مفارقات بين موت الدعاة وموت الطغاة

مفارقات بين موت الدعاة وموت الطغاة

بقلم محمد جمال سعد

من أعظم تجليات الصراع بين الحق والباطل هو المفارقة بين طريقة موت أصحاب الحق وأصحاب الباطل، فلموت صاحب الحق طريقة تختلف تمامًا عن طريقة صاحب الباطل، والإمام أحمد رضي الله عنه لما قال كلمته البليغة (بيننا وبينهم الجنائز) دل ذلك على أن مشهد النهاية لكلا الفريقين من أهم وسائل التثبيت والاعتبار، وهنا تجدر الإشارة إلا أن الإمام أحمد لم يكن يقصد حجم الجنائز من حيث العدد وإلا فالعصر الحديث يشهد جنازات مليونية لكثير من الطغاة، وإنما مقصد الإمام أحمد هو نوعية السائرين في تلك الجنائز هل هم من الدعاة والمصلحين أم من أتباع الباطل والمنتفعين؟

والمتأمل في طريقة هلاك الطغاة عبر العصور يدرك أن مشهد النهاية لم يكن عبثيًا وإنما أراده الله لحكمة، ففرعون الذي طغى وتجبر وقتل الأطفال واستحي النساء وتجبر بما مكنه الله فيه من قصور وأنهار وسلطان حتى قال ( أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) كان هلاكة بالغرق عبرة لبني إسرائيل وآية لمن يأتي من خلفهم، وقارون الذي اغتر بماله وكنوزه التي آتاه الله إياها مات في النهاية في مشهد عظيم (فخسفنا به وبداره الأرض) فكان يتججل في مراتب الأرض يشتم ترابها فيدخل فيجرح رئته فيصرخ ولا مجيب، فلم يكن له أثر ولا عين ولم يتبق منه إلا اسمه ليكون عبرة وعظة.

وقوم عاد الذين آتاهم الله قوة في البنيان والعمران فكان أحدهم يبني قصرًا في الجبال نحتًا بيده، فلما وصلوا الى قمة الفجور والطغيان، أتاهم أمر الله فكانت نهايتهم مؤسفة، وقوم لوط الذين فعلوا فاحشة لم يسبقهم إليها أحد فلما جاءت الملائكةُ لوطًا، ظن قومه أنهم شابين أمردين جميلين وأردوا أن يفعلوا بهم الفاحشة فيدفعهم لوطٌ فلم يستطع فما كان من جبريل عليه السلام إلا أن ضربهم ضربة أخذت أبصارهم فخرجوا يتحسسون الجدران ويقولون إذا كان الصباح أتيناك فأريناك ماذا سنصنع يا لوط، فلم يأت عليهم الصباح، وجاء العقاب سريعًا من الله فأخذهم بغتة وجعلهم عبرة للظالمين.

إن طريقة هلاك القاضي أحمد بن أبي داوود كانت مناسبة تمامًا لحجم ما صنع، فالرجل الذي تسبب في حبس الإمامين البويطي تلميذ الشافعي ونعيم بن حماد الخزاعي حتى ماتا بالسجن تحت وطأة التعذيب، وكان ممن سعى واشترك في قتل إمام السنة أحمد بن نصر الخزاعي، وهو الذي أشرف بنفسه على تعذيب الإمام أحمد رضي الله عنه، فكان مشهد النهاية على قدر الجريمة التي صنعها فيُبتلى بمرض الفالج (وهو الشلل) مدة أربع سنين وبقي طريحًا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئًا من جسده وحرم كل لذات الدنيا، وكان يقول عن مرضه «إن لي شقًا لو قرض بالمقاريض ما شعرت به وآخر لو وقعت عليه ذبابة فكأنه الجحيم». هذا أحمد بن أبي داوود قاضي قضاة الدنيا لم يحتفل أحد بموته، ولم يُلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان السلطان.

وعلى النقيض تمامًا.. يختم الله للدعاة والمصلحين بمشهد عظيم استحقاقًا لهم واستبشارًا لذويهم وتثبيتًا للسائرين في دربهم وهذا كله من جملة رحمة الله بأهل الحق، فالإمام أحمد بن حنبل الذي صبر في محنة خلق القرآن وتمسك بموقفه ختم الله له بخاتمة عظيمة، فالرجل تُوفي ليلة الجمعة بعد أن كتب وصيته فكانت جنازته مهيبة حضرها ألف ألف وثلاثمائة ألف بحسب حصر الأمير محمد بن طاهر، هذا العدد الكبير جعل عبد الوهاب الوراق يقول: ما بلغنا أن جمعًا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا في جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة أحمد بن حنبل، وقال الوركاني جار أحمد بن حنبل: أسلم يوم مات أحمد عشرون ألفا من اليهود والنصارى والمجوس.

بالمقارنة بين موت أحمد بن أبي داوود وأحمد بن حنبل تدرك يقينًا أن جنازة إمام أهل السنة والجماعة كانت نقطة فاصلة في مسيرة الصراع بين الحق والباطل.

ومات سعيد بن جبير بعد أن قتله الحجاج بن يوسف الثقفي، مات سعيد مسفوك الدم بعدما ناظر الحجاج فكانت نعم المناظرة، وظن الحجاج أن بموت سعيد بن جبير قد استراح لكنه لم يعلم أن موت الدعاة كابوس في رؤوس الظامين، فلم يهنأ الحجاج بنومة إلا ويرى فيها سعيد بن جبير يأخذ بمجامع ثوبه فيقول‏:‏ يا عدو الله فيم قتلتني فيقول‏:‏ مالي ولسعيد بن جبير حتى مات على هذه الحال.

وقُتل حسن البنا ومحمد مرسي على يد الظالمين بعدما صبروا على البلاء وأقاموا الحجة على الناس وبلغوا رسالة ربهم، فكان مشهد نهايتهم على قدر كبير من التشابه وما أشبه الليلة بالبارحة، فالرجلان ماتا دفاعًا عن الحق ومجابهة للظلم وكلاهما حُرم الناس من حضور جنازتهم وكلاهما رفع الله قدرهما في دنيا الناس.

إن لحظة النهاية فارقة وكاشفة لحقائق الأمور، فيزداد المؤمن إيمانًا وتصديقًا بما يصنع فيستريح من عناء الدنيا وبطش الظالمين وسجونهم، أما الطغاة فيكون الموت لهم كالصدمة التي لم تكن في حسبانهم فتبدأ مرحلة الحساب على ما اقترفوا من آثام وقتلوا من أبرياء وسفكوا من دماء، «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ».

(المصدر: ساسة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى