منطلقاتٌ في فهم الفكر التربويِّ الإسلاميِّ بين الواقع والطموح

منطلقاتٌ في فهم الفكر التربويِّ الإسلاميِّ بين الواقع والطموح

بقلم د. فتحي حسن ملكاوي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحديث عن واقع الفكر التربوي في المجتمعات الإسلامية، حديثٌ متشعِّب، يتناول فهم الملامح العامة المتمثلة في النظم التربوية العامة، وما تقوم عليه من فلسفات وسياسات ونظريات واستراتيجات، كما يتناول تفاصيل النظام التربوي ومكوناته ومستوياته الإدارية والتعليمية، وما فيها من مرافق ووسائط وبرامج ومناهج وأساليب للتعليم والتقويم وغيرها. ونظراً لأنَّنا نتوقع أن يكون القارئ الكريم على صلة مباشرة بهذه التفاصيل؛ بوصفنا جميعاً من مخرجات أوساط التربية المعاصرة سواء ما يختصُّ بالأسرة أو المدرسة أو الجامعة أو مؤسسات المجتمع الأخرى، فإنَّنا في غنىً عن تناول هذه التفاصيل التي تملأ البيانات عنها صفحات المجلات العلمية والأطروحات الجامعية، وحتى الصحف اليومية. ونحتاج بدلاً من ذلك إلى النظر في عدد من القضايا التي ربـما لا تأخذ حظَّها المناسب في البحوث المعاصرة.

وانطلاقاً من منهجية التكامل المعرفي التي نعتمدُها في كتاباتنا، فإنَّنا نقرِّر، منذ البداية، أنّ الفكر التربوي الإسلامي المعاصر الذي نطمح إليه، لا بد من أن يستمد أهدافه وبرامجه من أربعة مصادر؛ فهو يـهتدي بنصوص القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة لأحكام الإسلام وتوجيهاته في العمل التربوي، ويستوعبها بفهمٍ مقاصديٍّ معاصر، ويستصحب في الوقت نفسه خبرة التراث التربوي الإسلامي والخبرة البشرية المعاصرة، ويتجاوزهما. أما الهدف الذي نسعى إليه في هذا الطموح فهو هدف مزدوج: تعزيزُ الخصائص الفكرية والحضارية للأمة الإسلامية ومجتمعاتها، من جهة، وبناءُ وَعْيها بمسؤوليتها عن الإسهام التربوي والعلمي والحضاري في المجتمع البشري المعاصر، من جهة أخرى. وشرط تحقيق ذلك أن يقوم الفكر الذي نطمح إلى إنتاجه، ونبدع في تصميم مشروعاته وبرامجه، على الاستيعاب والتجاوز المشار إليهما.

وفي سياق البحث عن واقع الفكر التربوي السائد في مجتمعاتنا الإسلامية، وطموحاتنا في بناء فكرٍ تربوي إسلامي، نجد من المناسب أن نذكّر ببعض المنطلقات التي لا بد أن تكون واضحة في تناولنا للواقع والطموح.

والمنطلق الأول في هذا الشأن هو أنَّ إصلاح حال التربية والتعليم في مجتمعاتنا هو جزء من هدف الإصلاح العام لهذه المجتمعات، بل هو طريقة هذا الإصلاح كذلك. فنحن على وَعْي بالجدل المتواصل حول أثر المجتمع في تحديد موقع التربية فيه، وأثر التربية في تحديد واقع المجتمع، فعلماء الاجتماع والسياسة والتربية وغيرهم من دعاة الإصلاح العام يتوزعون على طرفي القضية، فعندما يرى بعضهم أنَّ المجتمع لا يقوم دون تربية، فإنَّ ذلك يعني أن التربية تأتي في الأهمية قبل المجتمع، وعندما يرى بعضهم الآخر أنَّ التربية هي الصورة التي يعكسها المجتمع ويحدِّد ملامـحَها، فإنَّ ذلك يعني أنَّ المجتمع يأتي في الأهمية قبل التربية. ولكننا لا نجد خلافاً جوهرياً حول وجود صلة قوية بين المجتمع والتربية، وأنَّ طرفيِّ الجدل في القضية يملكان قدراً من الحقِّ فيما يريانه. وتكون إحدى الـحُجَّتيْن أقوى من الأخرى في سياقات محددة. وقد استقرت نظم التعليم العام في العالَـم المعاصر على اعتماد إلزامية التعليم مبدأ أساسياً في تنمية المجتمع وتحديد مسارات تقدُّمه، وأصبحت حالة التعليم العام في المجتمع تعبيراً عن مدى تقدُّمه وصَلَاحِه أو تخلُّفِه وفسادِه.

وثاني هذه المنطلقات أنَّنا نرى أنَّ من حق أبناء كلِّ مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية اعتزازُهم بمجتمعهم، لكنَّ ذلك لا يعني غضَّ الطرْف عن مستويات التخلُّف التي تتَّصف بها مجتمعاتنا المعاصرة. وهذا التخلف هو في الغالب صفةٌ عامة يتَّصف بها المجتمع بكامله، وتتَّصف به قطاعات المجتمع بما في ذلك قطاع التربية. والحكم بصفة التخلُّف هو حكم عام مهما اختلف المعيار المستخدم في هذا الحكم؛ سواءً كان معيار القياس هو المقارنة بين واقع المجتمع كما هو حالياً، بما كان ينبغي أن يكون عليه وفق التوجيهات الإسلامية، أو كان المعيار مقارنة هذا الواقع بالإمكانيات المتاحة للإصلاح والتطوير والعجز عن توظيف هذه الإمكانيات، أو كان المعيار مقارنة واقع المجتمع الإسلامي بالمجتمعات الأخرى في التقدم الحضاري بجانبيْه المعنوي والمادي.

وثالث هذ المنطلقات أنَّ أيّ جهد للإصلاح والتجديد والتغيير في واقع المجتمع يقوم على فهم هذا الواقع فهماً عميقاً يشمل المشكلات وأسبابها، والحاجات وأولوياتها، وسنن التغيير واتجاهاتها. ودون هذا الفهم العميق، فإنَّ التغيير سوف يتم لا محالة؛ إذ التغيير سنَّةٌ قائمة دائمة، وإذا لم يكن التغيير وفق منهج يقود إلى النمو والتقدم، فربَّـما يجري التغيير في اتجاهات تكرِّس التخلُّف. ولعلّ من أهمِّ ما ينبغي فهمه عن واقع أيّ مجتمع هو الصلة الوثيقة بين حالة المجتمع القائمة والمنشودة من جهة، والمكونات الفكرية والنفسية التي تعبر عن شخصية المجتمع، وما يميّزه عن غيره من المجتمعات من جهة أخرى.

ورابع هذه المنطقات أنّه لا يكفي لفهم واقع المجتمع ملاحظات انطباعية وأحكام وصفية عامة، بل لا بد من دراسات تحليلية نقدية تتصف بالعمق والجرأة في سِعْيِها لفهم حالة المجتمع في جوانبه وقطاعاته المختلفة، بما في ذلك الدرجة التي يتمتع فيها الإنسان بحريته وكرامته وحقوقه، وطبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والجماعات، ومنظومة القيم التي تحكم سلوك الناس ومرجعيات هذه المنظومة، ومدى امتلاك المجتمع لحريته واستقلاله في القرار والاختيار، فضلاً عن حالة المجتمع فيما يختص بمستوى البحث العلمي في ميادين الزراعة والصناعة والتيسيرات المادية والتقدم الحضاري. فحالة المجتمع في كلِّ ذلك تؤثر على الحالة التربوية للشخصية الإنسانية في المجتمع، ولا مناص لأيِّ إصلاح تربوي منشود من التعامل حالة المجتمع القائمة بهدف نقله إلى الحالة المنشودة.

وخامس هذه المنطلقات ضرورة تحديد العلاقة بين واقع الفكر التربوي الإسلامي والعصر أو السياق الزمني الذي تطور هذا الفكر فيه، فما أنتجه التربويون المسلمون في عصر زمني مضى أصبح تراثاً فكرياً تربوياً إسلامياً. أمّا الإسلام فهو رسالة عالمية عابرة للزمان والمكان. فمبادئ الإسلام في أصولها في الوحي الإلهي والهدي النبوي مبادئ معاصرة، وكذلك أحكامه وتوجيهاته، لكنَّ التراث التربوي الإسلامي الذي قدّمه علماء الأمة كان يقترب من مبادئ الإسلام وأحكامه كثيراً أو قليلاً. وحين لا يكون الفكر التربوي منبثقاً من مبادئ الإسلام وأحكامه، ومهتدياً بهدي هذه المبادئ والأحكام، وإنّما يكون منبثقاً من مبادئ أخرى تخالف ما يهدي إليه الإسلام فلا يمكن أن يُعدَّ فكراً تربوياً إسلامياً.

وسادس هذه المنطلقات أنّ الفكر التربوي الإسلامي الذي نَعْنِيه ليس هو “التربية الدينية” أو “التربية الإسلامية” التي تكون عنواناً لمادة دراسية، تقتصر على بعض الجوانب الروحية والأخلاقية والتزكية الوجدانية الفردية، أو تقدِّم معلومات عن الإسلام، وليست هي مادة دارسية تعالج الفكر التربوي الإسلامي عند أحد علماء الإسلام في التاريخ، أو ما ساد من هذا الفكر في حقبة زمنية ماضية، أو منطقة جغرافية محددة، أو مذهب فقهي أو فكري… فقد اصطلحنا أن يكون ذلك تراثاً تربوياً إسلامياً …، فالفكر التربوي الإسلامي الذي نتحدث عنه، هو بناء فكري يعيد صياغة الشخصية الفردية والاجتماعية الحاضرة، الآن وهنا، في الجوانب النفسية والعقلية، ومن ثم بناء مجتمع يتمتع بالحيوية والفاعلية والإنجاز الحضاري المتميّز، الآن، وهنا. والتربية بهذا المعنى هي تغيير في النفوس يكون الأساس لتغيير جذري في الجوانب المعنوية والمادية من حياة الفرد والمجتمع والأمة.

وسابع هذه المنطلقات أنّ أيَّ فكر تربوي ينتجه مفكرو أيَّة أمَّة إنَّــما ينبثق من مرجعيَّة فكريَّة كليَّة، أو رؤية كليَّة للعالَم، فالفكر التربويُّ الإسلاميُّ ينبثق من مرجعيَّة فكريَّة كليَّة تعبّر عن رؤية العالَـم الإسلاميَّة، وهي التصوُّر الكلِّيُّ الذي يتبنّاه المجتمع الإسلاميّ عن الوجود والحياة والإنسان، وما يتأسَّس عليه هذا المجتمع من معتقدات وقيم ونظم. وحين يستورد المجتمع الإسلامية فكراً تربوياً من رؤية أخرى للعالَـم، فإنَّ المشكلة في الأساس لا تكون في تفاصيل الفكر التربوي وجزئياته، وإنَّـما تكون في الرؤية الفلسفية التي ينبثق عنها، والمرجعية الفكرية التي يحتكم إليها.

نأمُل أن تعين هذه المنطلقات في تحديد ما يمكن فهمه عن واقع الفكر التربوي الإسلامي وعن الطموح الذي نأمُل أن ينتقل هذا الواقع إليه.

وعلى الله قصد السبيل.

(المصدر: مركز المقاصد للدراسات والبحوث)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى