل دولة ومشرّع قانوني.

وفي كتابه الجديد “وجوه محمد”، يقدم المؤرخ والأكاديمي الفرنسي جون تولان -المختص بالتواصل الثقافي والديني بين العالمين العربي والغربي في القرون الوسطى- تاريخا شاملا لهذه الرؤى الأوروبية المتغيرة والمعقدة والمتناقضة عن نبي الإسلام، بدءا من الدعوات الأوروبية المبكرة للانضمام إلى الحروب الصليبية ضد المسلمين، متتبعا تطور المفاهيم الغربية عن النبي عبر الإصلاح والتنوير وانتهاءً بالقرنين التاسع عشر والعشرين وحتى يومنا هذا.

كتابات عدائية
وبالطبع لم يظهر كل الكتاب الأوروبيين الإعجاب والاحترام اللذين نجدهما لدى بونابرت وغوته إزاء نبي الإسلام؛ فهناك تاريخ طويل من الكتابات العدائية القديمة والجديدة، بدءا من الازدراء والخوف والإهانة في النصوص المسيحية المبكرة ضد الإسلام إلى تصريحات السياسيين المعاصرين الصاخبة مثل خِيرتْ فيلدرز برلماني حزب اليمين الهولندي المتطرف الذي يهاجم الإسلام ويسيء إلى النبي بانتظام، ومصممي الرسوم الكاركاتورية المنشورة في صحيفة دانماركية.

ويقول المؤلف الفرنسي إنه بحلول حقبة الاستعمار الأوروبي والاستشراق والإرهاب الذي يزعم أن الإسلام مبرر له، أثير النقاش من جديد حول النبي، وعاد محمد صلى الله عليه وسلم إلى قلب التناول الأوروبي للإسلام.

وقبل ذلك بالنسبة للمؤرخين الصليبيين في العصور الوسطى، كان نبي الإسلام يجري تصويره “كمعبود للمسلمين” أو “مهرطق داهية صنع معجزات كاذبة لإغواء العرب” بعيدا عن المسيحية؛ وكلا هذين التصويرين حملا مبررا وذريعة اتخذتها الحملة الصليبية لانتزاع “الأراضي المقدسة” من سيطرة الـ”ساراسين”، وهو مصطلح استخدمه الرومان للإشارة إلى سكان الصحراء في إقليم البتراء الروماني، ثم أصبح يطلق على العرب، وفي العصور الوسطى وخلال الحروب الصليبية توسع المصطلح ليشمل كل الذين يدينون بالإسلام.

وأثبتت هذه الصور المثيرة للجدل -والتي تم استخدامها في العصور الوسطى أثناء الحروب الصليبية- أنها عنيدة؛ ففي أشكال معدلة قليلا قدّم الخطاب الأوروبي المهيمن خلال القرن 17 النبي محمدا بطريقة مشابهة.

وفي القرنين التاسع عشر والعشرين جرى تصوير النبي باعتباره “دجالا” لتبرير الاستعمار الأوروبي في الأراضي الإسلامية ولتشجيع عمل المبشرين المسيحيين؛ وهذا العداء تجاه الإسلام ورسوله جزء مهم من القصة التي جرى سردها في صفحات الكتاب الجديد، لكن هناك وجوها أخرى إيجابية وناصعة كذلك.

وجوه إيجابية
يكشف “وجوه محمد” عن تقاليد عريقة من الصور الإيجابية لنبي الإسلام سيجدها الكثيرون مفاجئة، مثل ما صوّره به الإصلاحيون الجدليون الذين اعتبروا انتشار الإسلام دليلا على فساد الكنيسة القائمة ودفعهم ذلك لاعتبار النبي محمد بطلا للإصلاح.

وفي إنجلترا الثورية -في الفصل الخامس من الكتاب- يستعرض الكاتب مقارنة الكتّاب الأوربيين على جانبي النزاع البريطاني بين رسول الله وأوليفر كرومويل، وهو قائد عسكري وسياسي إنجليزي هزم الملكيين في الحرب الأهلية الإنجليزية وحوّل إنجلترا لجمهورية في القرن السابع عشر، متسائلين عما إذا كان النبي متمردا على سلطة شرعية أم حاكما لنظام جديد عادل.

ورأى فولتير النبي محمدا في البداية على أنه متعصب ديني نموذجي وذلك في مسرحية حملت اسم “محمد” والتي قيل إنه قصد منها رمزية وإسقاطا على شخصية فرنسية أخرى تجنبا للرقابة الكنسية، ومع ذلك تراجع فولتير عن رؤاه السلبية عن نبي الإسلام الذي اعتبره عدوا للخرافات وأثنى في أعمال لاحقة عليه وامتدح دينه الذي ليس فيه طلاسم أو ألغاز ويحرم القمار والخمر ويأمر بالصلاة والصدقة.

ويستنتج الكتاب أن لنبي الإسلام عليه الصلاة والسلام الكثير من الوجوه والتصورات في الغرب، لكنه كان على الدوام مرآة يستكشف فيها الأوروبيون اهتماماتهم الخاصة أكثر من تناول الحقائق التاريخية.

“ماهوميت”
ويقول المؤلف جون تولان إن كتابه لا يدور حول محمد نبي الإسلام، بل عن “ماهوميت”، أي الشخصية التي تخيلها ورسمها كتاب أوروبيون غير مسلمين بين القرنين الثاني عشر والحادي والعشرين. ويميز تولان في كتابه بين اسم “محمد” الذي يستخدمه لتناول النبي في المصادر التاريخية والتقاليد الإسلامية، وبين مختلف طرق الهجاء المشوش لاسمه الموجود في اللغات الأوروبية، مثل ماهوميت (Mahomet) و(Machomet) و(Mathome) و(Mafometus) و(Mouamed) و(Mahoma).

ورغم أن الكاتب خصص عمله لصور النبي في الثقافة والأدبيات الغربية، فإنه يحاول أيضا -فيما يبدو خروجا عن موضوع الكتاب- أن يتناول صورة النبي في المصادر الإسلامية والسيرة، ودخل في كتابه في نقاش حول سيرة النبي في القرآن والسنة النبوية والمرويات.

ويشدد الكاتب على أنه يتناول الصور الأوروبية عن نبي الإسلام وليس التصورات المسيحية، معتبرا أن الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية الأوروبية هما فرعان فقط للدين المسيحي الذي يضم أيضا الطوائف السريانية والقبطية واليونانية والأرمنية والإثيوبية وغيرها، مشيرا إلى أن الكنائس “الشرقية” لها تاريخ غني من التواصل الطويل والوثيق مع الإسلام وعلومه، ولم يتعرض في كتابه لهذه التصورات التي وصفها بالرائعة كونها خارج نطاق دراسته، على الرغم من أنه أشار لكون أعمال المسيحيين الذين يكتبون باللغتين اليونانية والعربية مؤثرة في أوروبا الغربية.

كما أن العديد من الأوروبيين الذين تناول المؤلف كتاباتهم لم يعرّفوا أو يقدموا أنفسهم كمسيحيين، ومنهم يهود أو ملحدون.

صور مغلوطة
وفي الفصل الأول يكشف المؤلف أن بعض الأوروبيين من القرن الثاني عشر إلى السابع عشر وما بعده يصورون الإسلام على أنه عبادة أوثان، وقد تخيلوا أن “ماهوميت” هو أحد كبار آلهة المسلمين.

وقام عدد من المؤرخين الذين وصفوا الاستيلاء على القدس من قبل قوات الحملة الصليبية الأولى بتناول أعدائهم بالطريقة المألوفة والمحتقرة كمشركين وثنيين، مصورين “الساراسين” بصورة شبيهة بطقوس الوثنيين في اليونان القديمة وروما، لكن من المفارقات أن هذه الصور تشبه أيضا عبادة القديسين المسيحيين.


صورة من مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية للوحة تعود لعام 1808 لفنان مجهول الهوية ترمز إلى تحطيم الأصنام في فتح مكة (ويكيميديا)
صورة من مخطوطات المكتبة الوطنية الفرنسية للوحة تعود لعام 1808 لفنان مجهول الهوية ترمز إلى تحطيم الأصنام في فتح مكة (ويكيميديا)

ويروي المؤرخون الصليبيون والشعراء الملحميون مثل تشانسون دي رولان، أن انتصار الصليبيين “الصالحين” يقدم دليلا على صحة وفعالية معتقد المسيح وقديسيه وعلى عجز معبود وإله الساراسين، وبالطبع عرف الذين قرأوا أي شيء عن الإسلام أنه دين توحيد وأن محمدا كان نبي المسلمين، وليس إلههم.

وفي الفصل الثاني يتناول الكاتب صور العديد من المؤلفين من العصور الوسطى لـ”ماهوميت” على أنه مؤسس -إنساني تماما- لنسخة جديدة منحرفة عن المسيحية، أو بدعة، ونجح من خلال الوعظ والخدع السحرية والمعجزات الخاطئة في خداع العرب الساذجين وأقنعهم بكونه نبيا ليصبح قائدا لهم.

وبما أن المسلمين استولوا على معظم الإمبراطورية الرومانية المسيحية، وأثروا أراضيها وعمروها، وهزموا باستمرار الجيوش الصليبية، فقد سعى هؤلاء الكتاب والمؤلفون إلى إرضاء قرائهم بأن المسيحيين كانوا على الرغم من ذلك مفضَلين من قبل الله تعالى، معتبرين أن “ماهوميت” لم يقدم شيئا أكثر من صورة كاريكاتورية فظة ومشوهة للدين الحقيقي.

الإسبان والعثمانيون
ورغم توقع أن يكون نهج الدارسين والمؤلفين الإسبان أكثر دقة إذ كان الإسلام حاضرا فيهم منذ وصول جيش طارق بن زياد في عام 711 للميلاد إلى طرد الموريسكيين في القرن السابع عشر، لكن في الواقع فقد درس علماء مسيحيون إسبان مثل أسقف طليطلة رودريغو خيمينيز دي رادا المصادر الإسلامية في القرن الثالث عشر فقط، لتعزيز صورة نبي الإسلام كنبي “كاذب ومتمرد” ضد سلطة سياسية شرعية.

وفي القرن الخامس عشر استخدم العديد من المؤلفين الإسبان والأوروبيين الآخرين صورة النبي المشوهة هذه للدفاع عن حملات صليبية جديدة ضد المسلمين في غرناطة وضد الإمبراطورية العثمانية، وبعد غزو غرناطة عام 1492، كان هناك ضغط متزايد على المسلمين للتحول إلى المسيحية قسرا، واستخدم الكاثوليك نصوصا ملفقة لحث الموريسكيين على تغيير دينهم.

في الوقت نفسه في شمال جبال البرانس، كان المشهد المذهبي في أوروبا يمر باضطرابات هائلة، أثارها كل من الإصلاح البروتستانتي والغزو العثماني لكثير من جنوب شرق ووسط أوروبا، ولفهم هذه التغييرات حاول العديد من المؤلفين الأوروبيين مقارنة الاختلافات والتشابهات بين الكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، كما يشرح المؤلف في الفصل الرابع.

جدل مسيحي
ومن أجل تشويه لوثر وكالفن، قال الكاثوليك إنهما كانا “أسوأ من ماهوميت”، ورد المنظرون البروتستانت بالمثل مؤكدين أن البابا الكثاوليكي “كان أسوأ من ماهوميت”، وأن الـ”ماهوميتانية” و”البابوية” كانتا بدعتين عظيمتين قام الشيطان بتلفيقهما.

في هذا الصراع بين المسيحيين والقلق في مواجهة الفتوحات العثمانية، اهتم عدد من المفكرين الأوروبيين بالقرآن. ففي عام 1513، نشر ثيودور بيبيل آندر أول كتاب قرآني مطبوع وهو الترجمة اللاتينية من القرن الثاني عشر لروبرت كيتون، يرافقه مجموعة من النصوص حول الإسلام، بما في ذلك مقدمة لمارتن لوثر الذي أوضح أنه ليس هناك طريقة أفضل لمحاربة الترك من فضح “أكاذيب وخرافات ماهوميت”.

ويقول الكاتب إنه غالبا ما تمت دراسة القرآن من أجل مناهضة الإسلام، إلا أن بعض الكتاب المسيحيين بدلا من ذلك استخدموا هذه الدراسة ضد المسيحيين الآخرين.

وفي الفصل السادس بعنوان “نبي التنوير، المصلح والمشرّع”، يستعرض المؤلف صورة النبي محمد لدى المثقفين الأوروبيين في القرن السابع عشر الذين نظروا إليه كمصلح نموذجي ومحطم للكهنوت وعدو  لخرافات الجماهير، وجرى تقديم “ماهوميت” كنبي التوحيد الذي طهّر الدين بتجريد العقائد من الطقوس الوثنية وألغى امتيازات رجال الدين وأقام علاقة مباشرة بين الله والمؤمنين.

وبالنسبة لنابليون، كان النبي عليه الصلاة والسلام نموذجا يحتذى به، لكونه قائدا كاريزميا وخطيبا وعبقريا عسكريا، كما يظهر في الفصل السابع بعنوان القانوني ورجل الدولة، والبطل، أو النبي الرومانسي.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى