كتاباتكتابات مختارة

منهج النقد الإسلامي للعهد القديم

منهج النقد الإسلامي للعهد القديم

بقلم د. أحمد الجندي

يمكن القول إن اليهود خلال العصر الوسيط تأثروا بعلماء المسلمين في نقدهم للعهد القديم، حتى إن العالم اليهودي أبراهام بن عزرا (الذي امتد نشاطه خلال القرن الـ12 الميلادي) – الذي اعتبرت إشاراته النقدية بداية لنقد منهجي، كما أنه أثر في علماء نقد العهد القديم فيما بعد – هو نفسه كان متأثرا بابن حزم الظاهري (ت.1064م) الذي كان أول من قدم منهجا نقديا علميا في نقد العهد القديم.

وقد أدى الجدال الديني بين أصحاب الديانات السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام) إلى نشاط علماء المسلمين في مجال نقد الكتاب المقدس؛ إذ كان عليهم كشف نقاط الضعف الموجودة في الكتاب المقدس، سواء كانت نقاط ضعف عقائدية، أو تاريخية، أو منطقية.

هذا النقد الإسلامي قابلته محاولات يهودية لنقد الإسلام، وكان من بين هذه المحاولات “مقال إسماعيل” الذي كتبه سلومون بن أدريت (القرن الـ13 الميلادي في برشلونة)، وكذلك “القوس والدرع” الذي كتبه شمعون بن تسيماح دوران (القرن الـ15 الميلادي في القيروان)، لكن السمة الرئيسة لهذه المحاولات أنها كانت محدودة للغاية، كما أنها كتبت بلغة عربية، ولكن باستخدام الحروف العبرية (الكتابة العربية اليهودية).

وقد حاول بعض الغربيين تعليل ندرة الأعمال النقدية اليهودية ضد الإسلام بجملة أسباب غير صحيحة؛ منها على سبيل المثال: القول بأن اليهود الذين كانوا يعيشون في البلاد الإسلامية كانوا يخشون التعرض للاضطهاد من قبل المسلمين، وهذا أمر يتنافى مع المعطيات التاريخية، والتي تبرهن بالدليل القاطع كيف أن اليهود تفاعلوا مع الحضارة الإسلامية في كافة مجالاتها، وكيف أنهم كانوا يفرون من الاضطهاد المسيحي لهم في أوروبا للعيش في البلاد الإسلامية بين المسلمين؛ حيث سمح لهم بممارسة كافة الأعمال؛ بما في ذلك تولي بعض المناصب السياسية الكبرى كالوزارات وغيرها، في الوقت الذي كانوا يمنعون فيه من ممارسة أعمال تجارية عادية في أوروبا، حتى وصل الأمر إلى إصدار قرارات تحظر على “اليهود والعاهرات” أن يلمسوا الخبز والفاكهة في الأسواق.

اتجاهات النقد الإسلامي للعهد القديم

تطورت اتجاهات النقد الإسلامي للعهد القديم، فسار هذا النقد في أربع نقاط رئيسية هي: التحريف والتبديل، والنسخ، وفقدان التواتر، وتفسير النصوص التوراتية، ويمكن شرح هذه الاتجاهات الأربع وتبسيطها على النحو التالي:

1 – التحريف والتبديل:

كانت الآيات القرآنية هي الباعث الأكبر الذي دعا علماء المسلمين إلى التركيز على مسألة تحريف الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد؛ فقد وقف هؤلاء العلماء أمام الآيات القرآنية التي تشير إلى هذا التحريف، وهناك أمثلة بارزة على ذلك لدى مفسري القرآن الكريم: مثل تفسير الطبري للآية الكريمة: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] فقد اعتمد الطبري على روايات تثبت هذا التحريف، وتتحدث عن سببه؛ فقال إنهم عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد (ص) فحرفوه عن مواضعه، يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا.

وفي رواية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن الآية نزلت في اليهود؛ لأنهم حرفوا التوراة، وزادوا فيها ما يحبون، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد (ص) من التوراة؛ فلذلك غضب الله عليهم؛ فرفع بعض التوراة.

وتؤكد آيات قرآنية أخرى أن اليهود أخفوا كثيرا من الكتاب الذي أوحي به إلى موسى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].

كذلك تتبع علماء المسلمين الأحاديث النبوية التي تشير إلى شكل من أشكال التحريف والإخفاء التي مارسها اليهود؛ وفي ذلك تروى القصة المشهورة: عندما جاء اليهود إلى الرسول (ص) يحكمونه في جريمة زنا ارتكبت، فأخبرهم بأن الحكم هو الرجم، وأن هذا الحكم موجود في التوراة بالفعل، ولما أحضروا التوراة وضع أحدهم -عامدا- يده على موضع فيها، فجعلوه يرفع يده فظهرت آية الرجم.

ويعد ابن حزم أول كاتب إسلامي يستخدم اتجاها نقديا علميا منظما في دراسة التوراة؛ لكي يبرهن على هذه النظرة القرآنية التي تؤكد تحريف التوراة، وينظر الباحثون الغربيون إلى ابن حزم على أنه أول الكتاب المسلمين الذين استخدموا منهجا نقديا علميا، كما أنه في الوقت نفسه أول من كان لديه معرفة حقيقية بالنص التوراتي، خاصة أسفار التوراة الخمسة (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية).

وقد أفرد ابن حزم جزءا كبيرا من موسوعته “الفصل في الملل والأهواء والنحل” للحديث عن نقد التوراة، وركز فيه على ثلاثة أمور؛ ليثبت من خلالها التحريف الذي لحق بها وهي:

أ – عدم الدقة التاريخية والجغرافية

فقد ناقش ابن حزم تفاصيل توراتية عديدة ذات صبغة تاريخية أو جغرافية، وأكد على عدم صحة هذه التفاصيل؛ فعدد السنوات التي تعطى لبعض الشخصيات غير دقيق، ولا يتناسب مع التسلسل التاريخي لأحداث توراتية أخرى، ففي قصة الطوفان نجد الحساب الزمني ينحرف حوالي عشرة أشهر عما هو مذكور في سفر التكوين، وهذا الانحراف الزمني حدث لأن يد التحريف تناولته؛ لأن “الله لا يخطئ ولا في دقيقة واحدة”، كما يقول ابن حزم، وقد تكرر هذا الأمر كثيرا في تسلسل الأحداث التاريخية في التوراة، كما لاحظ ابن حزم تناقضات تاريخية بين سفري الخروج والعدد.

ب – استحالات لاهوتية

والمقصود هنا نسبة أمور غير لائقة إلى الله سبحانه وتعالى، خاصة التشبيه، أو أي صفات أخرى لا تليق نسبتها إلى الله، ومن بين ما أشار إليه ابن حزم من أمثلة: إشارته إلى قول الإله عند خلق آدم “وقال الرب الإله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا” (سفر التكوين1: 26)، أو “وقال الرب الإله ها هو الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر” (سفر التكوين3: 22).

وقد عبر ابن حزم عن فزعه من هذه الأكاذيب اليهودية، واعتبر ذلك كما لو كان إشارة لوجود آلهة أخرى مع الله، أو أن الإنسان أصبح واحدا من هذه الآلهة، ثم يحمد ابن حزم الله على حفظ المسلمين من هذا الإثم.

كذلك رفض المسلمون الفكرة الواردة في سفر التكوين عن استراحة الرب في اليوم السابع بعد أن أتم عملية الخلق في ستة أيام، وهذا الموقف تأثر به بعض علماء اليهود، فوجدنا سعديا الفيومي[i] يترجم الفقرة التي تتحدث عن استراحة الرب في اليوم السابع إلى “وفي اليوم السابع ترك الله الأرض بلا زرع حتى تستريح”، وهي ترجمة مخالفة لما تعارف عليه اليهود طوال العصور، كما أنها لا تتفق مع النص العبري الذي ترجمته “وفي اليوم السابع أنهى الرب عمله الذي صنع، واستراح في اليوم السابع من كل عمله الذي صنع”.

وقد ركز علماء المسلمين على رفض صفات التجسيد التي وردت في العهد القديم، والتي تكررت مرارا، حتى قرر أحمد بن إدريس الصنهاجي (ت 1258م) أنه بسبب ما ورد في سفر التكوين اعتقد كثير من اليهود في إله “يشبه شيخا أبيض اللحية والرأس”.

وقد سار كثير من علماء اليهود في العصور الوسطى على نهج علماء الكلام من المسلمين؛ فوجدنا منهم من يتحدث عن تنزيه الإله عن التجسيد، أو التشبيه، وأنه واحد لا مثيل له، ويخلعون عليه كل صفات التنزيه…إلخ.

ج – سلوكيات غير مقبولة

فقد اعتبر ابن حزم أن القصص المتكررة عن الزنا في سفر التكوين، والمنسوبة إلى أجداد وأنبياء بني إسرائيل دليلا قاطعا على تحريف الكتاب المقدس، فقد ألقت هذه القصص بظلالها على السلوك الأخلاقي للأنبياء والأجداد، وقد أحصى ابن حزم هذه القصص وتتبعها؛ فذكر قصة لوط وزنا ابنتيه به، وقصة زواج إبراهيم من أخته غير الشقيقة (سارة) (تكوين12: 12- 13)، وكيف اضطجع يعقوب مع ليئة التي تزوجها خطأ بدلا من أختها (تكوين15: 29)، وكيف اضطجع رأوبين (أحد أبناء يعقوب عليه السلام) مع “بلهة” زوجة أبيه، وكيف تخلص داوود من أحد أتباعه ليتزوج امرأته، وكيف استمالت زوجات سليمان زوجهن لعبادة آلهتهن…إلخ.

لقد كان واضحا أن ابن حزم في هجومه على التوراة يدحض مفاهيم مسيحية كذلك؛ وقد عبر عن دهشته من قبول المسيحيين للعهد القديم، رغم “فساد نصه”؛ لكنه كان يربط ذلك بقبولهم لقصص الأناجيل المتناقضة وغير الصحيحة.

2 – النسخ:

يدور مفهوم هذه الفكرة حول إحلال حكم أو مفهوم جديد محل آخر قديم، وقد استخدم علماء المسلمين هذه الفكرة ذات الأصل الفقهي؛ لإثبات أن الدين الإسلامي نسخ ما قبله من أديان، وتحديدا اليهودية والمسيحية ذواتي الأصل السماوي. وبالطبع لم يقبل اليهود هذه الفكرة؛ لأنها كانت تعني أن شريعتهم ليست أبدية، وقد خصص سعديا الفيومي جزءا كبيرا من كتابه “الأمانات والاعتقادات” لدحض الحجج التي أطلقها علماء المسلمين ضد اليهودية، وانطلق يبحث في العهد القديم عن النصوص التي تشير إلى أبدية الوعد الإلهي لبني إسرائيل.

كانت المشكلة أكبر عند المسيحيين، فالديانة المسيحية ينظر إليها أتباعها على أنها ديانة ناسخة لليهودية، ولذا فقد سمي كتاب اليهود المقدس بالعهد القديم، فيما أطلقوا على أسفارهم اسم العهد الجديد؛ ولذا فإن موقفهم كان أكثر تعقيدا فكيف يصفون دينهم بأنه ناسخ لليهودية، بينما يرفضون أن تكون ديانتهم منسوخة بالدين الإسلامي؛ ولذلك فقد وصف بعضهم المسيحية بأنها “شريعة ناسخة غير منسوخة”.

ويشير الباحثون الغربيون إلى أن علماء اليهود استخدموا هذا التناقض في جدالهم الديني ضد المسيحية، وأمام هذا الرفض اليهودي لفكرة النسخ انطلق علماء المسلمين يبحثون عن أمثلة للنسخ داخل العهد القديم، وذلك لجعل اليهود بين موقفين: فإما أن يسلموا بأن الدين الإسلامي هو آخر الأديان، أو يسلموا بوجود تناقضات داخل العهد القديم.

وقد عثر هؤلاء العلماء على عدد من الأمثلة: فيعقوب عليه السلام تزوج من أختين (ليئة وراحيل) ثم حرم سفر اللاويين فيما بعد الجمع بين الأختين (اللاويين18: 18)، وشريعة موسى أمرت بقتل كل سكان أرض كنعان، لكن يشوع لم يقتل سكان مدينة جبعون ولم يعتبر آثما، والتوراة حرمت أي إضافة لشريعة موسى (سفر التثنية13: 7) لكن اليهود نسخوا ذلك واخترعوا معظم الصلوات وأضافوا كثيرا من الشرائع. وأمام ذلك اضطر بعض اليهود للاعتراف بمنطقية فكرة النسخ؛ لكنهم أنكروا أن يكون الرب قد سمح بنسخ الديانة اليهودية لوعوده المتكررة ببقاء بني إسرائيل.

3 – فقدان التواتر:

تعني فكرة التواتر أن يتم تناقل النص عبر جماعة من الناس إلى جماعة أخرى وهكذا حتى يصل إلى صورته النهائية؛ بحيث يصبح من الصعب على أفراد جماعة من هذه الجماعات الاتفاق على تحريف النص.

وقد ناقش علماء الغرب هذه الفكرة، واعتبروا أنها أهم الأطروحات التي طرحها علماء المسلمين في نقدهم للعهد القديم، وقد تحدث ابن حزم، ومن بعده مباشرة السموأل المغربي (العالم اليهودي الذي اعتنق الإسلام) عن أن نص العهد القديم لم يكن متواترا، مما يعني احتمال أن يكون قد تعرض للتحريف.

وقد قابل ذلك رفض يهودي لهذه الأقوال وقالوا بأن التوراة تم تناقلها بالتواتر الكافي، لكن ابن حزم وعلماء المسلمين بعده أكدوا أنها غير متواترة من خلال نصوص العهد القديم ذاتها، أو من خلال مصادر تعود لما بعد عصر تدوين العهد القديم: فهناك أخبار -حسب قول ابن حزم- عن أن التوراة كانت تحفظ عند الكاهن الأكبر، وهذا المنصب تولاه عدد من الكهنة الفاسدين، أو المحاطين بكهنة فاسدين.

كذلك فإن الأحداث التاريخية ودمار الهيكل، وأورشليم، وسبي بني إسرائيل إلى أشـور، ثم إلى بابل فيما بعد، والشتات الروماني 70م، ثم دمار أورشليم الثاني 164م على أيدي الرومان تؤكد صعوبة الحفاظ على النص من الضياع أو التحريف، وإذا أضيف إلى ذلك حالة المعصية الدائمة التي لازمت بني إسرائيل طوال تاريخهم -حسبما جاء في العهد القديم- فإن ذلك يعني أن التوراة محرفة.

أما السموأل فقد تحدث عن أن عزرا هو من حرف العهد القديم (وقد سبقه في ذلك ابن حزم)، فحسب قول السموأل فإن عزرا -ذي الخلفية الكهنوتية- كان يكره داوود ونسله؛ لذلك فقد أضاف قصص الزنا التي تشكك في نقاء أصل داوود ونسبه. وفكرة أن عزرا هو من حرف التوراة كانت موجودة في كتابات قبل ظهور الإسلام فوجدناها عند “بروفيريوس”، وفي الكتابات الأوروبية المتأخرة، بينما اعتبر عزرا عند سبينوزا (الفيلسوف اليهودي الهولندي القرن الـ17م) مقننا للتوراة.

4 – التفسير الإسلامي للتوراة:

يستخدم هذا العنصر لتفسير بعض نصوص العهد القديم على أنها نبوءات بقدوم النبي محمد (ص) أو ظهور الإسلام، ورغم أن الترجمات العربية للعهد القديم لم تكن متاحة بسهولة للعلماء المسلمين فإنهم كانوا يقتبسون بعض الفقرات التوراتية من بعض الترجمات الحرفية ويعتبرونها بشارة بالنبي محمد (ص).

وقد اعتبر بعض الباحثين الغربيين هذا الموقف من استخدام نصوص التوراة لإثبات نبوة محمد (ص) مناقضا لقولهم بتحريفها.. ويجب أن نلاحظ أن الموقف الإسلامي من العهد القديم لا يقول بتحريفه جملة، بل بتحريف أغلبه، وهذا أتاح لهم استخدام النص إذا لم يكن مخالفا لأي مبدأ إسلامي، وبالتالي كان من الممكن تفسير بعض النصوص كبشارات بأمور تتعلق بالإسلام، لكن يجب أن نضيف كذلك أن تفسير نصوص العهد القديم على هذا النحو كان ذا أهمية محدودة عند علماء المسلمين.

وتشير المستشرقة الإسرائيلية “حافا لازاروس” إلى أن أغلب هذه التفسيرات بدأت على يد عدد من اليهود أو المسيحيين ممن اعتنقوا الإسلام.

وقد تنوعت موضوعات تفسير نصوص العهد القديم؛ فبعضها فسر على أنه إشارة إلى النبي محمد (ص) مثل ما جاء في سفر إشعيا 42: 2-3 “هو ذا عبدي الذي أعضده ومختاري الذي سرَّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض، وتنتظر الجزائر شريعته”. ومنها ما فسر على أنه إشارة للصلاة مثل إشعيا 42: 11-12 “ليهتفوا، ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر”.

ومنها ما فسر على أنه إشارة للحجر الأسود مثل العبارة “حجر الزاوية الكريم” التي وردت في سفر إشعيا 28: 16، كما فسرت العبارات التي تتحدث عن الصحراء والبادية على أنها أرض الحجاز خاصة إذا اقترنت بأسماء عربية مثل مدين أو قيدار، كما فسرت النصوص التي تتحدث عن الجيش الفاتح بأنها بشارة بالجيش الإسلامي… والأمثلة حول التفسيرات الإسلامية لنصوص العهد القديم كثيرة.

وجدير بالذكر أن النصوص التي فسرت على أنها بشارة بالنبي محمد (ص) عند علماء المسلمين، فسرها اليهود على أنها تتحدث عن نبي يأتي من نسل داوود عليه السلام ليخلص بني إسرائيل، بينما فسرها المسيحيون على أنها بشارة بالمسيح عليه السلام.

وبشكل عام فإن علماء المسلمين استطاعوا في مناقشاتهم حول مسائل عدم الدقة التاريخية والنسخ، وفقدان التواتر أن يؤسسوا منهجا علميا استفادت منه مدارس نقد العهد القديم في العصر الحديث بصورة مباشرة، أو بصورة غير مباشرة عبر علماء اليهود في العصور الوسطى والذين تأثروا بدورهم بعلماء المسلمين.

كذلك دار هذا الجدال الديني في جو من التعايش، وفي بعض الأحيان في مناظرات دينية، أو في ردود مكتوبة بين علماء كل دين، مثلما حدث بين الإمام ابن حزم وابن النغريلة اليهودي (ت.1055م).


[i]  أول فيلسوف يهودي ذائع الصيت في العصور الوسطى. عاش في الفترة (882 – 942 م.)، وقد ولد بالفيوم بمصر. هاجر إلى فلسطين في عام 915 م. وبعدها هاجر إلى بابل؛ حيث أصبح رئيسا للمجمع العلمي اليهودي هناك، واهتم بمهاجمة بعض الفرق اليهودية التي اعتبرها مارقة عن الدين اليهودي، كما حاول أن يبين أن اليهودية تتفق تماما مع العقل والتاريخ. كان أول من ترجم العهد القديم إلى العربية، وهي ترجمة لا تزال تستخدم إلى الآن. وكان من الواضح تأثره بعلماء الكلام المسلمين وظهر ذلك في أهم مؤلفاته “الأمانات والاعتقادات”

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى