كتاباتكتابات مختارة

من الذي يُمَثِّل ثوراتنا؟

من الذي يُمَثِّل ثوراتنا؟

بقلم أ. محمد إلهامي

سرعان ما أفرزت الآلة الإعلامية صورة الفتاة السودانية التي تقف في الجمع تغني للثورة لتفرضها كرمز للثورة السودانية، بالأمس قرأنا في الأخبار أنها تزوجت من ضابط بالجيش السوداني، وهو ما دعا بعض الظرفاء للقول: قد الجيش سرق الثورة!!

لماذا كانت صورة الفتاة التي تغني من بين سائر الصور، وسائر التضحيات والدماء، هي التي تختارها الآلة الإعلامية لتكون رمزاً للثورة؟! لماذا تكون عهد التميمي من بين سائر الفتيات في فلسطين الرمز المعبر عن المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني؟! ولماذا تكون توكل كرمان من بين سائر النساء في اليمن هي الرمز الذي يُرَوَّج له للثورة اليمنية وتمنح جائزة نوبل في لحظة دقيقة تساوي فيها الجائزة دفعة ترميز هائلة؟!

المسألة قديمة.. فقبل مئة عام من هذه اللحظة اختُزلت ثورة الشعب المصري 1919 في مظاهرات النساء، ثم اختُزلت مظاهرات النساء في هدى شعراوي، حتى إن المؤرخ البريطاني المعاصر يوجين روجان حين تحدث عن ثورة 1919 في كتابه “العرب من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر”، عبر على كل ثورة 1919 في سطور معدودة لا قيمة لها، وجعل التركيز كله على سيرة هدى شعراوي وقصة “تحرير المرأة”!

السبب قالته ببساطة وتلقائية والدة عهد التميمي نفسها في مقطع فيديو شهير: “كل أولاد النبي صالح هما موجودين وبيواجهوا الاحتلال، يمكن عهد حظيت بكاميرا في لحظات، وبصراحة بصراحة بصراحة: عهد يمكن شكلها شوي هو اللي خلى العالم تتضامن معها، وهذا على فكرة شيء عنصري، لأنه كذا طفل فلسطيني في نفس منظر عهد لم يُتَعامل معه هكذا. حتى في صحفية في هآرتس مرة كتبت: ليش إحنا تضامنّا مع عهد التميمي، لما مرة كان بدهم يعتقلوني، اعتقلوني كانت تبكي، ليش إحنا تضامنا معها، لإنه حسينا إنه هي بتشبهنا، فيمكن تضامن العالم معها أكثر لأنه هي بتشبه شبه أولادهم، ولكن كل أطفال فلسطين هما عهد التميمي”.

في لحظة خروج عهد التميمي من باب السجن كانت تخرج معها أسيرة أخرى لم يسمع بها أحد، تلك هي ياسمين أبو سرور.. لم تكن تشبههم.

إن موازين القوى السائدة في بلادنا تفرض– من بين ما تفرض علينا- رموزاً لتفسير وتوصيف وتوظيف حركة الشعوب، وقد رأيت بنفسي في الثورة المصرية كيف أن الذين يبذلون دماءهم في الشوارع لا يستطيعون التعبير عما في أنفسهم، إنما يحتكر التعبير عنهم من امتلك مقعداً في الفضائيات، أو فتحت له السفارات والمؤتمرات الدولية أبوابها واختارتهم من بين حشود الشباب في الشوارع، وبطبيعة الحال: قد اختاروا من كان يشبههم!

في دراسة جويل بينين وزخاري لوكمان عن الحراك العمالي في ثورة 1919، ضمن كتاب “الشرق الأوسط الحديث” بإشراف المؤرخ الشهير ألبرت حوراني، تصريح بأن عصب الثورة كان في الأزهر حيث الشعب، وفي المنازل الفخمة لأعضاء الوفد، الأولون يحركون الشارع والآخرون يحتكرون تمثيله، وبينما الأولون يمثلون الهوية الإسلامية كان الآخرون يُوَظِّفون ويُوَصِّفون ويُفَسِّرون حركتهم ضمن هوية أخرى وطنية ليبرالية تعبر عنهم؛ إذ هم “البورجوازيون والزعماء الوطنيون الذين يحتذون مثال الأوروبيين”!

ولا تزال النخبة التي تحكم بلادنا حتى هذه اللحظة أقرب في أفكارها وقناعاتها ودراستها وتعليمها وملابسها وعاداتها إلى الأوروبيين منها إلى عموم الشعب، ولا تزال تمسك بمفاصل الإعلام والأموال، وتحتكر توصيف وتفسير حراك الشارع. بل إنه يقع منهم نفس الاشمئزاز والرفض والتأفف من حركة الجماهير العفوية التلقائية الثورية، يريدون ثورة نظيفة راقية أنيقة ملساء ناعمة، وهذه كبيضة الديك أو كالزئبق الأحمر، لم توجد من قبل، ويحسبون أن الخروج عن هذه الحدود إنما هو تعطيل لمسار الثورة، وتشويه لها، وإحراج لهم أمام الرأي العام العالمي.

ومن اللافت للنظر أن أكثر من ناقش مسألة ثورة 1919 من الباحثين الغربيين المهتمين بالتاريخ المصري أو بمعضلة الحداثة كان تفسيرهم لحراك الشعب أقوى وأنصف من توصيف النخبة المصرية في ذلك الوقت، يتحدث أولئك عن عنفوان الثورة وعبقريتها في قطع الطرق وأسلاك البرق والهاتف والسكة الحديد؛ لتعطيل وصول الجنود الإنجليز إليهم، أو استنزافاً لممتلكات الإنجليز التي يمتصون بها أموال الناس، في حين يتحدث هؤلاء عن أن القائمين بهذا هم الزعانف والرعاع “والغوغاء وأبناء الدروب وأحلاس الأزقة وحثالة الناس”. لم يكن عند الأولين العقدة النفسية والانهزام الحضاري الذي كان يسكن أبناء النخبة.

كان الاحتلال الإنجليزي منذ البداية قد قرر من أين تؤكل الكتف، أو بالأحرى: من أين تُحْكَم البلد، فمن قبل نزول الاحتلال الإنجليزي قرر أوكلاند كلفن أن يتصدى للثورة المصرية التي مثلها عرابي بهذه الطريقة: “لا أعتقد مطلقاً أن مهمتي تتمثل في معارضة الحركة الشعبية، وإنما تتمثل في توجيه هذه الحركة وإعطائها شكلاً محدداً”، وحين لم ينجح في هذا المسعى، وكانت نخبة ثورة عرابي أصيلة نابعة من الشعب لا من طبقة الحكم الملتصقة بالنفوذ الأجنبي، جاء الاحتلال بنفسه، لكن أول تقرير للحالة في القاهرة بعد الاحتلال حمل هذه العبارة للورد دوفرين: “لا يمكن المحافظة على النظام في القطر المصري إلا بتأديب أهله بواسطة أستاذ من الأجانب وبالسوط الوطني”، وبعد أكثر من ربع قرن كان اللورد كرومر– الذي تولى تنفيذ المهمة- يخرج من مصر تحت ضغط ثوري نفذه الحزب الوطني، لكنه قبل أن يخرج أقام له ستة من هذه “النخبة الجديدة” حفل توديع، فكان مما قال فيه: “إن المصريين عموماً ناكرو جميل ما عدا البعض مثل مصطفى فهمي، بطرس غالي، سعد زغلول”!! والأخير صِهْر الأول، والأول من أعمدة الحكم “الوطني” التابع للإنجليز، والأخير هو الذي تصدر قيادة ثورة 1919 بعد تصفية قيادة الحزب الوطني بالنفي والاعتقال.

ومن يطالع مذكرات كرومر سيجد كلاماً كثيراً مفيداً في مسألة النخبة التي تكونت في ظل الاحتلال ومَثَّلَت الأقلية التي تحكمت في البلاد والعباد، وجوهها محلية وقلوبها ومصالحها أجنبية، أو بعبارة كرومر نفسه: “النتيجة الطبيعية تمثلت في إنتاج طبقة من الأفراد، الكثيرون منهم عبارة عن مسلمين بعيدين عن الإسلام، وإن شئت فقل: أوروبيون تعوزهم القوة أو الحيوية”.

وكان سعد زغلول، كما وصفه الشيخ محمد رشيد رضا، قد “اشْتُهِر بالتساهل الديني بما لم يشتهر به غيره من الوزراء، وكان هو الوزير الذي أدخل تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة في عهد وزارته للمعارف، فجاء بعمل لا نظير له في حكومة من حكومات أوروبا نفسها، دع غيرها، والقبط يعرفون ظاهره وباطنه، ويعتقدون أنه إذا تم الاستقلال لمصر على يده وكان صاحب النفوذ اللائق به في حكومتها المستقلة فإن حظهم منها سينيلهم ما لم ينالوا في عهد الاحتلال”.. فهل كان هذا هو القائد الطبيعي لثورة المصريين؟!

وفي دراسته “الاتجاه الإسلامي في الثورة المصرية سنة 1919م” أورد المؤرخ زكريا سليمان بيومي خمسة أسباب أدت إلى صبغ الثورة بالصبغة العلمانية الليبرالية الوطنية (المضادة لمعنى الأمة والهوية الإسلامية) هي: الصحافة العلمانية التي احتكرت التوصيف والتعبير عن الثورة، وهزيمة دولة الخلافة وانحسار فكرة الجامعة الإسلامية، وتراجع المؤسسات التقليدية في مصر، وفي مقدمتها الأزهر، وغياب القيادات الأصيلة من رجال الحزب الوطني، ودعم الاحتلال للتمثيل العلماني والقيادة المتمثلة بسعد زغلول لهذه الثورة.

السؤال هنا: كم سبباً من هذه الخمسة لا يزال قائماً في حاضرنا الآن؟!

إجابة هذا السؤال هي بداية طريق معرفة مصائر ثوراتنا المسروقة، التي وصفها أحد نخبة 1919 بقوله: كانت ثورة ضد الإنجليز يقودها بعض المتنورين، وثورة ضد الثروة يقودها الأشرار الفقراء!!

(المصدر: الخليج أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى