كتابات مختارة

هروب العلماء عن تولي القضاء

بقلم منصور بن محمد فهد الشريده

كان القاضي في عصور الخلافة الإسلامية ذا مكانة مرموقة وحساسية في آن واحد .

وذلك لأهمية الدور الذي يلعبه في تسوية المنازعات والخلافات وغير ذلك مما يتعلق ( بتنظيم أمور المسلمين وأوضاعهم الاجتماعية ) . ومنصب القاضي كان ذا حصانة جعلته يتمتع بقدر من الاستقلال عن السلطة السياسية . فالحاكم ، الذي يعين القاضي ، كان يحرص على حسن اختياره له ، ثم لا يجد بداً من إطلاق يده في أمور الفتاوى الشرعية وفي جميع ما يتصل بعلوم القضاء والفقه ، وما شابه ذلك.

إن هذا جعل للقاضي سلطة موازية للسلطة السياسية ، حتى قيل : لا شرف في الدنيا بعد الخلافة أشرف من القضاء.

ونسب إلى النبي ﷺ قوله: (مامن أحد أقرب مجلساً من الله يوم القيامة ، بعد ملك مصطفى ، ونبي مرسل ، من إمام عدل).

أما الخصال التي ينبغي توفرها في القاضي فكثيرة ، وأولها العلم والورع .

وقد نقل عن مالك بن أنس قوله ” إن الخصال التي لا يصلح القضاء إلا القضاء بها لا أراها تجتمع اليوم في واحد “. ولذلك كان الفقهاء من أهل التقوى والعلم كثيراً ما يستنكفون عن تولي مهمة القضاء ، لما يشعرون به من الخشية في ألا يحسنوا تدابير شؤونه بما يتناسب مع مقتضيات الشريعة وموجباتها ، وكي يتجنبوا تالياً خطر الوقوع في الخطأ ، حيث الخطأ عظيم إذا ما صدر عن هذا الموقع الحساس .

لقد فر الكثيرون من الفضلاء الورعين من القضاء عندما دعوا إلى توليه ، ومنهم الإمام أبو حنيفة ( النعمان بن ثابت ) ، دعاه عمر بن هبيرة لتولي القضاء ، فأبى . فحبسه وضربه أياماً ، كل يوم عشرة أسواط ، وهو متماد في إبائه ، إلى أن تركه.

وكان عبدالله بن فروخ الفارسي ، فقيه القيروان في وقته ، لا يرغب في القضاء ، وكان يقول : ” قلت لأبي حنيفة : ما منعك أن تلي القضاء ؟ فقال لي : يا فروخ ، القضاة ثلاثة : رجل يحسن العوم ، فأخذ البحر طولاً ، فما عساه أن يعوم ، يوشك أن يكل فيغرق . ورجل لا بأس بعومه ، عام يسيراً فغرق . ورجل لا يحسن العوم ، ألقى بنفسه في الماء ، فغرق من ساعته “.

ومن غريب ما يروى أن رجلاً من أهل سرقسطة في الأندلس ، هو قاسم بن ثابت بن عبدالعزيز الفهري ، دعي للقضاء ببلده ، فامتنع عن ذلك. ولما اضطره الأمير وعزم عليه ، استمهله ثلاثة أيام ، فيستخير فيها الله ، فمات خلال تلك المدة. فكأن الناس يرون أنه دعا الله تعالى أن يكفيه أمر القضاء ، فكفاه وستره. وصار حديثه موعظة في زمانه.

هكذا كان الفقهاء والعلماء من أهل التقوى يتخوفون من تولى القضاء. وكانوا – إذا ما تولوه – يحترزون إلى أبعد حدود الاحتراز ، فيما يتعلق بسلوكهم وتصرفاتهم ، حتى أن الكثير منهم كانوا يتخلون عما كان لهم قبل القضاء من حرية التمتع بمباهج الحياة ، يتخلون عنه ليذهبوا مذهب التقشف في العيش. كأنما القاضي أراد بذلك أن يقدم مثالاً للاستقامة في السلوك والتقوى والعلم.

وقد عزف كثير من الأئمة عن تولي القضاء ، بل وقبَل بعضهم بالضرب والسجن على توليه ، وهرب بعضهم من بلده من أجل أن لا يتولى القضاء ، ويمكن إجمال أسباب عزوف أولئك الأئمة عن القضاء بالأسباب التالية :

1- أنه يرى نفسه ليس أهلاً للقضاء ، فالمعروف عن القضاء أنه يحتاج لسعة بال ، وذكاء ، وفطنة ، وقد يرى الإمام العازف عن القضاء نفسه غير محقق لتلك الشروط .

قال الشيخ علاء الدين الطرابلسي – رحمه الله – :

قال بعض الأئمة : وشعار المتقين ” البعد عن هذا والهرب منه ” ، وقد ركب جماعة ممن يقتدى بهم من الأئمة المشاق في التباعد عن هذا وصبروا على الأذى .

وانظر إلى قضية أبي حنيفة – رحمه الله تعالى – في الامتناع منه وصبره على الإيذاء حتى تخلص ، وكذا غيره من الأئمة .

وقد هرب أبو قِلابة إلى مصر لما طلب للقضاء فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب فيه ، وقال له : لو ثبتَّ لنلتَ أجراً عظيماً ، فقال له أبو قلابة : الغريق في البحر إلى متى يسبح ؟ ! .

وكلام أبي قلابة هذا ومن تقدمه وما أشبه ذلك من التهديد والتخويف : إنما هو في حق من علم في نفسه الضعف ، وعدم الاستقلال بما يجب عليه ، وكذلك من يرى نفسه أهلا للقضاء والناس لا يرونه أهلا لذلك .

وقد قال بعض العلماء : لا خير فيمن يرى نفسه أهلا لشيء لا يراه الناس أهلا لذلك .

والمراد بالناس : العلماء ، فهرُبُ مَن كان بهذه الصفة عن القضاء واجب ، وطلبه سلامة نفسه أمر لازم .

” معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام ” ( ص 9 ) .

2- أنه يرى أنه غير واجب عليه ، ولا مستحب ، بل إن قولاً للإمام أحمد يحتمل أن يكون معناه : أنه لا يجب عليه حتى لو تعيَّن الأمر عليه ، ولم يوجد غيره .

3- أن فيه خطراً في الحكم بخلاف الحق ، فيخشى العالِم على نفسه من تولي القضاء من أجل ذلك .

قال ابن قدامة – رحمه الله – :

“وفيه – أي : القضاء – خطر عظيم ، ووزر كبير ، لمن لم يؤدِّ الحق فيه ، ولذلك كان السلف رحمة اللّه عليهم يمتنعون منه أشد الامتناع ، ويخشون على أنفسهم خطره” .

” المغني ” ( 11 / 376 ) .

وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 33 / 289 ، 290 ) :

“كان كثير من السلف الصالح يحجم عن تولّي القضاء ويمتنع عنه أشد الامتناع حتى لو أوذي في نفسه ؛ وذلك خشيةً من عظيم خطره ، كما تدلّ عليه الأحاديث الكثيرة والتي ورد فيها الوعيد والتخويف لمن تولى القضاء ولم يؤدّ الحق فيه ، كحديث : ( إن الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان ) ـ [ رواه الترمذي وابن ماجه ، وحسنه الألباني ] ـ ، وحديث : ( من ولي القضاء أو جعل قاضياً فقد ذبح بغير سكّين ) – [ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، وصححه الألباني ] – ، وحديث : ( القضاة ثلاثة : قاضيان في النار ، وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير الحقّ فعلم ذاك فذاك في النار ، وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار ، وقاض قضى بالحقّ فذلك في الجنة ) – [ أخرجه الترمذي ( 3 / 604 ) والحاكم ( 904 ) من حديث بريدة ، واللفظ للترمذي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ] – . انتهى

4- عدم القدرة على تحمل بلاء القضاء .

قال الشيخ أبو الحسن النباهي – رحمه الله – :

“ولما تقرر من بلاء القضاء : فرَّ عنه كثير من الفضلاء ، وتغيبوا ، حتى تركوا ، وسُجن بسببه عند الامتناع آخرون ” .

” تاريخ قضاة الأندلس ” ( ص 7 ) .

5- انشغالهم بما هو أهم ، كانشغالهم بالرحلة في طلب العلم ، وتعليم الناس .

وأخيراً : إذا كان الأئمة الأربعة – كما يروى عنهم – قد امتنعوا عن القضاء : فإن الأنبياء الكرام عليهم السلام والخلفاء الراشدين الأربعة قد تولوه ، وباب الورع واسع لمن أراد التورع عنه .

ففي ” الموسوعة الفقهية ” ( 33 / 290 ) :

“فقد تقلده – أي : القضاء – بعد المصطفى صلوات الله عليه وسلامه الخلفاء الراشدون ، سادات الإسلام وقضوا بين الناس بالحقّ ، ودخولهم فيه دليل على علوّ قدره ، ووفور أجره ، فإن من بعدهم تبع لهم ، وَوَلِيَهُ بعدهم أئمة المسلمين من أكابر التابعين وتابعيهم ، ومن كره الدّخول فيه من العلماء مع فضلهم وصلاحيتهم وورعهم ، محمول كرههم على مبالغة في حفظ النفس ، وسلوك لطريق السلامة ، ولعلهم رأوا من أنفسهم فتوراً أو خافوا من الاشتغال به الإقلالَ من تحصيل العلوم” .

الموقع: صيد الفوائد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى