كتاباتكتابات مختارة

مسألة إغلاق المساجد.. وفن إدارة الأزمة

مسألة إغلاق المساجد.. وفن إدارة الأزمة

بقلم د. أنس جراب

بعد مرور أكثر من شهرين على إغلاق المساجد، ما زال الكل يتساءل هل بات إغلاقها أمراً ضرورياً في ظل عودة الحياة الاقتصادية إلى طبيعتها -نوعاً ما- وفي ظل ما شهدناه من تزاحم ملحوظ في الأسواق، بل وفي بعض الاحتفالات “الوطنية” أو غيرها هنا وهناك!

هذه المظاهر بدورها شجعت الكثير على السؤال عن الجدوى من إغلاقها، بل وشجعت البعض كما في فلسطين على القيام بمسيرات حاشدة لفتح المساجد وأداء صلاة العيد، احتجاجاً على إبقاء المساجد مغلقة طيلة أيام الشهر الفضيل، دون سبب وجيه، أو مبرر مقنع، خصوصاً في ظل الازدحام على المرافق الأخرى كما أشرت سابقاً.

لكن وحتى أكون منصفاً، لست مع القائلين بنظرية المؤامرة، وأن بعض الأنظمة قد استغلت بعض العلماء لتحقيق مآربهم الخفية بإغلاق المساجد، قد يكون حدث هنا وهناك، لكنني أثق بكثير من العلماء وأهل الفتوى في الدول العربية، ولا أعتقد أن هذا هو السبب، رغم أن الفترة التي سبقت إغلاق المساجد، قد شهدت حملات إيمانية رائعة، كالفجر العظيم في فلسطين، والتي انتقلت إلى الأردن وغيرها، وكانت بادرة طيبة لتمتين الصلة بالله، والتأكيد على أن النصر لا يبدأ إلا من المساجد.

وإنما أرى أن مناط الأمر يتعلق بكيفية إدارة الأزمة من قبل دولنا وأنظمتنا، وهو ما ينعكس على توصيف الأحكام وتطبيقها على أرض الواقع .

الأزمة والتعامل معها..

تعرف الأزمة بأنها عبارة عن موقف يواجه الأفراد والجماعة أو الدولة، ويكونون غير قادرين على أن يتغلبوا عليه باستخدام الإجراءات الروتينية، مما يؤدي إلى بعض التغييرات المفاجئة. وحتى نعتبر أن هناك أزمة، لا بد من توفر العناصر الثلاث التالية، بحسب رأي بعض أهل الاختصاص:

ولا أظن أن أحداً قد يختلف معي في ذلك، فكورونا كان مفاجئاً للجميع، ظهوره في الصين، ثم انتقاله السريع إلى العالم، كما أنه يهدد أعز ما نملك وهي الأرواح والنفوس، ناهيك عن ضرب المصالح الاقتصادية، وإيقاع العالم في أزمات اقتصادية خانقة، بالإضافة إلى أن هناك الكثير من التضارب في المعلومات، حيث لم يتم تحديد -بشكل دقيق- كل ما يتعلق بالمرض من حيث انتقاله، ولم يتوصل العلماء إلى طرق علاج، أو تأكيد لمعرفة كيفية ظهوره من البداية!

وهذا كله تطلب من القيادات في جميع الدول أن تقوم بعملية لإدارة الأزمة، لتفادي المخاطر، والحيلولة دون تفاقم الأزمة، لكن حتى تنجح في ذلك، عليك بقراءة المعطيات قراءة سليمة، وإلا وقعت في التخبط، مما يجعل الناس يشككون في صحة تصرفاتك، أو تضيع كل جهودك سدى.

وبرأيي ما حصل من جدل حول إغلاق المساجد، هو نتيجة ذلك التخبط، والخلل في التعامل مع المعطيات الطبية والعلمية.

ما حصل من جدل حول إغلاق المساجد، هو نتيجة التخبط، والخلل في التعامل مع المعطيات الطبية والعلمية

صحيح أن الكثير من العلماء وأهل الطب، برّروا إغلاق المساجد لتحقيق مقصد حفظ النفس، وهو أمر لا جدل فيه، لكن هل كانت هي الوسيلة الوحيدة لا بديل لها؟ 

وأين أصبح مقصد حفظ النفس بعد فتح المساجد في الدول الأوروبية -التي تعاني من انتشار المرض- قبل الدول العربية، ودخول الناس لأداء الصلاة مراعين الضوابط الطبية الوقائية؟!

وهذا بدوره يقودني إلى مجموعة من الأمور لتوضيح جوانب المسألة:

1- مسألة إغلاق المساجد، ومنع إقامة صلاة الجمعة، هي مسألة فقهية اجتهادية، يقبل فيها الخلاف، لأنها تدور في الأساس على درء المفاسد، وكما قرر أهل العلم فدرء المفاسد أولى من جلب المنافع. وهذا ما يعني أن هناك اجتهادا حول مدى تحقق هذه المفاسد والسبل التي تحول دون انتشارها.

2- بناء على النقطة السابقة، فإن درء المفاسد وتقليل آثارها هو متصل بالتوصيف الطبي للمرض ومرتهن بتقييمه، من حيث انتشاره، وعدد الحالات، وطرق الوقاية، والوضع الصحي داخل الدولة.

3- الأصل في الأطباء أن يكونوا ممن يؤتمنون على دينهم، وهم يحتاجون إلى التنسيق مع أهل العلم، للوصول إلى حكم لا يتنافى مع ما شرعه الله، ولا يلحق الضرر في المجتمع.

4- الحكم الشرعي -خصوصاً ما يتعلق بالفرائض- يختلف من منطقة لأخرى، حتى لو كان في داخل الدولة، وهذا يعتمد كما أسلفت في النقطة الثانية على التقييم الطبي، خصوصاً في ظل منع التنقل من مكان لآخر في كثير من الدول، لأجل الحجر على المرض ومنع الاختلاط.

الحكم الشرعي -خصوصاً ما يتعلق بالفرائض- يختلف من منطقة لأخرى، حتى لو كان في داخل الدولة، وهذا يعتمد على التقييم الطبي

5- هناك مساجد لها أهمية أكبر من قضية إقامة صلاة الجمعة، كالمسجد الحرام في مكة قبلة المسلمين -وقد أحسن القائمون عليه في إقامة الفرائض بأعداد قليلة رغم كثرة الإصابات في مكة المكرمة-، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي يضم قبره عليه الصلاة والسلام، والمسجد الأقصى الذي تمثل صلاة الجمعة فيه تأكيداً على إسلاميته في مواجهة حملات التهويد التي يتعرض لها . وهناك الكثير من الكلام -غير الموثق- حول استغلال اليهود لـفتوى “إغلاق المساجد” لزيادة الحفريات والقيام ببعض الأمور التهويدية، ولا يخفى على أهل الفتوى إن إسلامية الأقصى والدفاع عنه هي من أعلى المراتب في المقاصد، وإن إزهاق الأرواح والمهج مباحة بل واجبة في سبيل الدفاع عنه وعن إسلاميته.

إن إسلامية الأقصى والدفاع عنه هي من أعلى المراتب في المقاصد، وإن إزهاق الأرواح والمهج مباحة بل واجبة في سبيل الدفاع عنه وعن إسلاميته

دروس وعبر..

هناك الكثير من الدروس والعبر التي لابد أن نتعلمها من التخبط في الفتوى، مثل موضوع إغلاق المساجد، وحتى لا نقع فيها مستقبلاً، ومنها:

1- ضرورة الفهم العلمي للمسألة ومراجعة مجموعة من المختصين في كل أمر، فعلى سبيل المثال، كنت (كشخص) قد راجعت بعض الأطباء المختصين في العدوى ومدى انتقالها للآخرين حال فتح المساجد، وكان الجواب أن المساجد تعتبر أماكن مغلقة ويمكن أن تنتقل العدوى فيها بأسرع من المناطق الثانية المفتوحة، لكن يمكن فتحها إذا اتخدت التدابير كارتداء القفازات والكمامات وإحضار سجادة خاصة بالصلاة..الخ. وأنا أقول هل تعجز دور الإفتاء عن التأكد من المعلومات قبل الفتوى من الأطباء، خصوصاً أن الإجراءات التي اقترحها عليّ بعض الأطباء آنذاك هي نفسها التي تطبق حالياً!

2- إعمال فقه الضرورة ومراعاة التغير: فمن المهم تطبيق الأحكام التي تتناسب مع الحالة الطارئة بقدرها، وكما قرر العلماء (الضرورة تقدر بقدرها)، فعلى سبيل المثال كان يمكن الاكتفاء بإغلاق المساجد فترة مؤقته لحين التأكد من طبيعة المرض وسبل الوقاية منه، ثم تتغير الفتوى بناء على ذلك، أما تعميم الحكم مجاراة لدول أخرى، فهذا فيه خلل كبير.

إن المفتي بحاجة إلى مراجعة فتواه في الأمور المستجدة -خصوصاً في الأزمات- كل فترة، لأنها تجمع بين المفاجأة وغموض المعلومات. وتجاهل ذلك يوقع أهل الفتوى في مواقف لا تحمد عقباها، فأحدهم كان يقول بأن المساجد ستظل مغلقة طالما كورونا ما زال موجوداً!! وهذا أراه غير منطقي وسليم، والأصل في المفتي أو العالم أن يضع في اعتباره أن الأمور قد تتغير فتتغير فتواه، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير تلك الأمور .

وما موقف أولئك الذين وصفوا الناس الذين طالبوا بفتح المساجد بالجهل وعدم العلم، بعد أن قررت بعض الحكومات بفتح المساجد حالياً! ألم يضعوا أنفسهم في مواقف محرجة إذ تقوقعوا على رأي معين، وسفّهوا مخالفيهم!

إن المفتي بحاجة إلى مراجعة فتواه في الأمور المستجدة -خصوصاً في الأزمات- كل فترة، لأنها تجمع بين المفاجأة وغموض المعلومات

3- مراعاة المآل: علينا أن ندرك أبعاد الفتوى قبل إصدارها والنتائج المترتبة عليها، مثلاً هل أدرك أهل الفتوى أبعاد إغلاق الأقصى أمام المصلين، حيث ضيّعوا جهود المرابطين الذين أرادوا حمايته من تفرد الاحتلال به؟  وهل أدركوا أنهم قد قدموا للاحتلال هدية قيمة، فيستطيع أن يغلق المسجد بأي ذريعة مستقبلاً!

وهل فكر أهل الفتوى بسيناريو استمرار الوباء لسنة أو سنتين؟ هل سيتراجعوا عن فتواهم بإغلاق المساجد ويقرروا فتحها، كما حدث في فلسطين ثم السعودية؟ وإذا تم فتحها في السعودية رغم ازدياد الحالات بشكل أكبر مما كانت عليه من قبل فما الداعي لإغلاقها من البداية؟ ألم يكن من الأفضل والأسلم شرعاً أن يتم فتحها مع اتخاذ التدابير التي ينادون بها حالياً!

4- وضع البدائل: ما البديل المقترح الذي يجب أن يضعه المفتي حال اتخاذه قراراً بمنع أمر معين؟ ففيما يتعلق بالمساجد، فأهميتها لا تتعلق بالمباني بقدر الجانب الروحاني فيها، وزيادة صلتنا بالله عز وجل، ألم يكن من الأجدر أن يتم وضع خطة أفضل بالتعاون مع الحكومات ووسائل الإعلام وغيرها لتشجيع الناس على الالتجاء إلى الله، وحثهم على التوبة والاستغفار، وزيادة الإيمان في نفوسهم، بدل تغييب صوت الدين بالمطلق، والاقتصار على جهود فردية قام بها بعض الأئمة والدعاة على وسائل التواصل الاجتماعي -جزاهم الله خيراً- تعويضاَ لهم عما أخفقت فيه دور الفتوى.

ألم يكن من الأجدر أن يتم وضع خطة أفضل بالتعاون مع الحكومات ووسائل الإعلام وغيرها لتشجيع الناس على الالتجاء إلى الله، وحثهم على التوبة والاستغفار، وزيادة الإيمان في نفوسهم، بدل تغييب صوت الدين بالمطلق، والاقتصار على جهود فردية قام بها بعض الأئمة والدعاة

إنني أبتهل إلى الله أن لا تكون تلك الفتوى وغيرها، مبرراً لتغول الحكومات والأجهزة الأمنية على المساجد، تغلقها متى شاءت، وتتحكم بها وتجعلها رهينة قرار يتخذه من لا يفهم الدين أو من يعاديه من الأساس، فتزداد مظاهر محاربة الدين في مجتمعاتنا.

إنني أرى أن على الشعوب أن لا تقبل باستمرار بإغلاق المساجد، وهي تراها تفتح في هذا البلد وذاك -هناك دول لم تغلق المساجد من الأساس- وعليهم أن يتخذوا خطوات جادة لفتحها، فلربما بعض الحكومات تحتاج إلى صوت شعبي قوي يطالب بذلك.

إن التذرع بأن الناس لا وعي لديها وتتصف بالجهل هو أمر يخالف الواقع، فالناس قد التزمت بكل ما يتعلق بالحجر الإلزامي، وإنني مدرك أن أهل المساجد هم أكثر الناس حرصاً على تطبيق تلك التدابير، أعطوهم المجال وضعوا لهم الضوابط، وسترون النتائج!

أسأل الله عز وجل أن يرفع عنا هذا الوباء، وأن يثبتنا على دينه حتى نلقاه وهو راضٍ عنا، إنه سميع مجيب.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى