هل أخفقت حركات الإصلاح ومشروعات التحرر؟

هل أخفقت حركات الإصلاح ومشروعات التحرر؟

بقلم حسام شاكر

ما حاجة المجتمعات بحركات إصلاحية تعجز عن تحقيق وعودها في قرن أو حتى في نصيفه؟ وما جدوى مشروعات التحرُّر إن لم تنتزع استقلالاً ولم تحقِّق سيادةً بعد عقود من “الكفاح” وكبواته؟ لا تنفكّ أسئلة مركزية كهذه عن الواقع المأزوم في العالم العربي والإسلامي، وهي شواغل تقليدية عرفتها بعض فضاءات “العالم الثالث” أيضاً.

لا يتردّد بعضهم في حسم مسألة “النجاح أو الإخفاق” هذه بأحكام قطعية، فإن عجزت حركة إصلاحية معيّنة عن تحقيق هدفها في عقود من الزمن تطول بها أو تقصُر؛ تصير عندهم “فاشلة” حُكْماً؛ وما عليها سوى مصارحة ذاتها بـ”حصادها المرّ” بلا مكابرة. وإن لم تتحرّر أوطانٌ من احتلال جاثم على أرضها ومواردها أو لم تنعتق بلدانٌ من هيمنة خارجية مفروضة عليها؛ فكفى بهذا المآل صكّ إخفاقٍ لمشروعات نادت بـ”الاستقلال التامّ أو الموْت الزُّؤام”. قد تبدو هذه في جملتها أحكاماً منطقية، فالقوم الذين لم يحقِّقوا أهدافاً رسموها ابتداءً إنّما حكموا على مسعاهم بالإخفاق. لكنّ إغراء المقولات الصارمة والاستنتاجات الميكانيكية، على هذا النحو، لا ينبغي له أن يعطِّل تمحيصها ومراجعة سؤال “النجاح والإخفاق” في جوهره؛ وفتح آفاق جديدة للتفكير والتصرّف في هذا الشأن.

تقويم تحت وطأة الانكسار

تضغط الصدمات على حركات وتشكيلات وأوساط إصلاحية عربية تعيش حيْرتها أو تتقلّب في ذهولها، ومن المفهوم أن تضطرب بعض قياداتها وصفوفها في وصف الحالة وتأويل بواعثها وتشخيص ملابساتها وتقدير سبل الخروج منها. وقد يختطّ بعضهم خلاصاتٍ مؤلمة على رصيف مَنْفى انتهَوْا إليه مع جمهرة غفيرة من النخب العربية والمسلمة المُطارَدة وقد فقدت أرضها والتصاقها بالواقع المباشر في بلادها وداهمها الإحساس بالاغتراب عن وقائع جديدة وأجيال ناشئة.

ليس مُفاجِئاً أن تتطرّف مقارباتٌ محسوبةٌ على “المراجعات” و”النقد الذاتي” في الحركات الإصلاحية ومشروعات التحرّر فتتمخّض عن استنتاجات قطعية من وحي انكسار يخالج موسم الانقضاض على الشعوب والمجتمعات، وتحت وطأة صعود الهيمنة الخارجية بأثواب جديدة، وقد تمنح بعض هذه الخطابات انطباعاً بأنّ تجارب الإصلاح لم تكن على شيء يُعتدّ به البتة، مع الإمعان في جلْد الذات أو لوْم الضحية. وتُحَيِّد بعض هذه المقاربات عواملَ وملابساتٍ مؤثِّرة في الواقع وما أفضى إليه، وكأنّ حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر وحدها تعمل في فراغ أو أنها وحدها مَن يرسم ملامح الواقع ويضبط إيقاعه ويحدّد مصائره.

وعود التأسيس والأدوار التاريخية

تغفل مقاربات تقويم التجارب ومراجعة رهاناتها، عادةً، عن أنّ العجز عن تحقيق وعود التأسيس لا يقضي بإلغاء أدوار تاريخية محتملة، قد تكون مهمّة، اضطلعت بها هذه الحركات أو بعضها؛ وإنّ لم تتحرّاه ابتداءً على وجه التعيين. لا يلحظ بعضهم، مثلاً، أنّ التشكيلات التي تروم الإصلاح والتغيير في واقع الأمم والمجتمعات لا تنتهي غالباً إلى تحقيق ما انتدبت ذاتها لإنجازه وإن اقتربت منه بأشواط، لكنّ ذلك لم يَقضِ بإخراجها من الواقع بأطرافه المتعدِّدة وعوامله ومتغيِّراته. كما أنّ الأحزاب والحركات السياسية حول العالم ترفع شعارات لا يتسنّى لمعظمها أن يتحقّق، وإن صيغت مشروعات وبرامج على ضوئها. ولم يأبه “المجتمع الدولي” ذاته بانهيار وعود كبرى تعهّد بإنجازها بلا هوادة في سنوات معدودات؛ كما حصل مع “الأهداف الإنمائية للألفية” المبرمة مطلع القرن الحالي ثمّ آلت إلى إخفاق ذريع مع بلوغ الأمد المحدّد سنة 2015. تكشف هذه الشواهد وسواها عن فجوة تقليدية في الاجتماع البشري بين الأهداف الكبرى المرسومة وواقع الإنجاز المتحقق، والتي تعود في جانب منها إلى الفارق بين الطموح والممكن؛ هذا إن توفّرت إرادة الإنجاز أساساً.

لا تنتفي الحاجة، أيّاً كان الواقع والمآلات، إلى تشخيص أدوار تاريخية شَغَلْتها حركاتُ الإصلاح ومشروعات التحرّر، وقد يكون مدخل النظر – مثلاً- افتراض تحييد الانبثاق والتشكُّل الذي صار في الواقع، وهو افتراض نظريّ بَحْت لا صِلَة له بالواقع أساساً؛ لكنه قد يفتح النظر على منظور مُغايِر قد لا يُتنبّه له، أي أن يُصاغ سؤالٌ افتراضي: ماذا لو لم تكن التجربة قد انبثقت أو تشكّلت أساساً؟ فإن لم تُنجِز حركةٌ إصلاحية أهدافها المرسومة ابتداءً أو لم يبلغ مشروعُ تحرّرٍ غايته المثلى؛ أيّ حال سيكون لو انتفى حضورهما في الواقع ولم تتبلْوَر “بدائلُ” عنهما أو تجارب رديفة تنهض بالدّوْر عينه أو تتجاوزه أو تَقصُر عنه؟

ما ينبغي الإقرار به أنّ حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر ليست تجارب وظيفية وحسب؛ وإنما هي تعبير عن إرادة كامنة في مجتمعاتها وروح سارية في أممها أيضاً، وفي انبثاقها من واقع مأزوم أو بزوغها في لحظة حيْرة؛ إشارةُ حياةٍ وكناية عن تسجيل الحضور ضمن سياقاتها التاريخية والظرفية والمجتمعية؛ عِوَض الرضوخ للموات والركون للخضوع والقعود بلا تصرّف. إنّ هذه التجارب هي “محاولات” للفكاك من واقع؛ قد يُكتَب لها النجاح بأقدار أو لا يُكتب، ولأدائها الذاتي حظّ معتبر وإن لم يكن مُطلقاً في ما تنتهي إليه من مآلات. من القسط الاعتراف بأنّ الواقع القهري المفروض على مجتمع ما أو على شعب أو أمّة؛ قد يتجاوز أحياناً، لأسباب موضوعية، قدراتِ مراكز الثقل والقوى الفاعلة في كلٍّ منها على مواجهته وتغييره كما يُرجَى. وإنْ كان مفهوماً أن تَرفَع حركاتٌ وتشكيلاتٌ سقْفَ طموحها في لحظة الانبثاق؛ فإنّ محاكمة تجاربها بشعاراتها العريضة والآمال التي انعقدت على نواصيها ابتداءً؛ قد يعني تجهيز مقاصل جائرة لها لا تُراعي واقع التجارب ومخاضات المراحل وكبوات المحاولة؛ وهو ما يتعارض مع فقه الاجتماع الإنساني أساساً.

من نافلة القول أنّ الدور التاريخي الذي نهضت به بعض حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر، ربما دون إدراكٍ مُسبَق منها، كان في عنوانه العريض: إبطاء انهيارٍ مؤكّد أو تقليل خسائر فادحة أو الاحتماء المعنوي من حملة ضارية أو إنضاج شروط تتطلّبها لحظةُ كمونٍ لانبعاث قد يتأتّى في مراحل تاريخية لاحقة، وهو ما تُظهِره خلاصة تجارب انبسطت شواهدها للناظرين عبر بيئات البشر في ماضيهم وحاضرهم. لا يقضي هذا كلّه بإعفاء التجارب من التقويم المتجرِّد والمراجعة الفاحصة؛ لكنّ ذلك لا يصحّ به أن يمضي بمعزل عن استحضار الوعي ببيئة الاشتغال وواقع التحرّك وعموم الظروف المحيطة بالتجارب واستحضار التناسب في الأدوار ومخزون قدراتها ونموّ خبرات التجريب، مع التحرّر من وطأة لحظة الانكفاء أو الانكسار الداهمة على الوعي؛ بما تحرِّض عليه من التهويل أو التهوين، ومن جلد الذات أو إنكار الواقع.

معادلات الدرجة الأولى

لا يجوز لمراجعةٍ فاحصةٍ أن ترضخ لسؤال “النجاح والإخفاق” بسذاجته الأولى، التي تفترض علاقة خطِّية مباشرة بين فاعل فريد ومفعول به في فراغ مخبري معزول عن الواقع، أو بين متغيِّر مستقلّ ومتغيِّر تابع ولا شيء سواهما، لأنّ معادلات الدرجة الأولى ببساطتها لا تقتدر أساساً على اختزال الواقع وتظهير تفاعلاته وتقدير مُخرَجاته.

 

تأتي في هذا السياق مقارباتٌ سطحية يستثقل بعضُها استحضارَ الواقع بتعقيداته المتشابكة، وقد يُدرِك أصحابها ضمناً أنّ وصف الواقع بما يستأهله حقاً من التدقيق لا يخدم تحيُّزاتهم المُستبطَنة ولا يرجِّح أحكامهم المُسبَقة التي يرغبون بالانتهاء إليها عبر حيلة “المراجعة والتقويم” أو “وقفات التأمّل” المألوفة. قد تُسمَع في هذا الشأن، مثلاً، تعبيراتٌ ساذجة، من قبيل القول: “كفانا تنظيراً”، “لا نريد نظريات”، “بعيداً عن الكلام النظري”، بما يكشف عن سوء فهم سيُفضي على الأرجح إلى إساءة تقدير. إنّ رفض “التنظير” في هذا المقام هو موقف غير رشيد في أصله؛ وقد يكون تواطؤاً مع تصوّرات -نظرية بطبيعتها- استبدّت بالأذهان لا يُراد فحصها أو مكاشفتها بما هي عليه من الهشاشة والتهافت. وواقع الحال أنّ التجارب الجماعية إنما تنبثق عن رؤى وتصوّرات ومفاهيم نظرية؛ تكون مُستبطَنة في الأداء وإن لم تدوّن أو يُتوافَق عليها بدقّة، ولعلّها منشأ العلّة في بعض ما انتهت إليه تجارب منكفئة وخبرات منكسرة.

إنّ إصلاح الموقف السلبيّ من “التنظير” المُفترَض، ومراجعة المعادلات التصوّرية المُختزلة التي يجري إبرامها أحياناً بصفة صارمة؛ خيار لا غنى عنه لأي تقويم جادّ للتجارب واستدراك رشيد عليها. فمن المألوف مثلاً، أن ينقلب بعضهم عبر قنطرة “المراجعة والتقويم” و”وقفات التأمّل” من فرضيات ساذجة يكثُر ذمُّها؛ إلى أخرى تستأهل وصفاً شبيهاً؛ وإن خالفتها في الوجهة، وقد لا تنكشف مثالبها إلاّ بعد تجريب مديد.

أخطاء التجارب واضطراب المراجعات

ممّا يُغري بالتعسّف في الأحكام أن تُستحضَر أخطاءٌ مشهودة أو مُفترَضة واتِّخاذها حجّة على تجارب عريضة ومديدة. ثمة حقيقة مؤلمة لا مناص من الإقرار بها؛ أنّ الأخطاء -الفاحشة أحياناً- سِمَة لا غنى عنها لأي أداء متحرِّك في واقع متغيِّر؛ وإن كان هذا لا يُجيز تبريرها أو التماس الأعذار لها. يتطلّب هذا حرصاً على التناسُب في استعراض التجارب وعقلنة طرائق تقويمها، مع تقدير الأوزان الحقيقية لأخطاء التصوّر وعثرات الممارسة على واقع التجارب وصيرورتها.

تميل الأوساط الطُّهوريّة، مثلاً، إلى استسهال جَلْد الذات إن وقفت على أخطاء مُفترَضة في الأداء، من قبيل حالات فساد في الإدارة أو تسيُّب في المال، ومثل هذا شائن بلا ريْب؛ لكنّ ارتفاع سقف توقّعاتها الأخلاقية المُسبَقة من ذاتها تبعاً لمشربها الطُّهوري يرتدّ عليها باستبعاد أن يقع مثل هذا منها؛ دون أن تلحظ أنّ مثل هذا الانحراف لا تخلو منه تجربة مشهودة في الواقع البشري أُخضِعت لرقابة صارمة ومُساءلة شفّافة ومكاشفة جادّة.

لا تأتي الأخطاء والعثرات في التجارب على ضرب واحد، ومن أمارات عافيتها أن تتصرّف التشكيلات باستدراك رشيد مع ما يقع من أوساطها؛ لا أن تتواطأ على تبريره أو شرعنته أو حتى الاكتفاء بِكَنْسِه تحت بساط التجاهُل والتغافل، ومن لا يُقاوم أدنى الانحرافات قد تبتلعه عقابيلُها. لعلّ جانباً من المعضلة يكمن في تصوّرات طهورية مسبقة، أو في أوصاف سابغة من قبيل “الإسلاميين”، الذي قد يوحي لبعضهم بعصمة وحصانة من دون الناس، وهو وصف حادث على حركات مجتمعية أُلقي عليها فتلبّسته بما قد يوحي بأنّ هؤلاء النفر من بيت نبوّة خالص؛ لكنّهم قد ينزلقون كما تدهوَر أخوة يوسف -عليه السلام- في وادي الجَوْر إن لم ينفكّوا عن علائقهم الاجتماعية ونزعاتهم النفسية وتطلّعاتهم الشخصية. تبقى الإشارة إلى أنّ أخوة يوسف هم أنفسهم من بيت نبوّة وصلاح؛ بما يُعين على تقدير واقعيّ لمعضلة التشكيلات الطُّهورية أو تصنيفات مثل “الإسلاميين”؛ عندما يؤول بعضٌ من منتسبيها مثل غيرها من الأوساط؛ إلى ظَلَمة يتواطؤون على الجوْر وينسجون أحابيل التذاكي في ستر المظالم، ما داموا بشراً ولم يعملوا بالوصايا، وغفلوا عن اشتغال الدنيا -التي تنادوا لإصلاحها- فيهم.

من المزالق الرائجة في حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تتفشى فيها ثقافة عامة تقبل بالخلل وتستمرئ الزلل، بعد أن تتهاون مع مقدِّماته أو تلتمس له الأعذار. لهذا سننٌ معلومة، منها ما تحاول نظرية “دوّامة الصمت” -مثلاً- تشخيصه في حالة سكوت سارية تتواطأ في تمريرها الجمهرة ولا يصدّها سوى فعل استثنائيّ من قبيل الصدع بالحقّ والجهر بالموقف وفعل المقاومة الذي يكسر حلقات التواطؤ المتراكمة. وفي قصة يوسف -عليه السلام- ذاتها عبرة، فمن كادوا له كانوا أخوته الذين تواطؤوا على التخلّص منه بعد أن تمكّنت منهم مشاعر غير سويّة، دون أن يترجّل منهم من يصدّ المنكر ويكسر الموجة ويكبح الحالة.

إنّ المخاطر الأخلاقية التي تفتك بالجماعات هي نتائج مرتبطة بمقدِّماتها من الصمت والتمرير وتشابكات الأواصر الوثقى والمصالح المزمنة، ومن عِلَل الحاضر أن تعزِّز ثقافةُ الودّ والتقدير وإنزال الناس منازلهم؛ أو حتى تواطؤات المصالح ونحوها؛ حالةً من السكوت عن الحقِّ وتقاليدَ من المجاملة على حساب الموقف؛ فيشيع التغاضي عن الخطأ واستمراء العلل؛ وقد تُفسِد الثمرة المعطوبة الحمولة بما فيها إلا قليلاً. قد تبدو معضلة الحركات الإصلاحية ومشروعات التحرّر في أنها لا تنفكّ عن واقع انبثقت منه بغية إصلاحه وتحريره، بما يشير إلى أنّ واقع الحركات والتشكيلات ذاتها يتطلّب مراجعة إصلاحية وترميماً مستمرّاً؛ إن بقي منها شيء على ما كانت عليه أساساً.

مراجعات الانكسار

بعد الانكسارات قد يسود الإحباط وتتفكّك الأطر، وفِي أجوائها يختلط التشاؤم بالتقدير ويمتزج التلاوُم بالتحليل، وقد يأتي هذا كلّه تحت عباءة “المراجعات” أو بذريعة “وقفات التأمّل”، وهذا لا يُضير مطلب المراجعة أو التدبّر في أصلهما. يؤدِّي هذا المنحى في نتيجته إلى تضخيمٍ متوقّع في بعض جزئيّات النقد وزوايا النظر ومبالغة في جدوى الخيارات البديلة التي يقترحها الناقدون ويرون فيها حلاّ ناجزاً لا ريْب فيه، وتُقابلها نزعاتُ إنكارٍ وروحٌ دفاعية وآمالٌ حالمة تشي بانفصال عن الواقع وانغماس في مراحل تصرّمت.

ما لا ينبغي تجاهُله عموماً؛ أنّ الخروج بتقديراتٍ واستنتاجات بعد تكوين خبرة عملية من الواقع ومآلات القرار وعواقب الممارسة؛ يختلف، بطبيعة الحال، عن التقدير المُسبَق قبل تكوين هذه الخبرة واتِّضاح هذه المآلات وانكشاف هذه العواقب. فالقول بوقوع أخطاء ما مُفترَضة بعد انكفاء تجارب أو انكسارها مثلاً؛ يقتضي ملاحظة أنه جاء لاحِقاً لما جرى وبعد اتّضاح عواقب بعض الاختيارات؛ وليس سابقاً عليه أو مواكِباً له على الأرجح.

من المفارقات المعهودة في هذا الصدد أنّ بعض من ينعون على حركات إصلاحية ومشروعات تحرّر؛ وقوعَها في “أخطاء” ويشدِّدون النكير عليها؛ لم يروْها أخطاء قبيل الإقدام عليها أو لعلّهم استبشروا بها خيراً مع المستبشرين؛ أو ربما كانوا من شركائها وصانعيها. قد يكون القوْل بالخطأ بعد الأداء تنبيهاً متأخِّراً أو محاولة تدبّرية لاستلهام العِبَر، وقد يُصاغ هذا بمثابة صكّ اعترافٍ متأخِّر أو محاولةَ تنصُّلٍ ممّا جرى أو تعبيراً عن تلاوُم داخلي وتدافُعِ في الأدوار، أو غير ذلك من الاحتمالات. وإنْ كان التدبّر واستلهامُ العِبَر مطلوبيْن بلا ريْب؛ فإنّ معضلة هذا الاستدعاء أنّ الزمن قد لا يُعيد ذاته على النحو الذي جرى بحذافيره، وأنّ التجارب قد لا تُستأنَف بمواصفاتها التي عرفتها سابقاً، وأنّ سلوك الأطراف في جولات لاحقة قد لا يتطابق مع سلوكها المشهود في صوْلات خالية.

ثمّ إنّ ربط أخطاء الأداء بالنتيجة أو بالمآل لا يقضي بأنّ البدائل المُقترَحة من أصحاب الرؤى والتقديرات كان بوسعها أن تقود إلى نتيجة مغايرة حقاً أو إلى مآل مختلِف عمّا انتهى إليه الحال؛ وإن تغيّرت التفاصيل أو طال الزمن أو قَصُر. وإنْ تزاحَم القائلون بوقوع أخطاء في تجارب إصلاحية وتحرّرية؛ فإنّ فحص تقديراتهم قد يكشف عن اجتماعهم على مقولة الخطأ حقاً؛ وافتراقهم في تحديد طبيعته وتعارضهم البَيِّن في المقترحات العملية التي يَعرِضونها بصيغة “كان ينبغي عمل كذا وكذا”. ومن يدرس رؤى بديلة يقترحها القائلون بتخطئة التجارب يلحظ افتقار بعضها إلى التماسُك في منطقها والواقعية في وعودها، وقد يبدو بعضها حالماً في تعظيم مردودها المُفترَض أو قد يُحيِّد استجاباتٍ محتملة لدى أطراف مقابلة وقوى مضادّة؛ أو قد يميل إلى حتميّات وقطعيّات من قبيل “لو فُعل كذا لكان كذا”، وكأنّ الأطراف المقابلة والقوى المضادّة لا يسعها إلاّ أن تتصرّف على النحو الذي بدر منها في سابق التجربة حصراً.

مراجعات وتراجعات

ليس نادراً أن تخوض أوساط محسوبة على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر مراجعاتٍ نقدية لرؤاها وخطاباتها وأدائها، خاصة بعد الانكسارات أو خلال منعطفات حَرِجة تمرّ بها أو تهوي بتجاربها. قد يأتي في سياق هذه “المراجعات” ما ينطوي على تراجعات عن قناعات راسخة أو التزامات سابقة، وبعض هذا قد ينقض رؤى الإصلاح والتحرّر أو يجدِّدها باقتدار. كما يتولّى بعض “الخبراء” و”المختصِّين” و”الفقهاء” و”الاستراتيجيين” الدفع بجهود “تأصيلية” قد ينطوي بعضها، بقصد أو بدون قصد، على تراجعات كهذه، وقد تنزلق إلى رؤى مارقة ممّا انبثقت عنه هذه التجارب، أو قد تتبنّى مقولات عُدّت بمنطقها السابق فجّة، أو قد يُكتفَى بتهيئة الأذهان للتراجعات وتكييف الوجدان مع احتمال القبول بها، دون أن تعجز عن حشد المسوِّغات أو الذرائع اللازمة لهذا المسعى؛ بصرف النظر عن رُشدِه أو تعسّفه. وليس نادراً أن تتفكّك الخطابات الإصلاحية والتحرّرية وتسيل؛ بمساهمة فعّالة من محسوبين على التجارب ذاتها؛ وبعضهم من روّادها أحياناً، وفق مسالك نقْض الغَزْل وفضّ التجربة.

إسقاط تجارب على أخرى

من وجوه الخلل النمطية في تقويم التجارب أو محاكمتها؛ استدعاءُ غيرها في مقام شواهد الإثبات على الجدارة الذاتية أو في معرض تأكيد الإخفاق المُفترَض، عبر مقارنات تفتقر إلى التناول المنهجي. يطيب لبعضهم في هذا المنحى إسقاطُ تجربةٍ على أخرى تأسيساً على وجوه شبه مُفترَضة؛ بصفة معزولة عن الخصائص والسياقات. لا يفرِّق بعضهم بين مطلَب دراسة تجارب أخرى لاستلهام العبر منها؛ والتعسُّف في اتِّخاذها قالباً نموذجياً للاحتكام إليه بمنطق يستسهل إسقاط تجربة على أخرى. يبلغ التناقض مبلغه في انتقاء تجارب مخصوصة من الأمّة والعالم دون غيرها؛ غالباً بمفعول اشتهارها دون غيرها أو تحت وطأة الانبهار الجارف بها، مع اجتزاء مقاطع زمنية محدّدة دون سواها من التمرحُل الذي شهدته تلك التجارب المُستدعاة للمقارنة.

فإنْ تعلّق النظر بحالة انقلاب عسكري على الديمقراطية؛ يميل بعضهم في العالم العربي إلى استدعاء التجربة التركية البازغة في الوعي، من خلال واقعة انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016 واستحضار سلوك القيادة التركية خلالها، متغافلين أحياناً عن وقائع انقلابية أخرى في العالم، ومتعامين ربّما عن خبرات انقلابية تلاحقت على الساحة السياسية التركية ذاتها عبر عقود سبقت الواقعة المنتقاة؛ وهي تجارب انتهى كلّ منها إلى استبداد نخبة عسكرية بمقاليد الأمور بصفة ظاهرة أو مُستترة والإطاحة بالمُنتخَبين ديمقراطياً بالتنحية أو السجن أو بتعليقهم على أعواد المشانق. يشير هذا المثال إلى معضلة انتقاء نماذج المقارنة واجتزائها من سياقاتها وخبراتها المتراكمة أيضاً، بما يشي أحياناً بمسعى محبوك لفرض أحكامٍ مُسبقة على تجارب مخصوصة والتذاكي في خدمة تحيّزات ظاهرة أو مُستَترة، بما يجعل شواهد المقارنة المُستحضَرة ذريعةً لتسويغ تقديرٍ جاهز مُسبَقاً أو كنايةً عن اضطرابِ نظرٍ وسوءِ تقدير.

إخفاقات التجارب وعبورها

قد تُمنَى حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر بإخفاقات مؤكّدة، بصفة لا تقتضي عناءً في المراجعة أو عنَتاً في التقويم، ومن ذلك أن تنحرف عن وجهتها على نحو بَيِّن. فمن أسوأ المصائر التي قد تُفضي إليها هذه الحركات والمشروعات أن تنقلب على عقبيْها فترضخ لأدوار وظيفية مُناهِضة في طبيعتها للإصلاح أو متواطئة في حقيقتها مع الاحتلال والهيمنة الخارجية، وهي انزلاقات قد تأتي تدريجياً بصفة غير ملحوظة وتستحضر معها ذرائعها ومبرِّراتها أيضاً.

 

قد تنقلب بعض التشكيلات التي نهضت في أصلها لأهداف إصلاحية أو تحرّرية؛ على عقبيها أو تذوي في الواقع وتضمُر أو تتفكّك وتتشرذم، لكنّ الفكرة الإصلاحية أو التحرّرية تبقى في روحها وجوهرها وجذورها الضاربة في الأعماق مؤهّلةً للعبور إلى المستقبل مع تشكيل مخصوص أو بمعزل عنه؛ دون أن تنقشع وُعودُها. من ذلك ما يطرأ من استبدالٍ تاريخيّ في الأدوار، بحَمْل الراية من يد إلى يد ومن انتقال الأعباء من كتف إلى كتف أو بعبور المشروع من تشكيل إلى آخر، وهو ما يقتضي مراجعة التجارب بصفة لا تقتصر على النظر الموضعيّ في نطاقات تشكيلاتها المُؤطّرة وحسب.

تُرَغِّب هذه المقاربة أيضاً؛ بدراسة تجارب الإصلاح والتغيير والتحرّر بمنظور تاريخي لا يغفل عن التراكمات التي تعاقبت عليها والمخاضات والمنعطفات والكبوات التي تجاوزتها على تعدّدٍ في الهيئات والقوالب والعناوين والوجوه التي يُفترض أنها صنعت الحالة؛ حتى وإن تنكّر بعضها لبعض وجَحَد، أو انشقّ بعضها عن بعض وتمرَّد، وهذا أحرى باستخلاص الدروس واستلهام العِبَر وتَشَوُّف الآتي.

تعميق تساؤلات المراجعة

أظهرت تجارب الانتفاض والثورة في الواقع العربي بدءاً من خواتيم 2010 ارتباك حركات الإصلاح في محاولة “إدارة المرحلة” غير المسبوقة عربياً تقريباً، وكان هذا مدار مراجعات ناقدة لأدوارها بعد انكفاء ما عُرِف بـ”الربيع العربي” (وهي تسمية إشكالية أوحَت ابتداءً -من واقع بعض الإسقاطات السابقة للمصطلح- بأنها انتعاشة عابرة تسبق الإجهاض أو السّحْق). افترضت بعض المراجعات الناقدة أنّ حركات الإصلاح كان ينبغي أن تتصرّف على نحو مُغايِر من وجوه مخصوصة، لكنّ بعض النّقْد المَرجُوّ في أصله أوحَى بأنّ تغيير التصرّف كان كفيلاً بأن يرسو بالسفين المثقلة بالوعود على برّ الأمان رغم الأمواج المتلاطمة وعثرات التجريب الأوّل.

ثمّة تساؤلات جوهرية انزوَت عن بعض المراجعات الناقدة في هذا الصدد، منها مثلاً: هل تتأهّل الحركات الإصلاحية أو ما قد تُعَدّ تشكيلات مجتمعية إصلاحية “مهذّبة” أو “محافظة” بالأحرى؛ لأن تقود حالة شعبية ثورية متأجّجة بالغضب؟ هل بوسع منطق الإصلاحيين أنفسهم أن يحتمل الفعل الثوري أساساً بصفته الجسورة الرادعة غير منزوعة الأشواك والأنياب؟ هل يسع نخباً قيادية جلّها من الأكاديميين البارزين والأطباء والمهندسين والإداريين ومدرِّبي “التنمية البشرية” وشخصيات المجتمع أن يشكِّلوا القيادة الأمثل لثورة أو خوْض حراك جارف بمنطق ثوري صارم؟

لا يستدعي المطلبُ جواباً قطعياً بالنفي أو الإثبات، فالمراجعة تقتضي تقديراً متعدِّد الأوجه لقابلية الأطر والتشكيلات والأوساط لاحتمال أدوار قد لا تبدو منسجمة مع ما تشكّلت على أساسه أو لا تتناسب مع بنيتها وسمات قادتها ومنتسبيها. وثمة حاجة إلى صياغة مفهوم أوسع لعملية الإصلاح وخيارات التغيير؛ بما فيها القابلية للثورة والاقتدار على أدوارها واحتمال أثمانها والتهيُؤ لعواقبها.

ليس سهلاً على بعض التشكيلات المجتمعية التي تتبنّى رؤى إصلاحية أن تُعيد إنتاج حضورها من “خدمة المجتمع” إلى تثوير الجماهير وقيادتها. وقد يغيب عن النظر، أيضاً، أنّ بعض وجوه “خدمة المجتمع”، مثل الأعمال الخيرية، قد تساهم في تخفيف إحساس المجتمع بآلامه وأوجاعه وتسكين جاهزيّته للانتفاض على واقع جاثم على مستقبل أجياله. وقد ينتهي مشهد “الخدمة” ذاته إلى تعويض المجتمع آنيّاً عن قسط من قصور السياسات المُزمِنة وتقصير السلطة المترهِّلة، فيكون هذا الجهد بمثابة مسكِّنات مؤقّتة لمشاعر الغضب بما لا يخدم مشروع الإصلاح المفترض على المدى البعيد؛ وإن ارتفعت بشعبية حامليه في عيون مجتمعهم في مراحل معيّنة.

معضلة التكوين وآثارها

إنّ قصور التكوين لدى النخب القيادية في بعض الحركات الإصلاحية ومشروعات التحرّر يُفضي بطبيعته إلى اختلالاتٍ مشهودة في طرائق الحكم على تجاربها وكيفيات التدبّر والمراجعة بهدف الاستدراك والتجديد. فضعف الوعي بحركة التاريخ والتفاعلات الاجتماعية ممّا يُفضي إلى اضطرابٍ في النظر واختلال في التقدير وارتباك في الحُكْم. ولا أضرّ على بعض التشكيلات من استبدادِ المنطق الهندسيِّ، مثلاً، بمقامات النظر التاريخي والاجتماعي، بتأثير تخصّصاتٍ واهتمامات شائعة في أوساط النخب القيادية. فالمهندس النمطيّ يقوم بتنزيل مشروعه من الورق – أو الحاسوب – إلى الواقع بحذافيره، متكيِّفاً مع هذا الواقع الذي يتنزّل فيه المشروع بمعادلات محسوبة بدقّة لا تحتمل عنده سوى خيار الإنجاز بمنطق صارم، وقد يُقال بنزعة وثوقية من نجاح المآلات: إنّ “الفشل ليس خياراً!” (لهذا صلة بما رصدته دراسات اجتماعية من ارتفاع قابلية التطرّف بين دارسي الهندسة قياساً بغيرهم!).

لا يقدح هذا بأصحاب التخصّصات الهندسية أو التطبيقية عموماً، وغنيٌّ عن الإشارة ما نهض به مهندسون وفنِّيون من أدوار مشهودة في ريادة حركات إصلاح وقيادة مشروعات تحرّر عبر العالم، لكنّ المعضلة تتمثّل في إسقاط المنطق الهندسي ذاته أو ما يشبهه على حقل آخر بصفة غير واعية. ومثل ذلك يُقال مع تخصّصات طبِّية تزاحمت عليها نخب عربية انغمست في الباطنة وعمل القلب واشتغال الشرايين وتشريح الدماغ ونحوها؛ وانصرفت في الوقت عيْنه عن مطالب تشكيل الوعي وكسب القلوب والعقول وإنعاش شرايين المجتمعات عبر الإنسانيات والاجتماعيات والفنون والآداب.

أمّا أهل الإدارة فيأتي بعضهم بمقولات نُحِتَت في عالم الأعمال؛ وتبدو مُغريةً حقاً بالتنزيل في واقع حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر بشيء من التصرّف اليسير. يخلط بعضهم، مثلاً، بين القيادة الإدارية ونظيرتها المجتمعية أو الإصلاحية أو النضالية، باستلال مفهوم “ليدَرشيب” من أدبيات التكوين والإرشاد الإدارية الرائجة، دون أن يلحظوا أنّ السِّياقيْن لا يَستوِيان مثلا أو أن يُدرِكوا ما يستبطنه المفهوم من خلفيات فلسفية تواطأت عليها بيئة المنشأ الأمريكية مثلا. وإن اجتمع القوم للتخطيط في حركات إصلاح ومشروعات تحرّر نادى أحدهم بقوْل صارم لا يحتمل نقداً ولا تأويلاً؛ مفاده أنّ الهدف ينبغي أن يكون “ممكن التحقّق، وقابلاً للقياس” مثلاً، وقد ينهض هذا على خلط جسيم بين الهدف الإداري أو المقصد المرحلي على أقصى تقدير؛ والأهداف الكبرى بمنظور تفاعُل المجتمعات وحركة التاريخ ممّا قد ينعتق من قيْد مرحلته ويتمرّد على قوالبها ويسعى إلى إعادة إنتاج شروطها بفسْحة الحلم ووَثبة الإرادة ورشْفة التضحية.

يتفاقم المأزق مع نُخَب قيادية يُهَيْمن المنطقُ الهندسيّ والتطبيقي والإجرائيّ على تصوّراتها وطرائق تفكيرها؛ عندما تسعى إلى تعويض قصورها التكوينيّ في الإنسانيّات والاجتماعيّات باغترافٍ غير ناقد من أدبيات “التنمية البشرية” المزعومة ودوراتها المتكاثرة التي فعلت فعلها في الأجيال المتأخرة من حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر العربية، بما يتلبّسها من سَطْو جسيم على العلوم الاجتماعية وتسطيح فادح لوعي النخب ودفعها إلى عقد مقاربات ساذجة استُوحِي بعضها من عالَم “البزنس” وثقافته المستندة إلى الفردانية والصراع النفعي.

ولا ينفكّ بعض المحسوبين على الاختصاصات “الشرعية” أيضاً عن التواطؤ مع هذه الحالة باستسهال الاجتزاء المُخِلّ من آيات كريمة وأحاديث شريفة ونصوص مأثورة ووقائع تاريخية بصفة انتقائية متحيِّزة بصفة واعية أو غير واعية؛ لتعزيز آراء خاصّة وقوالب نمطية وأحكام مُسبَقة. وقد يتعسَف بعض المشتغلين بالعقيدة وأبواب المِلَل والنِّحَل و”الفَرْق بين الفِرَق”، في وصف الأوضاع فيجعلون لتناقضات الواقع ومعاركه وصراعاته تأويلات عقائدية صارمة من واقع اختصاصاتهم؛ تصلُح للتخندق المتقابل والافتراق الحدِّي بما لا يحصُل اجتماع من بعده أو رتق لنسيج الإقليم والمجتمعات والفئات المتصارعة. ومع هؤلاء وهؤلاء نفرٌ من هواة التاريخ الذين يلتقطون روايات منتقاة ويُضْفُون تأويلات خاصّة عليها لخدمة القراءة الثأرية للتاريخ واتخاذه موقداً لتأجيج صراعات الحاضر وبما يوغر صدور الأجيال المقبلة أيضاً بعضها على بعض.

على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تحذر من مسلك تضخيم الافتراق الإثني والديني والمذهبي والثقافي والفكري والمناطقي في ظلال استقطابات السياسة وصراعات الميدان، فهي بهذا قد تكسب جولة وتخاطر بالتاريخ المستقبلي الذي سينبسط على جغرافيا مشتركة يُفترض أن تتشابك فيها الأواصر المحمولة عبر القرون. فحمّى الاستقطاب المتأجِّجة تفرض، بطبيعتها، تخندقاً يتطلّب فرزاً وتحديد خطوط القطيعة وتبريرها وتأصيلها معنوياً ودينياً وتاريخياً وفكرياً، وسيجد كلُّ فريق ما يتذرّع به من مقولات المنزلقين إلى الخندق المقابل أو سلوكهم، وسيُعاد نسج الروايات وتوجيه الدِّين وتأويل التاريخ وافتعال الفكر رضوخاً لإغراء النبْذ والقطيعة والشيْطنة والمواجهة، وحشداً لجمهرة القوم في الخندق وتعبئة لهم في مواجهة الخصوم، مع التدهور في حمأة التأجيج إلى تراجعات قيمية وأخلاقية وانهيارات مبدئية ومعنوية تقضم من رصيد مساعي الإصلاح والتحرّر.

 

وللمنصرفين إلى شواغل الفكر كبواتهم المنهجية أيضاً، عندما يميل بعضهم إلى الحكم على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر بصفة منفصمة عن طبيعتها ومنزوعة من سياقها، فتُحاكَم أدبيّاتها وشعاراتها ومحفوظاتها كأنها مجرّد أروقة فكرية منغلقة على صفوة معزولة أو نخبة “الانتلجنسيا” في مجتمعاتها وأمّتها. لا يقدح هذا المأخذ بالمراجعة الفكرية الواجبة عموماً لهذه الحركات والمشروعات وفحص أدبيّاتها ونقد شعاراتها وتعَقُّب مقولاتها؛ وإنّما ينبغي لذلك أن يجري مع ملاحظة طبيعتها ومعاينة خصوصيّة تكوينها وإدراك سياقها التاريخي والمجتمعي؛ ومقارنتها بنظيرتها من التشكيلات والتجارب في الواقع الإنساني بسياقاته المتعدِّدة في ماضي الأمم وحاضرها.

تشخيص الحملة على الشعوب

لا ينبغي لمراجعة تجارب حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تنفكّ عن تشخيص الحملة الضارية التي تتذرّع باستهدافها ومطاردتها. فهذه الحملة المشهودة في الواقع العربي إنما هي في حقيقتها الأعمق استهدافٌ للمجتمعات ومحاولة لخنق روح الأمّة وكبت إرادتها قروناَ لاحقة، وإن اتّخذت لها عناوين ظاهرية تستهدف تشكيلات معيّنة أو أطيافاً من قبيل ما يُلحَق بما يسمّى “الإسلام السياسي” (وهو تعبير إشكاليّ للغاية) أو غير ذلك من العناوين المحدّدة. آية ذلك أنّ هذه الهجمة التي تتذرّع بهذه العناوين تأتي مشفوعةً بكبْت للحريّات العامّة وتتلازم مع مطاردة الأنفاس الطليقة في المجتمعات بما يتجاوز تصنيفات محدّدة إلى أطياف أوسع نطاقاً.

تُعبِّر هذه الهجمة المركّبة عن موجة مرتدّة تمارسها أنظمة ذات سطوة، تحت رعاية قوى الهيمنة الخارجية التي تتذاكى هذه المرّة بإفساح المجال -بشكل أو بآخر- لأدوار إقليمية لإنجاز المهمة على أتمّ وجه، في مواجهة الشعوب والمجتمعات والأجيال والأوساط التي عبّرت عن نبض الحياة في عروقها في سنوات خلت، مع ترهيب جماهير عربية أخرى راقبت المشهد وشكّلت وعياً مستجدّاً مع هذه الخبرات المتلاحقة. لا تقتصر الهجمة على استهداف تشكيلات مجتمعية مستقلّة عن أنظمة القهر والاستبداد والتبعية، فالحملة تطارد العلماء وأهل الرأي والفكر ومشاهير المدوِّنين والناشطين من الرجال والنساء في مواقع التواصل الاجتماعي وتخييرهم بين سوء المصير أو إعلان البراءة من الالتزام بالمبادئ والاستعداد للانزلاق إلى إعادة تأويل القيم والمبادئ والهوية والفكر والدين والتاريخ في خدمة مصالح الاستبداد.

ولا يقتصر فعل المطاردة التعسّفي على حاضر الأمّة وشعوبها ومجتمعاتها؛ فالمنابر والمنصّات تتداعى لنبْش الذاكرة التاريخية للأمّة وتقويض رمزيّاتها المُلهِمة بمعاني الإصلاح والتحرّر وكرامة الإنسان. لا يسمح أرباب المرحلة بأن يبقى عنترة بفروسيّته النبيلة وعزّة نفسه حاضراً في وعي الأجيال، ولا يُجيزون لصلاح الدين أن يظلّ في مركز الإلهام بالاستفاقة والتحرير، ولا يتساهلون مع استحضار العزّ بن عبد السّلام في جرأته على مواجهة السلطة أو ابن تيمية في شجاعته إزاء الغزاة، ولا أن تبقى في الوعي الجمعي قاماتٌ وهاماتٌ تَواصَل ذكرُ مناقبها عبر القرون وتشكّلت من حولها سرديّاتُ الاستفاقة الجمعية والتحرّر من الاستعمار ومقاومة الاحتلال. إنهم يُعيدون كتابة التاريخ وصياغة المفاهيم بما يوافق سردية القصور المذهّبة التي تخشى شعوبَها والثكنات المجهّزة لحروب الداخل وجولات الاستنفار ضدّ الجوار الشقيق. على حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر أن تُدرِك أنّ الحملات التي تستهدفها هي في مداها أوسع نطاقاً منها، وأنها تستهدف في جوهرها الانقضاض على المجتمعات والشعوب والأمّة ومصادرة الحاضر والمستقبل، وهي محاولة لضرب قيم ومبادئ والتزامات وخنق الروح وتزييف الوعي بالأحرى؛ بقوّة “حرب أفكار” ضارية تبتغي التجريف المعنوي الواسع، الذي يجري من تحت الأقدام ودون إدراك لأبعاد الحالة المتفاقمة أحياناً.

في هذا التوصيف ما يفرض على روّاد الإصلاح والتحرّر أن لا ينغلقوا على تشكيلاتهم دون أمّتهم وشعوبهم ومجتمعاتهم وجماهيرهم، التي هي جميعاً واقعة في طوْر الاستهداف في وَعيِها وكرامتها ومستقبلها وسيادتها وقوت أجيالها. يتكاثر المتساقطون تحت وطأة الحملة الجارفة؛ لكنها إشارة يقظة إلى انبعاث جديد يتطلّبه الواقع من محاولات الإصلاح والنهضة والتحرّر بما يتجاوز لحظة الشكّ في الذات وجَلْدها إلى استنهاضها في زمن جديد له خياراته وأدواته ومخزونات قوّته التي لم تُجرّب بعد كما ينبغي. حَرِيّ بسؤال “النجاح أو الإخفاق”، أن يتجاوز سذاجته الأولى التي تفترض نهاية تاريخ، لينفتح على حاضره ومستقبله في مخاض تاريخيّ عسير يتطلّب إنعاش الرؤى وتجديد المشروعات وخوْض استحقاق الريادة؛ دون التفريط بالالتحام بالأمّة بشعوبها وجماهيرها، ومع الحذر من مواصلة الانعزال عن عالم فسيح تتشابك فيه المصائر بين أمم مغبونة وشعوب مقهورة كما لم يحدث من قبل. ثمة إضاءات واجبة على أسئلة المراجعة والتجديد والتطوير الملحّة في واقع حركات الإصلاح ومشروعات التحرّر، ينشغل ببعض منها المقال التالي في تقلّبه بين تضاريس الواقع وأشواك المرحلة.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى