كتب وبحوث

مراحل التطور الحضاري للنظم الاجتماعية في العهد العثماني – أ. ناصر بن سعيد السيف

إن المجتمعات التاريخية مجتمعات خضعت للتطور الحضاري، وانتقلت في هذا السلم من حياة الترحال وعدم الاستقرار إلى حياة الاستقرار والتنظيم الاجتماعي، واستفادة من الخبرات الاجتماعية وتقدم النواحي التكنولوجية الفتية وخلفت آثاراً حضارية مادية وكانت لها فلسفة اجتماعية وكونية وعرفت تقسيم العمل والتخصص الاجتماعي، وظهور الوعي بالفكر السياسي ونشأة الوحدة الاجتماعية الكبيرة للمجتمع المحلي في صورة قرية أو مدينة ويمتاز البناء الاجتماعي في هذه المرحلة بوضوح نظام التدرج الطبقي واستناد النظام السياسي والاقتصادي على أساس ديني ويعتبر هذا البناء الاجتماعي في مستواه العام، مرآة للمثل الاجتماعية التي يرتضيها المجتمع كأهداف غائية في العلاقات الإنسانية. [1]

ومن مراحل التطور الحضاري الذي صحب العهد العثماني ما يتعلق بالنظم الاجتماعية، ولعل في هذه البحث المختصر أعرض جانب من جوانب التطور للنظم الاجتماعية في العهد العثماني في ثلاثة مباحث الآتية:

المبحث الأول: تاريخ الدولة العثمانية وحدودها الجغرافية.

المبحث الثاني: النظم الاجتماعية والاقتصادية وتطورهما في العهد العثماني.

المبحث الثالث: طبيعة النظام السياسي والإداري والعسكري في العهد العثماني.

المبحث الأول

تاريخ الدولة العثمانية وحدودها الجغرافية

الدولة العثمانية إمبراطورية إسلامية أسسها عثمان الأول بن أرطغرل، واستمرت قائمة لما يقرب من 600 سنة، وبلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاثة: (أوروبا وآسيا وأفريقيا)، حيث خضعت لها كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا، ووصل عدد الولايات العثمانية إلى 29 ولاية، وكان للدولة سيادة اسمية على عدد من الدول والإمارات المجاورة في أوروبا، التي أضحى بعضها يُشكل جزءًا فعليًا من الدولة مع مرور الزمن، بينما حصل بعضها الآخر على نوع من الاستقلال الذاتي.

وكان للدولة العثمانية سيادة على بضعة دول بعيدة كذلك الأمر، إما بحكم كونها دولاً إسلامية تتبع شرعًا سلطان آل عثمان كونه يحمل لقب (أمير المؤمنين، خليفة المسلمين)، كما في حالة سلطنة آتشيه السومطرية التي أعلنت ولاءها للسلطان في سنة 1565م؛ أو عن طريق استحواذها عليها لفترة مؤقتة، كما في حالة جزيرة (أنزاروت) في المحيط الأطلسي، والتي فتحها العثمانيون سنة 1585م.

وأضحت الدولة العثمانية في عهد السلطان سليمان الأول (القانوني) حكم منذ عام 1520م حتى عام 1566م قوة عظمى من الناحيتين السياسية والعسكرية، وأصبحت عاصمتها القسطنطينية تلعب دور صلة الوصل بين العالمين الأوروبي المسيحي والشرقي الإسلامي، وبعد انتهاء عهد السلطان سليمان الأول، الذي يُعتبر عصر الدولة العثمانية الذهبي، أصيبت الدولة بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاتها شيئًا فشيئًا، على الرغم من أنها عرفت فترات من الانتعاش والإصلاح إلا أنها لم تكن كافية لإعادتها إلى وضعها السابق.

وانتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية بتاريخ 1نوفمبر سنة 1922م، وأزيلت بوصفها دولة قائمة بحكم القانون في 24 يوليو سنة 1923م، بعد توقيعها على معاهدة لوزان، وزالت نهائيًا في 29 أكتوبر من نفس السنة عند قيام الجمهورية التركية، التي تعتبر حاليًا الوريث الشرعي للدولة العثمانية. [2]

المبحث الثاني

النظم الاجتماعية والاقتصادية وتطورهما في العهد العثماني

إن المتتبع لسياسة الادارة العثمانية قبل القرن التاسع عشر يجد أن آلية مهامها توفير الحماية وحفظ الامن وجمع الضرائب، فلا تملك من التقنيات ما يساعدها على تنفيذ فعاليات اخر. وكان دورها في الحياة الاجتماعية والاقتصادية دوراً رقابياً وتنظيمياً الى حد ما، كالرقابة على أصحاب الحرف وأعمال البناء وتنظيم المؤسسات الخيرية والأوقاف.

ونتيجة للظروف السياسية والعسكرية والإدارية التي مرت بهاد الدولة العثمانية في بداية القرن التاسع عشر، والتي أدت الى حال من التدهور والتفكك، فقد انبرى رجالها المثقفين لوضع ديباجة لعملية تنظيم مركزي تشمل كافة المجالات الادارية والمدنية والعسكرية لإنقاذ كيان الدولة من الاضمحلال، فنجحت الدولة في إزالة الاداريين المتسلطين واستحدثت عدداً من المجالس المكلفة بتطبيق الاصلاحات التي نادى بها السلطان محمود الثاني، وهذه المجالس هي نوع من الأجهزة التشريعية، مهمتها مناقشة أمور الدولة وإصدار القرارات بشأنها، فالأمور القضائية يتولاها “المجلس الأعلى للأحكام العدلية” والأمور الادارية يتولاها “مجلس شورى الباب العالي”، والأمور العسكرية يتولاها “مجلس الشورى العسكري” كما اقيمت عدة مجالس مختلفة للنظر في شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والاشغال العامة، وبذلك تخلت الدولة عن مؤسساتها القديمة لتقيم بدلاً منها مؤسسات أخرى حديثة.

وليس من الممكن للإصلاحات التي تحققت في عهد السلطان محمود الثاني أو تنقذ الامبراطورية من وضعها المتهرء، وهذه الحقيقة جعلت رواد الإصلاح يستمرون بدعواتهم الاصلاحية، حيث استطاع مصطفى رشيد باشا أن يستصدر الفرمان السلطاني (خط كلخانة) الذي تلاه السلطان عبد المجيد في قصر (طوب قابو)، وتضمن بعض المبادئ كصيانة أرواح وأموال وأعراض الناس، وحضر المصادرات، وعدالة الضرائب والنص بتحديد مدة الجندية.

كما صدرت مجموعة من اللوائح التنظيمية التي جاءت بخطط جديدة لتقسيم العمل في إدارة الولايات، وأكدت على زيادة تأثير المركز ورقابته ليتجه نحو الحكم المطلق، مما اتاح الفرصة لظهور تسلسل وظيفي محدود ومسؤوليات معينة بين الإداريين وإنشاء الهيئات المخولة بالإدارة والرقابة بشكل مستمر على كافة التوصيات والأعمال التي تنجزها الهيئات الأقل، وتطبق الرقابة في إطار نظام إدارة الولايات الذي أخذ طابع المركزية وإزالة الحكم الاستبدادي المطلق للباشا.

وقد صدرت كثير من القوانين لإصلاح شؤون الحياة في معظم الاصعدة، وايجاد نظاماً إدارياً يسمح للدولة بالسيطرة على المزارعين لتحقيق أقصى مايمكن تحقيقه من الإيرادات بعد فرض الضرائب على الزراعة والتجارة الخارجية في أعقاب التغلغل الأوربي في الاقتصاد العثماني.

ومما تجدر الاشارة آلية إلى أن حركة الإصلاح قد شهدت في أواخر عهد السلطان محمود الثاني تقدما ملحوظا عندما أقيمت في اواخر عام 1837م عدة مجالس مختلفة للنظر في شؤون الزراعة والتجارة والصناعة والاشغال العامة، كما تم تشكيل لجنة دائمة تخطط للإصلاح تخطيطاً شاملاً، إلا أن ذلك كله لم ينعكس على الإدارة الحكومية ومؤسساتها إلا قليلاً، فقد ظلت الإدارة في عهده على حالها تقريباً دون تغيير أو تقدم ملموس ولم تنفع لإصلاحها تلك المركزية التي اتبعها السلطان كانت أمراً غير عملي عند التطبيق وخاصة في الايالات البعيدة كإيالة بغداد، إذ بقيت على حالها من دون تغيير كبير، لبعد العراق أولاً، ولعدم قدرة الوالي علي رضا في ادارة الايالة الذي اتصف بالتبذير والافراط في صرف الاموال الحكومية في غير اوجهها الصحيحة، وعمل على إبقاء نظام الالتزام في جباية واردات الدولة، فقد وصفه عباس العزاوي بانه: (اضر على العراق من ادارة المماليك)، الا ان الخطوة الوحيدة التي اخطاها في مجال تطبيق الاصلاحات، هي ادخال نظام المختارين.

وقبل الانتقال الى عهد التنظيمات لابد من الإشارة إلى أن الإصلاحات التي قام بها السلطان محمود الثاني كانت الباعث الأساسي لإصدار البرامج الإصلاحية التي خطها رجال الدولة والتي أقرها السلاطين فيما بعد حتى أوائل القرن العشرين.

وبتولي السلطان عبد المجيد الصغير السن انذاك (1255-1278هـ) وتعيين مصطفى رشيد باشا كناظر للشؤون الخارجية للبلاد العثمانية، حتى بدأت الحركة الاصلاحية الثانية التي كانت بداية لما عرف بـ(عهد التنظيمات) الذي بدأ بإعلان السلطان للمرسوم الاصلاحي خط (شريف كولخانة) سنة (1255هـ/ 1839م) وخط همايون (1273هـ/ 1856م)، حتى إعلان الدستور العثماني الذي عرف بـ(القانون الاساسي) سنة (1293هـ/ 1876م).

وهكذا فقد طرأت على الإدارة العثمانية في عهد التنظيمات تغيرات نتيجة للإصلاحات التي قام بها السلاطين عندما وجدوا أن حال الدولة يحتاج الى تنظيم متكامل والاتجاه نحو عملية تقنين جديدة تستلهم النظام الأوروبي في كافة الميادين.

ولابد من الإشارة أن حركة الاصلاح في عهد التنظيمات قد تميزت عما كانت عليه قبل ذلك العهد بأمور عدة أهمها:

أولاً: أن حركة الاصلاح منذ ظهورها وحتى وفاة السلطان محمود الثاني كان يتبناها سلاطين الدولة، ثم تبناها بعض من رجال الدولة وكان أبرز اولئك المصلحين مصطفى رشيد باشا ومدحت باشا.

ثانياً: أن غالبية القوانين والأنظمة التي صدرت في عهد التنظيمات قد استلهمت من القوانين والأنظمة الاوربية مع التوفيق بينها وبين نصوص الشريعة الإسلامية وخاصة الأنظمة الخاصة بالإدارة البلدية كنظام الطرق والأبنية ونظام الخبازة.

كما وأن تبني أنظمة وقوانين عهد التنظيمات لنظام الحكم والإدارة المركزية والمغالاة في تطبيقها أدى إلى ظهور الارتباك والفوضى في حكم الولايات وخاصة في مجال تنفيذ المشاريع الخدمية.

والملاحظ أن الباشا مصطفى رشيد قد تأثر بأسلوب الحكم الدستوري البريطاني عندما كان سفيراً هناك، فعقد العزم على الارتقاء بالدولة العثمانية من خلال فرمان التنظيمات الذي أكد فيه على ضمان حقوق المواطنة بالمفهوم العصري والتخلص من مساوئ الإدارة وإقامة نظام اجتماعي قادر على تحقيق المساواة بين المسلمين وغيرهم من رعايا الدولة العثمانية في الحقوق الشخصية.

وقد استلزم هذا الأمر القيام بإجراء تغيير في إدارة المدن وأجهزة الخدمات، فكان الأمل الذي يراود مصطفى رشيد باشا وهو لا يزال في سفارة لندن كان يعبر عنه عند حديثه في تحويل المباني الخشبية الى مباني حجرية وأن تعمر المدن ويعم أطرافها الضوء والنظافة. فتشكلت على أثر صدور مرسوم كولخانة مجالس في الولايات والالوية وكانت تضم أعضاء منتخبين لمعاونة أهالي المنطقة وممثلي الإدارة المركزية الذين يقومون بإدارة الإعمال في مجال الصحة والأشغال العمومية مما يضفي معه قدر من اللامركزية على الإدارة العثمانية. [3]

المبحث الثالث

طبيعة النظام السياسي والإداري والعسكري في العهد العثماني

اعتمد العثمانيون على جهاز إداري مركزي ومحلي على النحو الآتي:

أ – الجهاز الإداري المركزي:

تشكلت الإدارة المركزية من العناصر الآتية:

1. الباب العالي: وهو أعلى سلطة، تتجسد في قوة السلطان المستمدة من قوة جيشه، وهذا اللقب كان يطلق على الحكومة العثمانية، ويعني في الأصل “قصر السلطان”، وقد لقب السلطان العثماني بعدة ألقاب (البرين) و(البحرين) حامياً الحرمين الشريفين، وكانت له سلطة مطلقة باستثناء الأمور الإسلامية.

2. الصدر الأعظم: أعلى منصب بعد السلطان، وهو رئيس الوزراء، ورئيس الديوان، يعين الجيش وجميع المناصب الإدارية المركزية أو الإقليمية.

3. الدفتر دار: المكلف بالشؤون المالية وحساب مواردها ومصاريفها، وهو يلي الصدر الأعظم، يتمتع بحق تقديم العرائض المالية للسلطان.

4. الكاهية باشا: الموظف العسكري الذي يتكلف بتسيير الشؤون العسكرية للإمبراطورية.

5. الشاوس باشا: موظف ينفذ الأحكام القضائية التي يصدرها القضاة.

6. رئيس الكتاب: هو كاتب السلطان مهمته جمع القوانين.

7. مجلس الديوان: يشرف على تسيير الشؤون العامة للدولة، وهو أهم مجلس يقدم اقتراحات للسلطان أو للصدر الأعظم.

8. شيخ الإسلام: إصلاح الفتاوى الشرعية.

كان للانتماء المجالي تأثير كبير على وضعية ومكانة صاحب منصب ما، ويتمثل ذلك في تراتبية أجهزة الدولة العثمانية، وفيما يخص بروتوكول الاستقبال، فقاضي الرميلي كان أقرب وأعلى مكانة للسلطان من قاضي أناضول، هذان القاضيان أول من يدخل على السلطان، يليهما الوزير الأعظم والثاني والثالث ثم رئيس الكتاب ورئيس بيت المال، ولا يرى غيرهم.

ب – الجهاز الإداري المحلي في الإمبراطورية العثمانية:

كانت الدولة العثمانية تنقسم إلى مقاطعات (سناجق)، وعلى رأس كل مقاطعة وال (سنجق بك) له اختصاصات عسكرية وإدارية يساعده ديوان وصوباشي (ضابط أمن بصفة أساسية)، وبعد اتساع أطراف الإمبراطورية أصبحت تضم ألوية جديدة كان من الصعب ربطها بالعاصمة، فاضطرت الدولة إلى ضم عدد منها في ولاية واحدة، وعين على كل رأس ولاية أمير أمراء الألوية (بكلر بك).

ج – العناصر المكونة للجهاز العسكري في الدولة العثمانية :

كانت عناصر الإنكشارية تتلقى تربية إسلامية، وكان هناك قانون داخلي نظم علاقات هذه العناصر مع بعضها البعض، ومنع الزواج طيلة مدة الخدمة العسكرية، وفرض عليها الطاعة المطلقة، مما جعل عناصر هذا الجيش تفقد روابطها الأصلية دون أن تستطيع اكتساب روابط جديدة، مما أحيا لديها روح الجماعة المهنية، وروح الولاء لعرش السلطان، وأصبحت الإنكشارية من أهم الفيالق العسكرية التي تسترد إليها الدولة، وقد أبان هذا الجيش في مرحلة قوة الدولة العثمانية عن انضباط كبير وقوة دفاعية أكسبتها هيبة كبيرة في الداخل والخارج، ومن وظائف السباهية أنهم كانوا يشكلون ما يسمى بالتيمار العسكري، وهو نظام يمكن جيش السباهية (الخيالة) من إدارة الأراضي الزراعية (التيمارات) التي تسلم لهم مقابل خدماتهم في الجيش، ويقومون أيضاً بجمع الضرائب من الفلاحين، ولا يتلقون أجورهم من الخزينة العثمانية، فالجيش كان يقوم بأدوار تتمثل في المحافظة على الأرض والاستقرار وقمع الثورات.

د – التجهيزات والمعدات العسكرية العثمانية:

استخدم الجيش العثماني السلاح الناري منذ ظهوره وانتصرت فرقته المدفعية، كما انتصر بقوته العسكرية، إلا أنه تلقى هزيمة من طرف البنادقة في غاليبولي سنة 1416م، الشيء الذي حملهم على التفكير في إنشاء أسطول بحري، وتجهيزه من أجل حماية شواطئهم وفرض سيادتهم في البحر الأسود والبحر المتوسط، ومواجهة القرصنة، ودعم حركة الجهاد البحري ضد المسيحيين. [4]

 


[1] انظر: تطور الفكر الاجتماعي، موقع ثابت لطلاب وطالبات علم الاجتماع، الاطلاع على في تاريخ 1/ 7/ 14366هـ.

[2] انظر: الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)، الاطلاع على الموقع في تاريخ 1/ 7/ 1436هـ على رابط: http:/ / www.google.com.sa/ url?sa

[3] انظر: الإصلاحات العثمانية، عبدالعظيم نصار، منشور في شبكة الانترنت، والاطـلاع على الموقع في تاريخ 1/ 7/ 14366هـ

[4] انظر: التطورات الاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي، محمد الزهاري، منشورة في شبكة الانترنت، والاطـلاع على الموقع في تاريخ 11/ 7/ 1436هـ

 

(موقع الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى